في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون

هذه السورة تتناول قطاعا حقيقيا من حياة الجماعة المسلمة ، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى ، إلى ما قبل صلح الحديبية ، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويرا واقعيا مباشرا . وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة ، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشىء .

والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبيا ؛ ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزا محدودا ، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير . أصل العقيدة في الله والاستسلام لقدره . ذلك كافتتاح السورة : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ، إن الله كان عليما حكيما . واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا . ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه . . . ) . . وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا . وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعد للكافرين عذابا أليما ) . . والتعقيب على موقف المرجفين " يوم الأحزاب " التي سميت السورة باسمها . ( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ، وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ? ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . . ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة ، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) . . وأخيرا ذلك الإيقاع الهائل العميق : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا ) . .

ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة ، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة ؛ ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة . كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وللنظام الإسلامي .

والسورة تتولى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة ، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة ؛ وبيان أصولها من العقيدة والتشريع ؛ كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها ؛ وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد .

وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب ، وغزوة بني قريظة ، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما ، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة ، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف . كما تعرض بعدها دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم .

ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث ، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود ؛ وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة . سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة ؛ أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية . . ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية ؛ وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة .

ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة ، وتماسك سياقها ، وتساوق موضوعاتها المنوعة . وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة .

تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تقوى الله وعدم الطاعة للكافرينوالمنافقين ، واتباع ما يوحي إليه ربه ، والتوكل عليه وحده . وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته . ونظمه وأوضاعه ، وآدابه وأخلاقه . . أصل استشعار القلب لجلال الله ، والاستسلام المطلق لإرادته ؛ واتباع المنهج الذي اختاره ، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته .

وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية . مبتدئا بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . . يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد ، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد ، وإلا نافق ، واضطربت خطاه . وما دام لا يملك إلا قلبا واحدا ، فلا بد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجا واحدا ؛ وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات .

ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار - وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه فتحرم عليه حرمة أمه : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . ويقرر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ولا ينشئ حقيقة وراءه ، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أما بهذا الكلام . . ويثني بإبطال عادة التبني وآثاره : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم )فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون ، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى [ التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد ] . ويستبقي بعد ذلك أو ينشىء الولاية العامة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المؤمنين جميعا ؛ ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم ؛ كما ينشيء صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وجميع المؤمنين : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) . . ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة ؛ ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية .

ويعقب على هذا التنظيم الجديد ، الذي يستمد من منهج الإسلام وحكم الله ؛ بالإشارة إلى أن ذلك مسطور في كتاب الله القديم ، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيين ، وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة . على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات ، والمبادئ ، والتوجيهات ، لتقر في الضمائر والأخلاد .

وهذا هو إجمال الشوط الأول في السورة .

ويتناول الشوط الثاني بيان نعمة الله على المؤمنين ، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين . ثم يأخذ في تصوير وقعتي الأحزاب وبني قريظة تصويرا حيا ، في مشاهد متعاقبة ، ترسم المشاعر الباطنة ، والحركات الظاهرة ، والحوار بين الجماعات والأفراد . وفي خلال رسم المعركة وتطوراتها تجيء التوجيهات في موضعها المناسب ؛ وتجيء التعقيبات على الأحداث مقررة للمنهج القرآني في إنشاء القيم الثابتة التي يقررها للحياة ، من خلال ما وقع فعلا ، وما جاش في الأخلاد والضمائر .

وطريقة القرآن الدائمة في مثل هذه الوقائع التي يتخذ منها وسيلة لبناء النفوس ، وتقرير القيم ، ووضعالموازين وإنشاء التصورات التي يريد لها أن تسود . . طريقة القرآن في مثل هذه الوقائع أن يرسم الحركة التي وقعت ، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة ، ويسلط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها . ثم يقول للمؤمنين حكمه على ما وقع ، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف ، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة ، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف ، وتنمية الصواب والاستقامة . وربط هذا كله بقدر الله وإرادته وعمله ونهجه المستقيم ، وبفطرة النفس ، ونواميس الوجود .

وهكذا نجد وصف المعركة يبدأ بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ) . . ويتوسطها قوله . ( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة . ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . . وبقوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) . . ويختمها بقوله : ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ) . .

