تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الإخلاص

أهداف سورة الإخلاص

( سورة الإخلاص مكية ، وآياتها 4 آيات ، نزلت بعد سورة الناس )

وتشتمل هذه السورة على أهم أركان الإسلام التي قامت عليها رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الأركان ثلاثة :

الأول : توحيد الله وتنزيهه .

والثاني : بيان الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات .

والثالث : أحوال النفس بعد الموت وملاقاة الجزاء من ثواب وعقاب ، وصفة اليوم الآخر وما فيه من بعث وحشر ، وحساب وجزاء ، وصراط وميزان ، وجنة ونار .

وأول هذه الأركان هو التوحيد والتنزيه لإخراج العرب وغيرهم من الشرك والتشبيه ، ولهذا ورد في ربه أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن ، لاشتمالها على التوحيد وهو أصل أصول الإسلام .

وفي كتب التفسير :

أن هذه السورة نزلت جوابا للمشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم ربه ويبين لهم نسبه ، فوصفه لهم ونزهه عن النسب ، إذ نفى عنه أن يكون والدا أو مولودا أو أن يكون له شبيه ومثيل .

هو . ضمير تفسره الجملة التالية . الله أحد . وهو يدل على فخامة ما يليه بإبهامه ثم تفسيره ، مما يزيده تقريرا .

الله أحد .

الله . علم دال على الذات العلية دلالة مطلقة تجمع كل معاني أسمائه الحسنى ، وما تصوره من التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والجلال والكمال .

أحد . صفة تقرر وحدانية الله من كل الوجوه ، فهو واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله وفي عبادته ، أما أحديته أو وحدانيته في ذاته فمعناها أنه يستقل بوجوده عن وجود الكائنات والمخلوقات ، فوجدوها حادث بعد عدم ، وهي محتاجة إلى علة توجدها وتظل قائمة عليها حافظة وجودها طوال ما كتب لها من بقاء . أما وجود الله فوجود أزلي ، وجود ذاته ، ومنه انبثق كل الوجود ، إنه واجب الوجود الذي لا أول لوجوده ولا آخر ، والفرد الذي لا تركيب في ذاته .

الله أحد . فلا إله سواه ولا شريك معه ، وكانوا قد عبدوا آهلة متعددة مثل الشمس والقمر ، واللاّت والعزّى ، ومناة ونسر .

وكان منهم من اتخذ إلهين : إلها للنور ، وإلها للظلمة ، ومنهم من قال : إن الله ثالث ثلاثة من الآلهة وقد أعلن القرآن الكريم النكير على من اتخذ إلها غير الله تعالى ، وقرّر القرآن أنه لا شريك له ولا مثيل .

قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيدا . ( النساء : 116 ) .

ووحدانية الصفات تعني تنزيه الله عن صفات المخلوقين من البشر وغير البشر ، فهو متفرد بصفاته تفرده بذاته : ليس كمثله شيء . . . ( الشورى : 11 ) . لا في الذات ولا في الصفات .

وقد تعددت صفات الله في القرآن ، ولأنها ذاتية دعاها أسماء إذ يقول : ولله الأسماء الحسنى . . . ( الأعراف : 180 ) . ويقول تعالى : هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى . . . ( الحشر : 24 ) .

وهذه الصفات منها ما يصور عظمة الله وجلاله ، مثل : العظيم ، المتعال ، الحميد ، المجيد ، القدوس ، ذي الجلال والإكرام . ومنها ما يصور خلق الكون وصنع الوجود ، مثل : البارئ ، المصور ، الخالق ، البديع ومنها ما يصور القدرة الإلهية ، مثل : القوي ، القادر ، القهّار ، المهيمن . ومنها ما يصور العلم الربّاني ، مثل : العليم ، الحكيم ، الخبير . ومنها ما يصور رحمة الله بعباده ، مثل : الرؤوف ، الرحمان ، الرحيم . . . إلى غير ذلك من صفات قد تلتقي بصفات البشر ، ولكنها تختلف عنها في الجنس والنوع ، هي وكل ما يتصل بالذات الإلهية .

ووحدانية الله وأفعاله : هي التفرد في خلق الكون والقيام عليه وتدبير نظامه المحكم بقوانين ماثلة في جميع الأشياء .

