سورة الإنسان مكية وآياتها إحدى وثلاثون
في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية ، ولكنها مكية ؛ ومكيتها ظاهرة جدا ، في موضوعها وفي سياقها ، وفي سماتها كلها . لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها . بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي . . تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة ، وصور العذاب الغليظ ، كما يشي به توجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر لحكم ربه ، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور ؛ مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة ، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] على الحق الذي نزل عليه ، وعدم الميل إلى ما يدهنون به . . كما جاء في سورة القلم ، وفي سورة المزمل ، وفي سورة المدثر ، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة . . واحتمال أن هذه السورة مدنية - في نظرنا - هو احتمال ضعيف جدا ، يمكن عدم اعتباره !
والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة ، والالتجاء إلى الله ، وابتغاء رضاه ، وتذكر نعمته ، والإحساس بفضله ، واتقاء عذابه ، واليقظة لابتلائه ، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء . .
وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري : أين كان قبل أن يكون ? من الذي أوجده ? ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود ? بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? ) . .
تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته ، وحكمة الله في خلقه ، وتزويده بطاقاته ومداركه : ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) . .
ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق ، وعونه على الهدى ، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره : ( إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) . .
وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية ، وما تثيره في القلب من تفكير عميق ، ونظرة إلى الوراء . ثم نظرة إلى الأمام ، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق . . بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار . . وترغيبه في طريق الجنة ، بكل صور الترغيب ، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم : إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا . إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا . .
وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد : ( يوفون بالنذر ، ويخافون يوما كان شره مستطيرا ، ويطعمون الطعام - على حبه - مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ) . .
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف ، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير ، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام ، يبتغون وجه الله وحده ، لا يريدون شكورا من أحد ، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير !
تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين . فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد :
فوقاهم الله شر ذلك اليوم ، ولقاهم نضرة وسرورا ، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا . متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا . ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا . ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير ، قوارير من فضة قدروها تقديرا . ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ، عينا فيها تسمى سلسبيلا . ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا . وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا . عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا . إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا .
فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود اتجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لتثبيته على الدعوة - في وجه الإعراض والكفر والتكذيب - وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر ؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ) . .
ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه ؛ والذي يخافه الأبرار ويتقونه ، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله ، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة ، وهو قادر على الذهاب بهم ، والإتيان بقوم آخرين ؛ لولا تفضله عليهم بالبقاء ، لتمضي مشيئة الابتلاء . ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء : إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا . نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا . إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، إن الله كان عليما حكيما . يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما . .
تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة ، على أساس الابتلاء ، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء ، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء . فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير ، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره . غير واع ولا مدرك ، وهو مخلوق ليبتلى ، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء .
وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم . أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم ، وهو نعيم حسي في جملته ، ومعه القبول والتكريم ، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته ، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية ، شديدي التعلق بمتاع الحواس ، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم ، ويثير تطلعهم ورغبتهم . وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس ، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم . والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم ، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم . وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) . . والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال .
( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا . إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) . .
هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير ؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه : ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها ? ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئا من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة ، وسلطت عليه النور ، وجعلته شيئا مذكورا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ?
إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام . وهي إيحاءات رفيقة وعميقة تثير في النفس تأملات شتى :
واحدة منها تتجه بالنفس إلى ما قبل خلق الإنسان ووجوده ابتداء . يعيش فيها مع هذا الكون وقد خلا من الإنسان . . كيف تراه كان ? . . والإنسان مخلوق مغرور في نفسه وفي قيمته ، حتى لينسى أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال . ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى " الإنسان " . . حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان !
وواحدة منها تتجه إلى اللحظة التي انبثق فيها هذا الوجود الإنساني . وتضرب في تصورات شتى لهذه اللحظة التي لم يكن يعلمها إلا الله ؛ والتي أضافت إلى الكون هذه الخليقة الجديدة ، المقدر أمرها في حساب الله قبل أن تكون ! المحسوب دورها في خط هذا الكون الطويل !
