تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

أدب المجالس

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 11 ) }

المفردات :

تفسحوا في المجالس : توسعوا في أماكن الجلوس .

فافسحوا : فتوسعوا .

انشزوا : انهضوا للتوسعة على المقبلين .

فانشزوا : فانهضوا ولا تتباطئوا .

يرفع الله الذين آمنوا : يرفع منزلتهم يوم القيامة .

والذين أوتوا العلم درجات : ويرفع العالمين منهم خاصة ، درجات في الكرامة وعلو في المنزلة .

تمهيد :

حذر القرآن من أسباب البغض والفرقة فيما سبق ، حيث نهى عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وهنا يحث على أسباب المحبة والمودة والصفاء ، وذلك بالتوسعة في مجالس العلم والذكر والقتال وسائر المجالس ، وإذا طلب القائد من شخص ترك مكانه لآخر فينبغي أن يستجيب ، فإن في ذلك سببا لرفعة شأنه ، وعلو أجره ، والله تعالى مطلع على القلوب والنفوس ، وخبير بما فيها .

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري ، عن قتادة قال : كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ، ضنوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل أنها نزلت يوم جمعة ، وقد جاء ناس من أهل بدر ، وفي المكان ضيق ، فلم يفسح لهم ، فقاموا على أرجلهم ، فأقام صلى الله عليه وسلم نفرا بعدتهم وأجلسهم مكانهم ، فكره أولئك النفر ذلك فنزلت .

التفسير :

11- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير }

تضع هذه الآية نظاما جميلا عند اجتماع المسلمين في الجمعة والأعياد ، والعزاء والأفراح ، وأماكن القتال وسائر أنواع الاجتماع ، فترشدهم إلى عدم الالتصاق بالمكان ، وترشدهم إلى عدم التضييق على القادمين ، بل ينبغي أن يتفسحوا ويوسعوا للقادمين ، ويتعاونوا معهم ، وهو أدب ينبغي اتباعه في كل مناحي الحياة ، ومبدأ يجب أن يطبق في الرغبة في مساعدة الآخرين ، وتسهيل أمورهم ، لمن يملك ذلك ، فإن الله تعالى يعاون من فعل ذلك ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه " xiii .

{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير } .

إذا طلب منكم التضحية بمجلسكم القريب من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من ولي الأمر ، أو صاحب السلطان ، أو صاحب المنزل ، فاسمعوا وأطيعوا ، ولا تظنوا أن في ذلك غبنا لكم ، أو نقصا لمنزلتكم ، فقد وعد الله سبحانه وتعالى برفع درجة المؤمنين جزاء صدقهم في إيمانهم .

كما وعد الله برفع منزلة العلماء والفقهاء درجات أعلى ، وفي ذلك بيان لفضل العلم ، وحث على التعلم والتعليم ، ودعوة إلى معرفة كتاب الله وسنة رسوله ، وآراء الفقهاء والعلماء ، فإن ذلك من أسباب العز في الدنيا ، والارتقاء في درجات الجنة في الآخرة .

كما تحث الآية على الإخلاص ، ونظافة القلب ، والتعاون مع أفراد الأمة ، والتواضع ، والاستجابة لما يطلب من المسلم في سبيل الصالح العام .

وفي الحديث الشريف : " ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، فاعفوا يعزكم الله " xiv .

وقد ختم الله الآية بقوله : وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير . فهو سبحانه مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها ، ومنها أعمال القلوب التي لا تجد غضاضة ولا كراهية عند التوسعة لإنسان قادم ، ولا تكره أن تقوم من المجلس إذا طلب منها ذلك من أجل المصلحة .

في أعقاب التفسير

1- أخرج الشيخان ، وأحمد ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقوم الرجل من مجلس فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " . xv

2- قال ابن كثير في تفسيره :

اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال :

فمنهم من رخص في ذلك محتجا بحديث : " قوموا إلى سيدكم " ، ومنهم من منع ذلك محتجا بحديث : " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " xvi .

ومنهم من فصل فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دلت عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما في بني قريظة فرآه مقبلا ، قال للمسلمين : " قوموا إلى سيدكم " xvii . وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه ، والله أعلم ، فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم ، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته لذلك .

وفي الحديث المروي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس ، فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون من على مراتبهم ، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان وعلي لأنهما كانا ممن يكتب الوحي ، وكان يأمرهما بذلك ، كما روى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " ليليني منكم أولو ألأحلام والنهى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " xviii .

3- قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره :

وقوله تعالى : { يفسح الله لكم } . مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه ، في المكان ، والرزق ، والصدر ، والقبر ، والجنة ، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة ، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ، وفي الحديث : " لا يزال الله في عون العبد مازال العبد في عون أخيه " xix .

4- قال ابن مسعود :

{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ . . . }

مدح الله العلماء في هذه الآية ، ثم قال ابن مسعود : يا أيها الناس افهموا هذه الآية ، ولترغبكم في العلم ، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات .

5- قال القرطبي في تفسيره :

بين في هذه الآية أن الرفعة عند الله بالعلم بالإيمان ، لا بالسبق إلى صدور المجالس ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " . فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

6- جاء في مختصر تفسير ابن كثير للصابوني ما يأتي :

روى مسلم ، وأحمد ، عن أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ، وكان عمر استعمله على مكة ، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزى ، رجلا من موالينا ، فقال عمر ، استخلفت عليهم مولى ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه قارئ لكتاب الله ، عالم بالفرائض ، قاض ، فقال عمر رضي الله عنه : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين " xx . ( حديث حسن رواه ابن ماجة ، عن عثمان رضي الله عنه ) .