وهذا إلى جانب عرض تصورات المؤمنين الصادقين للموقف ، وتصورات المنافقين والذين في قلوبهم مرض عرضا يكشف عن القيم الصحيحة والزائفة من خلال تلك التصورات : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) . . ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . . ثم تجيء العاقبة بالقول الفصل والخبر اليقين : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) . .

بعد ذلك يجيء قرار تخيير أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللواتي طالبنه بالتوسعة في النفقة عليهن بعدما وسع الله عليه وعلى المسلمين من فيء بني قريظة العظيم وما قبله من الغنائم . تخييرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة . وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ورضين هذا المقام الكريم عند الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وآثرنه على متاع الحياة . ومن ثم جاءهن البيان عن جزائهن المضاعف في الأجر إن اتقين وفي العذاب إن ارتكبن فاحشة مبينة . وعلل هذه المضاعفة بمقامهن الكريم وصلتهن برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ونزول القرآن في بيوتهن وتلاوته ، والحكمة التي يسمعنها من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] واستطرد في بيان جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات .

وكان هذا هو الشوط الثالث .

فأما الشوط الرابع فتناول إشارة غير صريحة إلى موضوع تزويج زينب بنت جحش القرشية الهاشمية بنت عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زيد بن حارثة مولاه . وما نزل في شأنه أولا من رد أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى الله ، ليس لهم منه شيء ، وليس لهم في أنفسهم خيرة . إنما هي إرادة الله وقدره الذي يسير كل شيء ، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) . .

ثم يعقب حادث الزواج حادث الطلاق ؛ وما وراءه من إبطال آثار التبني ، الذي سبق الكلام عليه في أولالسورة . إبطاله بسابقة عملية ؛ يختار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه ، لشدة عمق هذه العادة في البيئة العربية ، وصعوبة الخروج عليها . فيقع الابتلاء على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحملها فيما يحمل من أعباء الدعوة وتقرير أصولها في واقع المجتمع ، بعد تقريرها في أعماق الضمير : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا ) . .

وبهذه المناسبة يوضح حقيقة العلاقة بين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين كافة : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) . .

ويختم هذا الشوط بتوجيهات للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه من المؤمنين . . ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) . .

ويبدأ الشوط الخامس ببيان حكم المطلقات قبل الدخول . ثم يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيبين من يحل له من النساء المؤمنات ومن يحرمن عليه . ويستطرد إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي وزوجاته ، في حياته وبعد وفاته وتقرير احتجابهن إلا على آبائهن أو أبنائهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن . وإلى بيان جزاء الذين يؤذون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أزواجه وبيوته وشعوره ؛ ويلعنهم في الدنيا والآخرة . مما يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا .

ويعقب على هذا بأمر أزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين كافة أن يدنين عليهن من جلابيبهن ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) . . وبتهديد المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة بإغراء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بهم وإخراجهم من المدينة كما خرج من قبل بنو قينقاع وبنو النضير ، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة أخيرا . وكل هذا يشير إلى شدة إيذاء هذه المجموعة للمجتمع الإسلامي في المدينة بوسائل شريرة خبيثة .

والشوط السادس والأخير في السورة يتضمن سؤال الناس عن الساعة ، والإجابة على هذا التساؤل بأن علم الساعة عند الله ، والتلويح بأنها قد تكون قريبا . ويتبع هذا مشهد من مشاهد القيامة : ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) . . ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم : ( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) . .

ثم تختم السورة بإيقاع هائل عميق الدلالة والتأثير : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات . وكان الله غفورا رحيما ) . .

وهو إيقاع يكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشرية ، وعلى عاتق الجماعة المسلمة بصفة خاصة ؛ وهي التي تنهض وحدها بعبء هذه الأمانة الكبرى . أمانة العقيدة والاستقامة عليها . والدعوة والصبر على تكاليفها ، والشريعة والقيام على تنفيذها في أنفسهم وفي الأرض من حولهم . مما يتمشى مع موضوع السورة ، وجوها ؛ وطبيعة المنهج الإلهي الذي تتولى السورة تنظيم المجتمع الإسلامي على أساسه .

والآن نتناول السورة بالتفصيل بعد هذا الإجمال السريع .