وواحدة منها تتجه إلى تأمل يد القدرة وهي تدفع بهذا الكائن الجديد على مسرح الوجود ؛ وتعده لدوره ، وتعد له دوره ، وتربط خيوط حياته بمحور الوجود كله ؛ وتهيئ له الظروف التي تجعل بقاءه وأداء دوره ممكنا وميسورا ؛ وتتابعه بعد ذلك في كل خطوة ، ومعها الخيط الذي تشده به إليها مع سائر خيوط هذا الكون الكبير !
وإيحاءات كثيرة وتأملات شتى ، يطلقها هذا النص في الضمير . . ينتهي منها القلب إلى الشعور بالقصد والغاية والتقدير ، في المنشأ وفي الرحلة وفي المصير .
( سورة الإنسان مكية ، وقيل مدنية ، وآياتها 31 آية ، نزلت بعد سورة الرحمان )
وقد اختلف في مكيتها ومدنيتها ، وفي المصحف المتداول أنها مدنية ، ولكن آيات السورة وسياقها وموضوعاتها تحمل الطابع المكي ، وهي أقرب إلى أن تكون مكية .
والمكي من القرآن هو ما نزل بمكة قبل الهجرة ، والمدني هو ما نزل بالمدينة بعد الهجرة .
وهناك سور متفق على مكيتها ، وسور متفق على مدنيتها ، وسور مختلف فيها ، من العلماء من يرى أنها مدنية ، ومنهم من يرى أنها مكية ، ومن هذه السور سورة الإنسان .
وقد غلب على السور المكية الحديث عن الألوهية ، والتحذير من عبادة الأصنام ، والتذكير بالبعث والجزاء ، ولفظ الأنظار إلى مشاهد الكون ونواميسه ، وآيات الله في الآفاق ، ودلائل القدرة الإلهية في الخلق والنفس .
وغلب على السور المدنية وصف غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحالات المجتمع المدني ، والحديث عن المنافقين واليهود ، والعناية بتشريع الأحكام ، ونظام المجتمع ودعائم الحكم السليم .
والقرآن في مجمعه كتاب هداية ، ودعوة إلى القيم ومكارم الأخلاق ، وحث على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ودعوة إلى تهذيب النفس ، وحث على الفضيلة والاستقامة ، وتقوى الله ومراقبته .
وهذه المعاني التي نجدها في السور المكية والمدنية ، وفي السور المختلف في مكيتها ومدنيتها ، كسورة الإنسان .
ولا نملك نحن إلا أن نقول : سورة الإنسان سورة من القرآن الكريم يختلف الترجيح في مكيتها ومدنيتها ، ونرى أن أسلوبها أقرب إلى أسلوب القرآن المكي ، وبذلك تكون جميع سور جزء ( تبارك الذي بيده الملك ) مكية .
سورة الإنسان نداء رخي ندي للإنسان أن يتذكر أصله الذي خلق منه ، ويتذكر فضل الله عليه ، حيث خلقه بشرا سويا ، ويسر له طريق الخير والشر ، ليختار بإرادته وكسبه ، وعقله وطاقاته ومداركه .
وبذلك تذكر السورة أصل الخلق ، والمدارك والطاقات التي منحها الله للإنسان ، وميّزه بهذا على جميع المخلوقات ، حيث منحه الإرادة والاختيار ، والسمع والبصر ، ليسمع ويرى ويفكر ويتدبر ، ثم يختار بإرادته وكسبه ، وهذه ميزة خاصة بالإنسان وحده في هذا الكون .
فالملاك مطيع طاعة مطلقة ، والحيوان مزود بالإدراك دون الاختيار ، والكون كله مسخر بمشيئة الله ، وخاضع لنواميسه خضوع القهر والغلبة .
والإنسان زود بالعقل ليختار الطاعة لله أو المعصية ، وهذا هو أساس الابتلاء والاختبار ، فإن أطاع صار أهلا لرضوان الله وجنته ، وإن عصى صار أهلا لغضبه وناره .
وقد ذكرت السورة عذاب أهل النار في آية واحدة ، وهي الآية الرابعة ، واسترسلت في وصف نعيم أهل الجنة وثوابهم في الآيات من ( 5-22 ) ، أي في جزء كبير من السورة .
ثم يتجه الخطاب إلى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، لتثبيته على الدعوة ، وتوجيهه إلى الصبر ، وانتظار حكم الله في الأمر ، والاتصال بربه ، والاستمداد منه كلما طال الطريق ، وذلك في الآيات من ( 23 -26 ) .
