تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

ولما كان قدحهم في المؤمنين يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر ، قال تعالى : { قُلْ ْ } لهم مخبرا عن شناعة ما كانوا عليه : { هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ ْ } الذي نقمتم فيه علينا ، مع التنزل معكم . { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ ْ } أي : أبعده عن رحمته { وَغَضِبَ عَلَيْهِ ْ } وعاقبه في الدنيا والآخرة { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ْ } وهو الشيطان ، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت . { أُولَئِكَ ْ } المذكورون بهذه الخصال القبيحة { شَرٌّ مَّكَانًا ْ } من المؤمنين الذين رحمة الله قريب منهم ، ورضي الله عنهم وأثابهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم أخلصوا له الدين .

وهذا النوع من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه وكذلك قوله : { وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ْ } أي : وأبعد عن قصد السبيل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

ثم تابع - سبحانه - التهكم بهم ، وتعجب الناس من أفن رأيهم ، مع تذكيرهم بسوء مصيرهم فقال : - { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله } ؟

والمشار إليه بقوله : { ذلك } يعود إلى ما نقمه اليهود على المؤمنين من إيمانهم بالله وبالكتب السماوية وقيل يعود إلى الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب المعبر عنها بقوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } وتوحيد اسم الإِشارة لكونه يشار به إلى الواحد وغيره . أو لتأويله بالمذكور ونحوه .

والخاطب لأهل الكتاب المتقدم ذكرهم وقيل للكفار مطلقا ، وقيل للمؤمنين .

والمثوبة : مصدر ميمي بمعنى الثواب الثابت على العمل ، وأكثر استعمالها في الخير .

وقد استعملت هنا بمعنى العقوبة على طريقة التهكم بهم كما في قوله - تعالى - : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وهي منصوبة على أنها تمييز لقوله { بشر } .

وقوله : { مَن لَّعَنَهُ الله } خبر لمبتدأ محذوف أي : هو من لعنه الله : والمراد اليهود لأن الصفات التي ذكرت في الآية لا تنطبق إلا عليهم .

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين عابوا على المؤمنين إيمانهم بالله وبما أنزله من كتب سماوية والذين قالوا لكم : ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرا من دنيكم قل لهم على سبيل التبكيت والتنبيه على ضلالهم : هل أخبركم بشر من أهل ذلك الدين عقوبة عند الله يوم القيامة ؟ هو من { لَّعَنَهُ الله } أي أبعده من رحمته { وَغَضِبَ عَلَيْهِ } بأن منع عنه رضاه { وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } بأن مسخ بعضهم قردة وبضعهم خنازير وجعل منهم من عبد الطاغوت ، أي : من عبد كل معبود باطل من دون الله كالأصنام والأوثان وغير ذلك من المعبودات الباطلة التي ابتعوها بسبب طغيانهم وفساد نفوسهم .

فإن قيل : إن قوله - { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً } يفيد أن ما عابه اليهود على المؤمنين من إيمانهم بالله فيه شر . إلا أن ما عليه اليهود أشد شرا ، مع أن إِيمان المؤمنين لا شر فيه ألبتة بل هو عين الخير فكيف ذلك ؟

فالجواب ، أن الكلام مسوق على سبيل المشاكلة ، والمجاراة لتفكير اليهود الفاسد ، وزعمهم الباطل ، فكأنه - سبحانه - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء اليهود - يا محمد - ينكورن عليهكم إيمانكم بالله وبالكتب السماوية ويعتبرون ذلك شراً - مع أنه عين الخير - قل لهم على سبيل التبكيت وإلزامهم الحجة :

لئن كنتم تعيبون علينا إيماننا وتعتبرونه شرا لا خير فيه - في زعمكم فشر منه عاقبة ومآلا ما أنتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله ، وما أصاب أسلافكم من مسخ بعضهم قردة ، وبعضهم خنازير ، وما عرف عنكم من عبادة لغير الله . . . وشبيه بهذه الآية في مجاراة الخصم في زعمه قوله - تعالى - { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقوله : { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } بيان لسوء عاقبتهم وقبح مكانتهم . .

أي : أولئك المتصفون بما ذكر من الفسوق واللعن والطرد من رحمة الله أولئك المتصفون بذلك { شَرٌّ مَّكَاناً } من غيرهم وأكثر ضلالا عن طريق الحق المستقيم من سواهم ، فهم في الدنيا يشركون بالله ، وينتهكون محارمه وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار .

وقوله { أولئك } مبتدأ وقوله { شر } خبره ، وقوله { مكانا } تمييز محول عن الفاعل .