1

ومن ثم كان التوجيه الأول في السورة التي تتولى تنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين بتشريعات وأوضاع جديدة ، هو التوجيه إلى تقوى الله . وكان القول موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم القائم على تلك التشريعات والتنظيمات . . ( يا أيها النبي اتق الله ) . . فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى ، وهي الحارس القائم في أعماق الضمير على التشريع والتنفيذ . وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه .

وكان التوجيه الثاني هو النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ، واتباع توجيههم أو اقتراحهم ، والاستماع إلى رأيهم أو تحريضهم : ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) . . وتقديم هذا النهي على الأمر باتباع وحي الله يوحي بأن ضغط الكافرين والمنافقين في المدينة وما حولها كان في ذلك الوقت عنيفا ، فاقتضى هذا النهي عن اتباع آرائهم وتوجيهاتهم ، والخضوع لدفعهم وضغطهم . ثم يبقى ذلك النهي قائما في كل بيئة وكل زمان ، يحذر المؤمنين أن يتبعوا آراء الكافرين والمنافقين إطلاقا ، وفي أمر العقيدة وأمر التشريع وأمر التنظيم الاجتماعي بصفة خاصة . ليبقى منهجهم خالصا لله ، غير مشوب بتوجيه من سواه .

ولا ينخدع أحد بما يكون عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة - كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف - فإن الله هو العليم الحكيم ؛ وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته : ( إن الله كان عليما حكيما ) . . وما عند البشر إلا قشور ، وإلا قليل !

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الأحزاب وهي مدنية

{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }

أي : يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة ، واختصه بوحيه ، وفضله على سائر الخلق ، اشكر نعمة ربك عليك ، باستعمال تقواه ، التي أنت أولى بها من غيرك ، والتي يجب عليك منها ، أعظم من سواك ، فامتثل أوامره ونواهيه ، وبلغ رسالاته ، وأدِّ إلى عباده وحيه ، وابذل النصيحة للخلق .

ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد ، ولا يردك عنه راد ، فلا تطع كل كافر ، قد أظهر العداوة للّه ورسوله ، ولا منافق ، قد استبطن التكذيب والكفر ، وأظهر ضده .

فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة ، فلا تطعهم في بعض الأمور ، التي تنقض التقوى ، وتناقضها ، ولا تتبع أهواءهم ، فيضلوك عن الصواب .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (1)

مقدمة السورة:

مدنية في قول جميعهم . نزلت في المنافقين وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعنهم فيه وفي مناكحته وغيرها . وهي ثلاث وسبعون آية . وكانت هذه السورة تعدل سورة البقرة . وكانت فيها آية الرجم : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) . ذكره أبو بكر الأنباري عن أبي بن كعب . وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا ، وأن آية الرجم رفع لفظها . وقد حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية ، فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن . قال أبو بكر : فمعنى هذا من قول أم المؤمنين عائشة : أن الله تعالى رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا .

قلت : هذا وجه من وجوه النسخ ، وقد تقدم في " البقرة " {[1]} القول فيه مستوفى والحمد لله . وروى زر قال : قال لي أبي بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قلت ثلاثا وسبعين آية ، قال : فوالذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم . أراد أبي أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن . وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة ، فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض .

قوله تعالى : " يا أيها النبي اتق الله " ضمت " أي " لأنه نداء مفرد ، والتنبيه لازم لها . و " النبي " نعت لأي عند النحويين ، إلا الأخفش فإنه يقول : إنه صلة لأي . مكي : ولا يعرف في كلام العرب اسم مفرد صلة لشيء . النحاس : وهو خطأ عند أكثر النحويين ؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة ، والاحتيال له فيما قال إنه لما كان نعتا لازما سمي صلة ، وهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها . ولا يجوز نصبه على الموضع عند أكثر النحويين . وأجازه المازني ، جعله كقولك : يا زيد الظريف ، بنصب " الظريف " على موضع زيد . مكي : وهذا نعت يستغنى عنه ، ونعت " أي " لا يستغنى عنه فلا يحسن نصبه على الموضع . وأيضا فإن نعت " أي " هو المنادى في المعنى فلا يحسن نصبه . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود : قريظة والنضير وبني قينقاع ، وقد تابعه{[12691]} ناس منهم على النفاق ، فكان يلين لهم جانبه ، ويكرم صغيرهم وكبيرهم ، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه ، وكان يسمع منهم ، فنزلت . وقيل : إنها نزلت فيما ذكر الواحدي والقشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو{[12692]} بن سفيان ، نزلوا المدينة على عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد أحد ، وقد أعطاهم النبّي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر ابن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة ، وقل إن لها شفاعة ومنعة{[12693]} لمن عبدها ، وندعك وربك . فشق على النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا . فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي في قتلهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني قد أعطيتهم الأمان ) فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة ، فنزلت الآية . " يا أيها النبي اتق الله " أي خف الله . " ولا تطع الكافرين " من أهل مكة ، يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة . " والمنافقين " من أهل المدينة ، يعني عبد الله بن أبي وطعمة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فيما نهيت عنه ، ولا تمل إليهم . " إن الله كان عليما " بكفرهم " حكيما " فيما يفعل بهم . الزمخشري : وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم ، وقام معهم عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفض ذكر آلهتنا . وذكر الخبر بمعنى ما تقدم . وأن الآية نزلت في نقض العهد ونبذ الموادعة . " ولا تطع الكافرين " من أهل مكة . " والمنافقين " من أهل المدينة فيما طلبوا إليك . وروي أن أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم ، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته ، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع ، فنزلت . النحاس : ودل بقوله " إن الله كان عليما حكيما " على أنه كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام ، أي لو علم الله عز وجل أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه ؛ لأنه حكيم . ثم قيل : الخطاب له ولأمته .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[12691]:في ج و ك: " بايعه".
[12692]:في الأصول: "عمر".
[12693]:في أسباب النزول: " ومنفعة".
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأحزاب{[1]}

مقصودها الحث على الصدق في الإخلاص في التوجه إلى الخالق من [ غير {[2]} ] مراعاة بوجه ما للخلائق{[3]} ، لأنه عليم بما يصلحهم ، حكيم فيما يفعله ، فهو يعلى من يشاء وإن كان ضعيفا ، ويردي من يريد وإن كان قويا ، فلا يهتمن{[4]} الماضي {[5]}لأمره برجاء{[6]} لأحد منهم في بره ، ولا خوف منه في عظيم شره وخفي مكره ، واسمها واضح في ذلك بتأمل القصة التي أشار إليها ودل عليها { بسم الله } الذي مهما أراد كان { الرحمن } الذي سرت رحمته خلال الوجود ، فشملت كل موجود ، بالكرم والجود { الرحيم } لمن توكل عليه بالعطف إليه .

لما{[7]} ختمت التي قبلها بالإعراض عن الكافرين ، وانتظار{[8]} ما يحكم به فيهم رب العالمين ، بعد تحقيق أن تنزيل{[9]} الكتاب من عند المدبر لهذا الخلق كله ، والنهي عن الشك في لقائه ، افتتح هذه بالأمر بأساس ذلك ، والنهي عن طاعة المخالفين مجاهرين كانوا أو مساترين ، والأمر باتباع الوحي الذي أعظمه الكتاب تنبيها على أن الإعراض إنما يكون طاعة لله مع مراعاة تقواه فقال : { يا أيها النبي } .