وفي الجزء الأخير من السورة تذكير للكافرين باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه ، والذي يخافه الأبرار ويتقونه ، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله الذي خلقهم ، ومنحهم ما هم فيه من القوة ، وهو قادر على الذهاب بهم ، والإتيان بقوم آخرين ، لولا تفضله عليهم بالبقاء لتمضي مشيئة في الابتلاء ، ويلوح في ختام السورة بعاقبة الابتلاء ، وذلك في الآيات من ( 27 -31 ) .
1- قد أتى على هذا النوع- نوع الإنسان- زمن لم يكن موجودا ، حتى يعرف ويذكر .
والحين : طائفة من الزمان غير محدودة ، وعن ابن عباس وابن مسعود : أن الإنسان ههنا آدم ، والحين محدود ، وذلك أنه مكث أربعين سنة طينا ، إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئا مذكورا بعد كونه كالمنسيi .
2- إنا خلقنا الإنسان من نطفة ، اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة ، مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد ، إذا شبّ وبلغ الحلم ، فجعلناه سميعا بصيرا ، ليتمكن من استماع الآيات ، ومشاهدة الدلائل ، والتعقل والتفكر .
ومقصود الآية : نحن نعامل الإنسان معاملة المختبر له ، أيميل إلى أصله الأرضي فيكون حيوانا نباتيا معدنيا شهوانيا ، أم يكون إلهيا معتبرا بالسمع والبصر والفكر ؟
3- بيّن الله للإنسان الطريق السوي ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وهو بالخيار ، إما أن يكون شاكرا لنعماء الله ، فيسير في الطريق الواضح المرسوم ، وإما أن يكون كافرا فيعرض ويكفر ، ويختار الضلال على الهدى .
4- إنا هيأنا لمن كفروا بنعمتنا سلاسل للأقدام ، وأغلالا تشدّ بها أيديهم إلى أعناقهم ، كما يفعل بالمجرمين في الدنيا ، ونارا تتسعر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين .
ثم تصف الآيات بعد ذلك نعيم المتقين ، وصفا طويلا لم نجد مثله في سورة سابقة ، ويستمر هذا الوصف من الآية ( 5 ) إلى الآية ( 22 ) ، أي ( 18 ) آية من مجموع آيات السورة وهي ( 31 ) آية ، أي أن أكثر من نصف السورة يصف نعيم المتقين وحليّهم وملابسهم وخدمهم ، وما هم فيه من نعمة ورضوان وملك كبير .
ولنسر مع هذه الآيات التي تصف نعيم المتقين :
5 ، 6- إن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور ، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجّر لهم تفجيرا في كثرة ووفرة ، وينتفعون بها كما يشاءون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان ، يحبون وصولها إليه .
قال مجاهد : يقودونها حيث شاءوا ، وتتبعهم حيث مالواii .
7- كانوا يوفون بالنذر فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات وما التزموا من الواجبات ، أي أنهم يؤدون ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع ، وما أوجبوه على أنفسهم بالنذر .
وهم يستشعرون الخشية من يوم القيامة ، ذلك يوم شديد عذابه ، عظيم خطره ، كالنار يتطاير شررها فيعم شرها .
8- وكانوا يطعمون الطعام ، ويقدمون المعونة النافعة لكل مسكين عاجز عن الاكتساب ، ولكل يتيم مات كاسبه ، ولكل أسير لا يملك لنفسه قوة ولا حيلة .
9- وحين يقدمون الطعام والمعونة النافعة لكل مسكين عاجز عن الاكتساب ، ولكل يتيم مات كاسبه لا يترفعون على عباد الله ولا يشعرون بالاستعلاء والعظمة ، إنما يقدمون المعونة في إخلاص وتجرد لوجه الله ، ولا ينتظرون شكرا ولا إعلانا .
قال مجاهد وسعيد بن جبير : أما والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأثنى عليهم به ، ليرغب في ذلك راغبiii .
10- لقد أخرجوا الصدقة لوجه الله ، ولسان حالهم يقول : إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا ، ويتلقانا بلطفه في يوم عبوس ، تعبس فيه الوجوه ، قمطرير شديد العبوس .