وأثبت - سبحانه - الشرية لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على كثرة شرورهم ، إذ أن إثبات الشرية لمكان الشيء كناية عن إثباتها للشيء نفسه . فكأن شرهم قد أثر في مكانهم ، أو عظم وضخم حتى صار متجسما .

وقوله : { وأضل } معطوف على { شر } مقرر له . والمقصود من صيغتي التفضيل في قوله : { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ } الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غيرهم في ذلك . أو بالنسبة إلى غيرهم من الكفار الذين لم يفجروا فجورهم ، ولم يحقدوا على المؤمنين حقدهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

51

ثم نمضي مع السياق القرآني في توجيه الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] لمواجهة أهل الكتاب ، بعد تقرير بواعثهم واستنكار هذه البواعث في النقمة على المسلمين . . فإذا هو يجبههم بتاريخ لهم قديم ، وشأن لهم مع ربهم ، وعقاب أليم :

( قل : هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ؟ من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وعبد الطاغوت . أولئك شر مكانا ، وأضل عن سواء السبيل ! )

وهنا تطالعنا سحنة يهود ، وتاريخ يهود !

إنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، وجعل منهم القردة والخنازير . إنهم هم الذين عبدوا الطاغوت . . وقصة لعنة الله لهم وغضبه عليهم واردة في مواضع شتى من القرآن الكريم ؛ وكذلك قصة جعله منهم القردة والخنازير . . فأما قضية عبادتهم للطاغوت ، فتحتاج إلى بيان هنا ، لأنها لفتة ذات دلالة خاصة في سياق هذه السورة . .

إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله ، وكل حكم لا يقوم على شريعة الله ، وكل عدوان يتجاوز الحق . . والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا ، وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى . .

وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان ؛ ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله . فسماهم الله عبادا لهم ؛ وسماهم مشركين . . وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق . فهم عبدوا الطاغوت . . أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها . . وهم لم يعبدوها بمعنى السجود لها والركوع ، ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة . وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله .

والله - سبحانه - يوجه رسوله [ ص ] لمجابهة أهل الكتاب بهذا التاريخ ، وبذلك الجزاء الذي استحقوه من الله على هذا التاريخ . . كأنما هم جيل واحد بما أنهم جبلة واحدة . . يوجهه ليقول لهم : إن هذا شر عاقبة : .

( قل : هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ) . .

أي شر من نقمة أهل الكتاب على المسلمين ، وما يكيدون لهم وما يؤذونهم بسبب إيمانهم . وأين نقمة البشر الضعاف من نقمة الله وعذابه ، وحكمه على أهل الكتاب بالشر والضلال عن سواء السبيل :

( أولئك شر مكانا ، وأضل عن سواء السبيل ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

{ قل هل أنبئكم بشر من ذلك } أي من ذلك المنقوم . { مثوبة عند الله } جزاء ثابتا عند الله سبحانه وتعالى ، والمثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر فوضعت ها هنا موضعها على طريقة قوله :

تحية بينهم ضرب وجيع *** . . .

ونصبها على التمييز عن بشر . { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } بدل من بشر على حذف مضاف أي بشر من أهل ذلك من لعنه الله ، أو بشر من ذلك دين من لعنه الله ، أو خبر محذوف أي هو من لعنه الله وهم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ، ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت ، وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام . وقيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير . { وعبد الطاغوت } عطف على صلة من وكذا { عبد الطاغوت } على البناء للمفعول ، ورفع { الطاغوت } و{ عبد } بمعنى صار معبودا ، فيكون الراجع محذوفا أي فيهم أو بينهم ، ومن قرأ " وعابد الطاغوت " أو { عبد } على أنه نعت كفطن ويقظ أو عبدة أو { عبد الطاغوت } على أنه جمع كخدم أو أن أصله عبدة فحذف التاء للإضافة عطفه على القردة ، ومن قرأ { وعبد الطاغوت } بالجر عطفه على من ، والمراد { من } الطاغوت العجل وقيل الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى . { أولئك } أي الملعونون . { شر مكانا } جعل مكانهم شرا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم ، وقيل { مكانا } منصرفا . { وأضل عن سواء السبيل } قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى وقدح اليهود ، والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة والضلالة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