فقال : { يا أيها النبي } عبر بأداة التوسط إيماء إلى أن وقت نزول السورة - وهو آخر سنة خمس ، غب وقعة الأحزاب - أوسط{[54936]} مدة ما بعد الهجرة إلاحة إلى أنه لم يبق من أحد كمال النصرة التي اقتضاها وصف النبوة الدال على الرفعة إلا القليل وعبر به لاقتضاء مقصود السورة مقام النبوة الذي هو بين الرب وعبده في تقريبه{[54937]} وإعلائه إلى جنابه إذا قرئ بغير همز ، وإن قرئ به كان اللحظ إلى إنبائه بالخفي وتفصيله للجلي ، وقال الحرالي في كتاب له في أصول الدين : حقيقة النبوة ورود{[54938]} غيب ظاهر أي من الحق بالوحي لخاص من الخلق ، خفي عن العامة منهم ، ثم قد يختص مقصد ذلك الوارد المقيم لذلك الواحد بذاته ، فيكون نبياً غير رسول{[54939]} ، وقد يرد عليه عند تمام أمره في ذاته موارد إقامة غيره فيصير رسولاً . والرتبة الأولى كثيرة الوقوع في الخلق ، وهي النبوة ، والثانية قليلة الوقوع ، فالرسل{[54940]} معشار معشار الأنبياء ، وللنبوة اشتقاقان : أحدهما من{[54941]} النبأ وهو الخبر ، وذلك لمن اصطفي من البشر لرتبة السماع والإنباء فنبئ{[54942]} ونبأ غيره من غير أن يكون عنده حقيقة ما نبيء{[54943]} به ولا ما نبأ فيكون حامل علم{[54944]} ، والاشتقاق الثاني من النبوة وهي{[54945]} الارتفاع والعلو ، وذلك لمن أعلى عن رتبة النبأ إلى رتبة العلم . فكان مطلعاً{[54946]} على علم ما ورد عليه من الغيب على حقيقته وكماله ، فمن علا عن الحظ المتنزل العقلي إلى رتبة سماع ، كان نبيئاً بالهمز{[54947]} ، ومن علا عن ذلك إلى رتبة علم بحقيقة ذلك كان نبياً غير مهموز ، فآدم عليه السلام مثلاً في علم الأسماء نبي بغير همز ، وفي ما وراءه نبيء بهمز ، وكذلك إبراهيم عليه السلام فيما أرى من الملكوت نبي غير مهموز ، وفيما وراءه نبئ بهمز{[54948]} - انتهى - ولم يناده سبحانه باسمه تشريفاً لقدره ، وإعلاء لمحله ، وحيث سماه باسمه في الأخبار فللتشريف من جهة أخرى ، وهي تعيينه وتخصيصه إزالة للبس عنه ، وقطعاً لشبه التعنت .

ولما ناداه سبحانه بهذا الاسم الشريف المقتضي للانبساط ، أمره بالخوف فقال : { اتق الله } أي زد من التقوى يا أعلى الخلائق بمقدار ما تقدر عليه لذي الجلال كله والإكرام ، لئلا تلتفت{[54949]} إلى شيء سواه ، فإنه أهل لأن يرهب لما له من خلال{[54950]} الجلال ، والعظمة والكمال .

ولما وجه إليه الأمر بخشية الولي الودود ، أتبعه النهي عن الالتفات نحو{[54951]} العدو والحسود . فقال : { ولا تطع الكافرين } أي الممانعين { والمنافقين } أي المصانعين في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك الخالق فيه بأمر وإن لاح لائح خوف أو برق بارق رجاء ، ولا سيما سؤالنا في شيء مما{[54952]} يقترحونه رجاء إيمانهم مثل أن تعين لهم وقت الساعة التي يكون فيها الفتح ، فإنهم إنما يطلبون ذلك استهزاء ، قال أبو حيان{[54953]} : وسبب نزولها أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود ، فتابعه{[54954]} ناس منهم على النفاق ، وكان يلين لهم جانبه ، وكانوا يظهرون النصائح من{[54955]} طرق المخادعة{[54956]} ، فنزلت تحذيراً له منهم ، وتنبيهاً على عداوتهم - انتهى ثم علل {[54957]}الأمر والنهي{[54958]} بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم ، فقال ملوحاً إلى أن لهم أغواراً في مكرهم ربما{[54959]} خفيت عليه صلى الله عليه وسلم ، وأكد ترغيباً في الإقبال على معلوله بغاية الاهتمام : { إن الله } أي بعظيم كماله وعز جلاله { كان } أزلاً وأبداً { عليماً } شامل العلم { حكيماً } بالغ الحكمة فهو لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه ، وأحكم إصلاح الحال فيه .