قال النسفي : وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء ، نحو : نهارك صائم ، والقمطرير شديد العبوس ، الذي يجمع ما بين عينيه . iv .
11- فحفظهم الله من شر ذلك اليوم ، وكسا وجوههم نضرة ونضارة ، وتنعما وفرحا وسرورا .
12- وجزاهم بصبرهم على الإيثار والتزامهم بأمر الله جنة يسكنونها ، وحريرا يلبسونه .
ثم تصف الآيات مساكن أهل الجنة ، وشرابهم وأوانيه وسقاته ، وما تفضل به عليهم ربهم ، من فاخر اللباس والحلي ، وأصناف النعيم فتقول :
13- هم في جلسة مريحة مطمئنة ، الجو حولهم رخاء ناعم ، دافئ في غير حر ، ندى في غير برد ، فلا شمس تلهب النسائم ، ولا زمهرير وهو البرد القارس .
14- ظلال الجنة قريبة من الأبرار ، مظلة عليهم ، وقطوفها وثمارها قريبة دانية في متناول أيديهم ، ينالها القائم والقاعد والمتكئ .
15 ، 19- يطاف عليهم بآنية من فضة بيضاء ، في صفاء الزجاج ، فيرى ما في باطنها من ظاهرها ، مما لم تعهده الأرض في آنية الفضة ، وهي بأحجام مقدرة تقديرا ، يحقق المتاع والجمال ، ثم هي تمزج بالزنجبيل كما مزجت مرة بالكافور ، وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلا ، لشدة عذوبتها واستساغتها للشاربين ، وزيادة في المتاع فإن الذين يطوفون بهذه الآواني والأكواب هم غلمان صباح الوجوه ، لاي فعل فيهم الزمن ، ولا تدركهم السن ، فهم مخلدون في سن الصباحة والصبا والوضاءة ، وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور .
20- تجمل هذه الآية خطوط هذا النعيم ، وتلقى عليه نظرة كاملة فاحصة ، تلخص وقعه في القلب والنظر ، فإذا نظرت في الجنة رأيت نعيما عظيما ، وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف .
21- ثم تخصيص هذه الآية مظهرا من مظاهر النعيم والملك الكبير ، فتقول : إن لباس أهل الجنة السندس ، وهو الحرير الرقيق ، والاستبرق وهو الحرير السميك المبطن ، وقد حلوا أساور من فضة ، وتدرج نعيمهم في الارتقاء إلى مدارج الكمال ، حتى وصل إلى : وسقاهم ربهم . وأضاف السقي إلى ذاته الشريف والتخصيص . شرابا طهورا . مبالغة في طهارته ونظافته بخلاف خمر الدنيا ، فهو عطاء كريم من معط كريم ، وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم .
22- ثم ختم وعدهم بالود والتكريم ، فقال : إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا .
أي : يقال لهؤلاء الأبرار هذا القول ، زيادة في سرورهم : إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة ، كان ثوابا على أعمالكم الصالحة ، وكان عملكم في الدنيا مشكورا ، حمدكم عليه ربكم ورضيه لكم ، فأثابكم به من الكرامة .
وهذا النطق من الملأ الأعلى يعدل هذه المناعم كلها ، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها ، لأنها جزاء على عمل ، وثواب لإنسان اختار الهدى والطريق المستقيم والعمل الصالح ، فاستحق النعيم والتكريم .
23- وبعد أن بين الله سبحانه ما في الجنة من نعيم ، ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بنعمة الرسالة تسلية لفؤاده ، وحثا على الصبر والثبات ، فقال : إن نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا .
إن القرآن من عند الله تعالى ، أنزله منجما مفصلا في ثلاث وعشرين سنة ، ليكون أسهل لحفظه وتفهمه ودراسته ، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجدّ في الكون ، فتكون تثبيتا لإيمان المؤمنين وزيادة في تقوى المتقين .
24- اصبر على أن أمر الله واثبت على الحق ، ولا تتبع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم ، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر ، إن الأمور مرهونة بقدر الله ، وهو يمهل الباطل ويملي للشر ، كل أولئك لحكمة يعلمها يجرى بها قدره ، وينفذ بها حكمه ، فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا .
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن طاعة الآثم والكفور –وهو لا يطيع واحدا منهما- إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد ، لما ركب في طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيئات ، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم .
25 ، 26- ودم على ذكره في الصباح والمساء ، والخلوة والجلوة ، وصلّ بعض الليل كصلاتي المغرب والعشاء ، واسجد له بالليل وسبحه طويلا ، لأنه مصدر القوة والعناية ، وينبوع العون والهداية ، ومن وجد الله وجد كل شيء ، فالصلة به هي السعادة الكبرى ، والعناية العظمى ، والزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في طريق الحياة .
27- إن هؤلاء المشركين بالله يحبون الدنيا ، وتعجبهم زينتها ، وينهمكون في لذتها الفانية ، ويتركون اليوم الثقيل الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير ، بعد الحساب العسير .
والآية تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في مواجهة المشركين ، إلى جانب أنها تهديد ملفوف لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل .
28- يتلو ذلك التهديد التهوين من أمرهم عند الله ، الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس ، وهو قادر على الذهاب بهم ، فهم لا يعجزون الله بقوتهم ، وهو الذي خلقهم وأعطاهم إياها ، وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم ، فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته ، وهو قضاؤه وحكمته .
29- إن هذه السورة بما فيه من ترتيب بديع ، ونسق عجيب ، ووعد ووعيد ، وترغيب وترهيب في تذكرة وتبصرة لكل ذي عقل وبصيرة ، فمن شاء الخير والنجاة لنفسه في الدنيا والآخرة فليتقرب إلى ربه بالطاعة ، وليصدق بالقرآن الكريم والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فذلك هو الطريق إلى الله .
30- ويعقب على ذلك بإطلاق المشيئة ، ورد كل شيء إليها ليكون الاتجاه الأخير إليها ، والاستسلام الأخير لحكمها : وما تشاءون إلا أن يشاء الله . . .
أي : وما تشاءون اتخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة ، ولا تقدرون على تحصيلها ، إلا إذا وفقكم الله لاكتسابها ، وأعدكم لنيلها . ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار ، المتصرف القهار .
إن الله كان عليما . بما يصلح العباد . حكيما . وضع كل إنسان في موضعه من الهداية والضلال ، فهو يعيد المتقين على القيام بواجبهم ، ويسلب عونه عن المشركين ، فيتيهون في بيداء الضلال .
31- يدخل من يشاء في رحمته . . . فيهديه ويوفقه للطاعة بحسب استعداده . والظالمين أعد لهم عذابا أليما . وقد أملى لهم وأمهلهم ، لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم .
وهذا الختام يلتئم مع المطلع ، ويصور نهاية الابتلاء الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج ، ووهبه السمع والإبصار ، وهداه السبيل إما إلى الجنة وإما إلى النار .
اشتملت سورة الإنسان على خمسة مقاصد :
3- وصف النار وصفا قصيرا في آية واحدة ، ووصف الجنة وصفا مسهبا في قرابة ( 18 ) آية .
4- ذكر المنّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره بالصبر وقيام الليل .
5- المنّة على الخلق بإحكام خلقهم ، وإضافة كلية المشيئة إلى الله تعالى .
{ هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا 1 إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا 2 إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا 3 }
حين : وقت وزمان ، وقيل : طائفة محدودة من الزمان ، شاملة الكثير والقليل .
الدهر : الزمان الممتد غير المحدود ، ويقع على مدة العالم جميعها ، وعلى كل زمان طويل غير معين .
1- هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا .
قد أتى على الإنسان زمن طويل ، لم يكن موجودا في هذا الكون ، فقد كان في عالم العدم ، ثم خلق الله آدم بعد خلق الكون بستة بلايين سنة ، وكأن الحق سبحانه وتعالى خلق الكون في ستة أيام ، وقضى بأن يترك الكون هذه المدة في الخلق والوجود ، حتى يكون بعد هذه المدة صالحا لوجود الإنسان عليه ، حيث كانت السماء رتقاء لا تمطر ، والأرض بالتالي لا تنبت ، وعندما وجد الإنسان على ظهر الأرض ، وجد الماء ، وجعله الله سبب الحياة ، والنبات والرزق ، واستمرار الأحياء على ظهر الأرض .
قال تعالى : أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون . ( الأنبياء : 30 ) .