وقوله تعالى : { قل هل أنبئكم } قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «انْبئكم » بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس : «مثُوْبة » بضم الثاء وسكون الواو ، وقرأ ابن بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران «مثْوَبة » بسكون الثاء وفتح الواو ، وقال أبو الفتح هذا مما خرج عن أصله شاذاً عن نظائره ، ومثله قول العرب : الفاكهة مقْوَدة إلى الأذى ، بسكون القاف وفتح الواو ، والقياس مثابة ومقادة ، وأما مثُوبة بضم الثاء فأصلها مثوبة وزنها مفعلة بضم العين نقلت حركة الواو إلى الثاء وكانت قبل مثووبة مثل مقوولة{[4]} ، والمعنى في القراءتين مرجعاً عند الله أي في الحشر يوم القيامة ، تقول العرب : ثاب يثوب إذا رجع ، منه قوله تعالى : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً }{[5]} ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم { هل أنبئكم } هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤاً ولعباً ، قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئاً ، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين ، أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، فتكون الإشارة بذلك إلى حالهم من كون أكثرهم فاسقين ، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل وتكون الإشارة بذلك إلى حال الحاضرين من كون أكثرهم فاسقين ويكون قوله { شر وأضل } صفتي تفضيل بين شيئين لهما اشتراك في الشر والضلال ، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بذلك إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم ويوجه التفضيل ب { شر وأضل } على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين ، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار ، ويكون على هذا الاحتمال قوله : { من لعنه الله } الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف ، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه ، فهو في حكمه ، وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير » ، واللعنة الإبعاد عن الخير ، وقوله تعالى : { وجعل } هي بمعنى صير ، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى خلق .

قال القاضي أبو محمد : وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية ، لأن قوله : { وعبد الطاغوت } تقديره ومن عبد الطاغوت ، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحداً عابد الطاغوت ، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة ، وأما مسخهم خنازير ، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك منهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته ، فدعت المرأة قوماً إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها ، فيئست وباتت مهمومة ، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة يسعون{[6]} في نواحيها خنازير فقالت : الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه ، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة ، وقوله تعالى : { وعبد الطاغوت } تقديره ومن عبد الطاغوت ، وذلك عطف على قوله : { من لعنه الله } أو معمول ل { جعل } وفي هذا يقول أبو علي : إن { جعل } بمعنى خلق ، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده «وعَبُد الطاغوت » بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن «عبد » لفظ مبالغة كيقظ وَنُدَس{[7]} ، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات ، لأن «عبداً » في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء ، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات ، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب ، ومنه قول الشاعر[ أوس بن حجر ] : ***

أبني لبينى إن أمكم أمة وإن أباكم َعُبُد

ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون «وعَبَد الطاغوت » بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره ، وقرأ أبي بن كعب «عبدوا الطاغوت » ، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع ، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه «وعَبُد الطاغوتُ » بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت ، وذلك على أن يصير له أن «عبد » كالخلق والأمر المعتاد المعروف ، فهي في معنى فقه وشرف وظرف ، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة «وعَبَد الطاغوتِ » بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت ، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفاً{[8]} ومثله قول الراجر :

*قام ولاها فسقوها صرخدا{[9]}*

أراد ولاتها فحذف تخفيفاً ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه «وعَبْد الطاغوتِ » بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع ، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت ، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و «عبداً الطاغوت » فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولا ذاكر الله إلا قليلا{[10]}

والوجه الآخر أن يريد «عبد » الذي هو فعل ما ض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر :

وما كل مغبون ولو سلْف صفقة *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[11]}

فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال «ولعْنوا بما قالوا »{[12]} بسكون العين ، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة ، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه «وعُبَّادَ الطاغوتِ » بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد ، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضاً «وعابدُ الطاغوت » على وزن فاعل والدال مرفوعة ، قال ابو عمرو تقديره : وهم عابد الطاغوت .

قال القاضي أبو محمد : فهو اسم جنس ، وروى عكرمة عن ابن عباس «وعابدو الطاغوت » بضمير جمع ، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة ، وقرأ ابن بريدة «وعابِدِ الطاغوتِ » بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء ، وقرأ بعض البصريين و «عباد الطاغوت » بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء ، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام ، وقد يجوز أن يكون جمع عبد ، وقل ما يأتي عباد مضافاً إلى غير الله ، وأنشد سيبويه :

أتوعدني بقومك يا ابن حجل *** أشابات يخالون العبادا{[13]}

قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه السلام ، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد ، وجميع الخلق عباد الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا التعليق بآدم صلى الله عليه وسلم شاذ بعيد والاعتراض فيه باق ، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده ، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد ، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرى فدانتهم مملكته ، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ «وعَابِدَ الشيطان » بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف ، وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب «وعُبُدَ الطاغوتِ » بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء ، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف ، وقال أحمد بن يحيى ثعلب : هو جمع عابد كشارف وشرف ، ومنه قول القينة :