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : افتتحها سبحانه بأمر نبيه باتقائه ، ونهيه عن الصغو{[54960]} إلى الكافرين والمنافقين ، واتباعه ما يوحي إليه ، تنزيهاً لقدره عن محنة من سبق له الامتحان ممن قدم ذكره في سورة السجدة ، وأمراً له بالتسليم لخالقه والتوكل عليه { و{[54961]} الله يقول الحق وهو يهدي السبيل } ولما تحصل من السورتين قبل ما تعقب العالم من الخوف أشده{[54962]} لغيبة العلم بالخواتم وما جرى في السورتين من الإشارة إلى السوابق{ ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها }[ السجدة : 13 ] كان {[54963]}ذلك مظنة{[54964]} لتأنيس نبي الله صلى الله عليه وسلم وصالحي أتباعه ، {[54965]}ولهذا{[54966]} أعقب سورة السجدة بهذه السورة المضمنة من التأنيس{[54967]} والبشارة ما يجري على المعهود من لطفه تعالى وسعة رحمته ، فافتتح سبحانه السورة بخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم بالتقوى ، وإعلامه بما قد{[54968]} أعطاه قبل من سلوك سبيل النجاة وإن ورد على طريقة الأمر ليشعره باستقامة سبيله ، وإيضاح دليله ، وخاطبه بلفظ النبوة لأنه أمر عقب تخويف وإنذار وإن كان عليه السلام قد نزه الله قدره على أن يكون منه خلاف التقوى ، وعصمه من{[54969]} كل ما ينافر نزاهة حاله وعلي منصبه ، ولكن طريقة خطابه تعالى للعباد أنه تعالى متى جرد ذكرهم للمدح من غير أمر ولا نهي فهو موضع ذكرهم بالأخص الأمدح من محمود صفاتهم ، ومنه{ محمد رسول الله والذين معه }[ الفتح : 29 ] - الآيات ، فذكره صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، ومهما كان الأمر والنهي ، عدل في الغالب إلى الأعم ، ومنه { يا أيها النبي اتق الله }{ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال }[ الأنفال : 65 ] { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء }[ الطلاق : 1 ] { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك }[ التحريم : 1 ] { {[54970]}يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين{[54971]} }[ التوبة : 73 ] { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات }[ الممتحنة : 12 ] وقد تبين في غير هذا ، وأن ما ورد على خلاف هذا القانون فلسبب خاص استدعى العدول عن المطرد كقوله :{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك }[ المائدة : 67 ] فوجه هذا أن قوله سبحانه { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } موقعه شديد ، فعودل{[54972]} بذكره صلى الله عليه وسلم باسم{[54973]} الرسالة لضرب{[54974]} من التلطف ، فهو{[54975]} من باب عفا الله عنك لم أذنت لهم }[ التوبة : 43 ] وفيه بعض غموض ، وأيضاً فإنه لما قيل له " بلغ " طابق هذا{[54976]} ذكره بالرسالة ، فإن المبلغ رسول ، والرسول مبلغ ، ولا يلزم النبي أن يبلغ إلا أن يرسل ، وأما قوله تعالى :{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر{[54977]} }[ المائدة : 41 ] فأمره وإن كان نهياً أوضح من الأول ، لأنه تسلية له عليه السلام وتأنيس وأمر بالصبر والرفق بنفسه ، فبابه راجع إلى ما يرد مدحاً مجرداً عن الطلب ، وعلى ما أشير إليه يخرج ما ورد من هذا . ولما افتتحت هذه السورة بما حاصله ما قدمناه{[54978]} من إعلامه عليه السلام من هذا الأمر بعلي حاله ومزية{[54979]} قدره ، ناسب ذلك ما احتوت عليه السورة من باب التنزيه في مواضع منها إعلامه تعالى بأن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين{[54980]} فنزهن عن أن يكون حكمهن حكم غيرهن من النساء مزية لهن وتخصيصاً وإجلالاً{[54981]} لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ومنها قوله تعالى : { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } - الآية ، فنزههم{[54982]} عن تطرق سوء أو دخول ارتياب على مصون معتقداتهم وجليل إيمانهم { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً } والآية بعد ذلك ، وهي قوله تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا } - الآية ، ومنها { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن } فنزههن سبحانه وبين شرفهن على من عداهن ، ومنها تنزيه أهل البيت وتكرمتهم { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } الآية ، ومنها الأمر بالحجاب { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } فنزه المؤمنات عن حالة الجاهلية من التبرج وعدم الحجاب ، وصانهن عن التبذل والامتهان ، ومنها قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى } فوصاهم جل وتعالى ونزههم بما نهاهم عنه أن يتشبهوا بمن استحق اللعن والغضب في سوء أدبهم وعظيم مرتكبهم ، إلى ما تضمنت{[54983]} السورة من هذا القبيل ، ثم أتبع سبحانه ما تقدم بالبشارة العامة واللطف الشامل كقوله تعالى : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } ثم قال تعالى : { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } - إلى قوله تعالى : { أجراً كريماً } وقوله تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي{[54984]} {[54985]}يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً{[54986]} } وقوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } - إلى