ثم قال ابن كثير : وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في " شرح كتاب العلم " من صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة " xxi

وعن ابن عباس : خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم : فأعطي المال والملك معه .

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

{ إذا قيل : لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } اختلف في سبب نزول الآية ، فقيل : نزلت في مقاعد الحرب والقتال وقيل : نزلت بسبب ازدحام الناس ، في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصهم على القرب منه وقيل : أقام النبي صلى الله عليه وسلم ، قوما ليجلس أشياخا من أهل بدر في مواضعهم ، فنزلت الآية ثم اختلفوا هل هي مقصورة على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أو هي عامة في جميع المجالس ، فقال قوم : إنها مخصوصة ، ويدل على ذلك قراءة المجلس بالإفراد ، وذهب الجمهور إلى أنها عامة ويدل على ذلك قراءة المجالس بالجمع وهذا هو الأصح ، ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس والتفسيح المأمور به هو التوسع دون القيام ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " وقد اختلف في هذا النهي عن القيام من المجلس لأحد هل هو على التحريم أو الكراهة .

{ يفسح الله لكم } أي : يوسع لكم في جنته ورحمته .

{ وإذا قيل انشزوا } أي : إذا قيل : لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك ، واختلف في هذا النشوز المأمور به فقيل : إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة ، وقيل : إذا أمروا بالقيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان يحب الانفراد أحيانا وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام ، وقيل : المراد القيام في المجلس للتوسع .

{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } فيها قولان :

أحدهما : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات فقوله :{ والذين أوتوا العلم درجات } صفة للذين آمنوا كقوله : جاءني العاقل الكريم وأنت تريد رجلا واحدا .

والثاني : يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات ، فالدرجات على الأول للمؤمنين بشرط أن يكونوا علماء ، وعلى الثاني للمؤمنين الذين ليسوا علماء ، وللعلماء أيضا ولكن بين درجات العلماء وغيرهم تفاوت يوجد في موضع آخر كقوله صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم رجلا " ، وقوله عليه السلام : " يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء " ، فإذا كان لهم فضل على العابدين والشهداء ، فما ظنك بفضلهم على سائر المؤمنين .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير } .

يأمر الله عباده المؤمنين بحسن الأدب في مجالس العلم والذكر ، فما ينبغي أن تكون بينهم أثرة أو فظاظة في الأسلوب والتخاطب ، وإنما يأمرهم ربهم بالتعاطف والتآلف والتواضع فيما بينهم ، ليكونوا على الدوام إخوة مؤتلفين متحابين .

وفي سبب نزول هذه الآية قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .

وقيل : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فأتى ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : " قم يا فلان فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ {[4484]} فوالله ما عدل على هؤلاء قوم أخذوا مجالسهم ، وأحبهم القرب من نبيهم أقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهو قوله : { ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم } تفسحوا ، من الفسحة وهي السعة . وفسح له في المجلس أي وسع له ، وتفسحوا في المجلس وتفاسحوا أي توسعوا{[4485]} .

والآية عامة في سائر المجالس التي يجتمع فيها المسلمون للخير والبر والصلاح سواء جلسوا للذكر أو العلم أو الحرب . فكل مسلم هو أحق بمكانه الذي سبق إليه ، وفي الحديث : " من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به " ومع ذلك فإن على المسلم أن يفسح لأخيه في المجلس وهو أن يوسع له ، ليمكنه الجلوس فيه من أجل الاستفادة وكسب الأجر ، وفي النهي عن أن يقام المرء من مجلسه ليجلس فيه آخر ، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ليجلس فيه آخر ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " وعلى هذا إذا قعد الرجل في موضع من المسجد فليس لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه ، وفي ذلك روى مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول : " افسحوا " .

قوله : { يفسح الله لكم } أن يوسع الله منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة .

قوله : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } انشزوا ، من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض . ونشز الرجل ، أي ارتفع في المكان ، وإنشاز عظام الميت رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض ، ونشزت المرأة ، أي استعصت على بعلها وأبغضته{[4486]} .

والمعنى : إذا دعيتم إلى خير أو معروف أو إصلاح فأجيبوا ، أو إذا قيل لكم : انهضوا إلى الصلاة أو إلى قتال العدو ، أو قيل لكم : تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا .

قوله : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتو العلم درجات } وذلك تكريم من الله للعلم وأهله ، فهم أولو درجات عالية في الآخرة ولهم من الله في الدنيا حسن الثواب .

وإنما يكون التكريم والاعتبار للناس بحسب ما في قلوبهم من الإيمان والعقيدة والتقوى ، وبما أوتوه من رصيد العلم في مختلف علوم الإسلام ، وغير ذلك من العلوم الكونية التي لا مناص للمسلمين من تعلمها والاستفادة منها لتقووا بها على رد العدوان من المعتدين ، ودفع الشر والكيد عن أنفسهم من الظالمين المتربصين .

ويستفاد من الآية أيضا أن المؤمن العالم خير من المؤمن غير العالم ، وإن كان في كل منهما خير . وبذلك فإن العالم لذو شأن عظيم في ميزان الله ، وكذلك العلماء المؤمنون فإنهم أولو كرامة ظاهرة ومميزة يفوقون بها غيرهم درجات ، وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وعنه صلى الله عليه وسلم : " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " .

قوله : { والله بما تعملون خبير } الله خبير بأهل الإيمان والعلم والطاعة الذين يخشون ربهم ويخافون عقابه ويبتغون بعلمهم وجه ربهم{[4487]} .


[4484]:أسباب النزول للنيسابوري ص 276.
[4485]:مختار الصحاح ص 503.
[4486]:مختار الصحاح ص 660.
[4487]:تفسير القرطبي جـ 17 ص 300 وتفسير الطبري جـ 28 ص 13.