أي أن الله تعالى هيّأ للإنسان البيت الذي سيسكنه وهو الكون ، فجعل السماء الصمّاء تتفتق بالمطر ، وجعل الأرض الصماء تتفتق بالنبات ، وجعل الماء أساس الحياة بقدرة الله .
ثم إن الذي أوجد الإنسان من العدم قادر على إعادته بعد الموت للبعث والحشر والحساب والجزاء .
قال تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم عيده . . . ( الروم : 27 ) .
قال ابن كثير : يخبر تعالى عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئا يذكر لحقارته وضعفه . اه .
وقال المفسرون : هل أتى . بمعنى قد أتى .
تذكير الإنسان بأصل نشأته ، فقد كان شيئا منسيّا ، لا يفطن له ، وكان في العدم ذرة في صلب أبيه ، وماء مهينا ، لا يعلم به إلا الذي يريد أن يخلقه ، ومرّ عليه حين من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه ، ثم خلقه الله وأبدع تكوينه وإنشاءه ، بعد أن كان مغمورا ومنسيا لا يعلم به أحد .
سورة الإنسان مكية وآياتها إحدى وثلاثون ، تسمى الدهر ، والأبرار ، والأمشاج ، وهي مدنية عند جمهور العلماء نزلت بعد سورة الرحمن ، وعدد آياتها إحدى وثلاثون آية .
تشتمل سورة الإنسان على ثلاثة مقاصد :
الأول : كيف خلق الله الإنسان تتميما لما ذكر في آخر سورة القيامة ، وذلك من أول السورة إلى قوله { سميعا بصيرا } .
الثاني : في جزاء الشاكرين ومجازاة الكافرين ، ووصف الجنة والنار ، وذلك من قوله تعالى { إنا هديناه السبيل } إلى قوله : { وكان سعيكم مشكورا } .
الثالث : أمرُ النبي بالصبر ، وذكر الله ، والتهجد بالليل ، وذلك من قوله تعالى { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } إلى آخر السورة .
فتبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة على أساس الابتلاء ، وتُختم ببيان عاقبة الابتلاء ، فتوحي بذلك البدء والختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره ، غير واع ولا مدرك ، وهو مخلوق ليُبتلى ، وقد وهبه الله نعمة الإدراك لينجح في الاختبار والابتلاء .
وقد سميت " سورة الإنسان " لقوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } وكذلك سورة الدهر بقوله : " حين من الدهر " . وسورة الأبرار بقوله : " إن الأبرار يشربون . . . . . . . } .
ثم تفصّل السورة في صورة النعيم تفصيلا طويلا ، وما في هذه الصورة من النعيم الحسي هو الذي جعل بعض العلماء يحتج أن هذه السورة مكية ، لأن المشركين كانوا قريبي عهد بالجاهلية لا يؤمنون بالمحسوس من متاع الدنيا . وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلّع صنوف من الناس ، ويُرضي رغباتهم . وقد تحدثت السورة عن النعيم الذي أعده الله في الآخرة لأهل الجنة ، ثم ذكرت أوصاف هؤلاء السعداء بشيء من الإسهاب ، بوفائهم بالنَذْر ، وإطعام الفقراء ابتغاء مرضاة الله ، وأشادت بما لهم عند الله من الأجر والكرامة في دار الإقامة ، وأفاضت في سرد نعيم أهل الجنة في مأكلهم ومشربهم ، وملبسهم ، وخدمهم .
ثم أمرت الرسول الكريم بالصبر ، وذكر ربه بكرة وأصيلا ، وصلاة الليل ، وأنذرت من يحبون الدنيا ويؤثرونها على الآخرة ، . ثم خُتمت السورة ببيان أن هذا القرآن تذكرة لمن كان له قلب { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ، إن الله كان عليما حكيما } . . .
هل أتى : قد أتى ، استفهام معناه التقرير والتأكيد .
حين : وقت من الزمن غير محدود .
يخبر الله تعالى عباده في هذه الآية أنه قد مضى على الإنسان وقتٌ من الزمن غير معلوم لديه لم يكن شيئا يُذكر ، ولا يعرف .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }
ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها .
فذكر أنه مر عليه دهر طويل وهو الذي قبل وجوده ، وهو معدوم بل ليس مذكورا .