قوله : { وأجراً عظيماً } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً } - إلى قوله : { عظيماً } وقوله تعالى : { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } إلى قوله : { وكان الله غفوراً{[54987]} رحيماً } وقوله تعالى مثنياً على المؤمنين بوفائهم وصدقهم { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله {[54988]}وصدق الله ورسوله{[54989]} } - إلى قوله : { وما بدلوا تبديلاً } وقوله{[54990]} سبحانه تعظيما لحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { إن الذين يؤذون الله ورسوله إلى قوله : { وإثماً مبيناً } وفي هذه الآيات من تأنيس المؤمنين وبشارتهم وتعظيم حرمتهم ما يكسر سورة الخوف الحاصل من سورتي لقمان والسجدة ويسكن روعهم{[54991]} تأنيساً لا رفعاً ، ومن هذا القبيل أيضاً ما تضمنت السورة من تعداد نعمه تعالى عليهم وتحسين{[54992]} خلاصهم كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم } - إلى قوله : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } وقوله تعالى : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال } إلى قوله : { وكان الله على كل شيء قديراً } وختم السورة بذكر التوبة والمغفرة أوضح شاهد لما تمهد من دليل قصدها وبيانها على ما وضح والحمد لله ولما كان حاصلها رحمة ولطفاً ونعمة ، لا يقدر عظيم قدرها ، وينقطع العالم دون الوفاء بشكرها ، أعقب بما ينبغي من الحمد يعني أول سبأ - انتهى .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[54936]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: أو وسط.
[54937]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: تقربه.
[54938]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: وورد.
[54939]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مرسول.
[54940]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فالراسل.
[54941]:زيد من ظ وم ومد.
[54942]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: قبى ـ كذا.
[54943]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: نبا.
[54944]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: ما لم.
[54945]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: هو.
[54946]:من م ومد، وفي الأصل وظ: مطلقا.
[54947]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالهمزة.
[54948]:زيد من ظ وم ومد.
[54949]:من مد، وفي الأصل وظ وم: لئلا يلتفت.
[54950]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: جلال، وقد مضى قبيل صفحات "جلال الجلال" فليصح هناك أيضا.
[54951]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: إلى.
[54952]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: ما.
[54953]:راجع البحر المحيط 7/210.
[54954]:في البحر: فبايعه.
[54955]:في البحر: في.
[54956]:زيد في البحر: ولحلفه وحرصه على ائتلافهم ربما كان يسمع منهم.
[54957]:في م ومد: النهي والأمر.
[54958]:في م ومد: النهي والأمر.
[54959]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بما.
[54960]:من مد ـ وهو الميل ـ وفي الأصل ظ وم: الصفو.
[54961]:زيد في الأصل: هو، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[54962]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: والشدة.
[54963]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مظنة ذلك.
[54964]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مظنة ذلك.
[54965]:في ظ ومد: فلهذا.
[54966]:في ظ ومد: فلهذا.
[54967]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: التأمين.
[54968]:زيد من ظ وم ومد.
[54969]:في ظ وم ومد: عن.
[54970]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.
[54971]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.
[54972]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فعول.
[54973]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بذكر.
[54974]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بضرب.
[54975]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فهو.
[54976]:زيد من ظ وم ومد.
[54977]:زيد من ظ وم ومد.
[54978]:زيد من ظ وم ومد.
[54979]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مزيد.
[54980]:من مد، وفي الأصل وظ وم: الممؤنين.
[54981]:زيد في الأصل: له، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[54982]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فنزههن.
[54983]:زيد في الأصل: إليه، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[54984]:موضع ما بين الرقمين في م ومد: الآية.
[54985]:موضع ما بين الرقمين في م ومد: الآية.
[54986]:موضع ما بين الرقمين في م ومد: الآية.
[54987]:زيد من م.
[54988]:سقط ما بين الرقمين من م ومد.
[54989]:سقط ما بين الرقمين من م ومد.
[54990]:زيد من ظ وم ومد.
[54991]:في ظ ومد: روعتهم.
[54992]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تحب من.