ألا يا حمز للشرف النواء *** وهن معلقات بالفناء{[14]}

وقال أبو الحسن الأخفش : هو جمع عبيد وأنشد :

أنسب العبد إلى آبائه *** أسود الجلدة من قوم عبد{[15]}

وقرأ الأعمش وغيره «وعُبَّدَ الطاغوتِ » بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب . وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعُبِدَ الطاغوتُ » بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد ، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة{[16]} ، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت » كما تقول ضربت المرأة ، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعُبَدَ الطاغوتِ » بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء ، وهذا أيضاً بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع ُبِني كحطم ولبد ، وروى عكرمة عن ابن عباس : «وعُبَّدَ الطاغوت » على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبداً منوناً ثم حذف التنوين كما قال ، ولا ذاكر الله ، وقد تقدم نظيره{[17]} .

و { الطاغوت } كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان ، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة ، و «مكان » يحتمل أن يريد في الآخرة ، فالمكان على وجهه ، أي : المحل إذ محلهم جهنم . وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة . و { سواء السبيل } وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي ، ومنه قوله تعالى : { في سواء الجحيم }{[18]} وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر ، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء .


[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).
[11]:- في بعض النسخ (رفْع) بالراء.
[12]:- رواه أصحاب الكتب الستة، وفيه زيادة: (وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، والحاكم أيضا حديث الترمذي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) فجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
[13]:- أي في غير مقابلة النعمة.
[14]:- أي لأن الدليل الذي استدل به لا يشهد له، كما قال المؤلف بعد: «وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه». إلخ.
[15]:- هو إبراهيم بن أبي عبلة، بن يقظان، بن المرتحل، أبو إسماعيل المقدسي، تابعي، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، قال: قرأت القرآن عليه سبع مرات، ويقال: إنه قرأ على الزهري، وروى عنه وعن أبي أمامة، وروى عنه مالك بن أنس، وابن المبارك. توفي سنة 153هـ.
[16]:- جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الجزء الثالث صفحة166 ما نصه: وقال الوزيري: وأعلم أنـني سأصير مـيتا *** إذا سار النواعج لا أسير وقال السائلون: من المُسَجَّى؟ *** فقال المخبرون لهم: وزير والمسجى الملتف في أكفانه، والنواعج الإبل السراع، جمع ناعجة، والبيتان في (الجامع لأحكام القرآن)1/118 بلفظ (القائلون)، بدلا من (المخبرون).
[17]:- قال في القاموس: كان غاوي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينما هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه، فقال البيت، ثم قال: يا معشر سليم، لا والله لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وبان من هذا أن قائل البيت بن عبد العزى، وأن كلمة (الثعلبان) هي تثنية (ثعلب) وفي حياة الحيوان للدميري إثبات أنه ليس بتثنية، وإنما هو ذكر الثعالب فتكون بضم الثاء واللام.
[18]:- الخبت: المطمئن من الأرض فيه رمل،والخبت والعرعر هنا مكانان معينان.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

أمّا جعلهم قردة وخنازير فقد تقدّم القول في حقيقته في سورة البقرة . وأمّا كونهم عبدوا الطاغوت فهو إذ عبدوا الأصنام بعد أن كانوا أهل توحيد فمن ذلك عبادتهم العِجل .

والطاغوت : الأصنام ، وتقدّم عند قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة النّساء ( 51 ) .

وقرأ الجمهور { وعبدَ الطاغوتَ } بصيغة فعل المضيّ في { عبد } وبفتح التّاء من { الطاغوت } على أنّه مفعول { عبد } ، وهو معطوف على الصّلة في قوله { من لَعنهُ الله } ، أي ومن عبدوا الطاغوت . وقرأه حمزة وحْده بفتح العين وضمّ الموحّدة وفتح الدّال وبكسر الفوقيّة من كلمة الطاغوت على أن « عَبُد » جمع عَبْد ، وهو جمع سماعي قليل ، وهو على هذه القراءة معطوف على { القردة والخنازير } .

والمقصود من ذكر ذلك هنا تعيير اليهود المجادلين للمسلمين بمساوي أسلافهم إبكاتاً لهم عن التطاول . على أنّه إذا كانت تلك شنشنتهم أزمانَ قيام الرسل والنبيئين بين ظهرانَيْهم فهم فيما بعد ذلك أسوأ حالاً وأجدر بكونهم شرّاً ، فيكون الكلام من ذمّ القبيل كلّه . على أنّ كثيراً من موجبات اللّعنة والغضب والمسخ قد ارتكبتها الأخلاف ، على أنّهم شتموا المسلمين بما زعموا أنّه دينهم فيحقّ شتمهم بما نعتقده فيهم .