يقول الحق سبحانه : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج* والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج* تبصرة وذكرى لكل عبد منيب* ونزّلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنت وحبّ الحصيد* والنخل باسقات لها طلع نضيد* رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج . ( ق : 6-11 ) .

وهذا الكون العظيم بنظامه البديع وناموسه الرائع يدل دلالة واضحة على وحدانية الله وتفرده بالألوهية .

قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . . . ( الأنبياء : 22 ) .

وقال سبحانه : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمّا يصفون . ( المؤمنون : 91 ) .

ومضمون هذه الآيات أنه لو تعددت الآهلة في الكون لفسد نظام السماوات والأرض ، ولاختل تماسكها القائم على وحدة نظام ، ووحدة تسيير ، وبما أن الكون لم يفقد نظامه ولا تماسكه فدلّ ذلك على نفي الآلهة وثبتت وحدانية الحق سبحانه . قل هو الله أحد .

الله الصّمد .

الصّمد . هو المقصود في الحوائج وحده ، فهو الملاذ وهو الملجأ ، وهو المستعان وهو المستغاث ، ولا حول ولا طول لسواه ، إنه الخالق الصانع الحافظ الوهاب النافع الضار ، كل شيء بيده وفي قبضته ، يعطي ويمنع ، ويبسط ويقبض ، ويثيب ويعاقب ، وكل شيء في الكون متجه إليه يتلقى منه الوجود ، إنه المحيي المميت ، الذي يهب كل حيّ حياته ، وكل حيّ بل كل كائن ينقاد إليه شاعرا بضعفه وعجزه ، وأنه محتاج إلى بره وتفقده له ، فهو الكالئ الحافظ بالليل والنهار وعلى مر الزمان ، وهو الراعي المربّي الذي يفتقر إليه كل شيء في الوجود وينقاد بأزمته ، وفي ذلك يقول جلّ ذكره : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابّة والملائكة وهم لا يستكبرون* يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون . ( النحل : 49 ، 50 ) .

قال الإمام محمد عبده :

وقوله : الصّمد . يشعر بأنه الذي ينتهي إليه الطلب مباشرة بدون واسطة ولا شفيع ، وهو في ذلك يخالف عقيدة مشركي العرب الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء ، وكثير من أهل الأديان الأخرى يعتقدون بأن لرؤسائهم منزلة عند الله ينالون بها التوسط لغيرهم في نيل مبتغاهم فيلجأون إليهم أحياء وأمواتا ، ويقومون بين أيديهم أو عند قبورهم خاشعين خاضعين ، كما يخشعون لله بل أشد خشيةi .

وقد نفى القرآن كل وساطة بين العبد وربه ، وبيّن أن باب الله مفتوح على مصراعيه ، للضارعين والتائبين والسائلين ، فهو قريب من عباده لا يحتاج إلى وساطة أو شفاهة .

قال تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون . ( البقرة : 186 ) .

وبذلك نرى أن اله يرفع كل حجاب بينه وبين عباده ليتجهوا إليه بالمسألة حين تنزل بهم بعض الخطوب ، أو حين تصيبهم بعض الفواجع ، أو حين يلتمسون أي مقصد من مقاصد الدنيا أو مقاصد الآخرة .

قال تعالى : ادعوني أستجب لكم . . . ( غافر : 60 ) .

وقال سبحانه : ادعوا ربكم تضرّعا وخفية إنه لا يحب المعتدين . ( الأعراف : 55 ) .

وعلى ذلك فالإسلام ينكر بيع صكوك الغفران ، لأن المغفرة بيد الله وحده ، وينكر الإسلام الاعتراف بالذنب لرجل الدين حتى تصح التوبة ويمحى الذنب ، إذ أساس الإسلام أن الله وحده هو المقصود في كل شيء : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون* ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله . . . ( الشورى : 25 ، 26 ) .

وقد جعل الدين الدعاء مخ العبادة ، لان الدعاء اعتراف ضمني بقدرة الله وعظمته وأنه الخالق البارئ الرازق الفعال لما يريد ، وأن بيده الخير والأمر والنفع وأنه مسبب الأسباب . وللدعاء آداب منها :

التوبة النصوح ، وأكل الحلال ، وأداء الفرائض ، واجتناب المحرمات ، والتزام التضرع والخضوع في مناجاة الله ودعائه ، واليقين الكامل بأن الله تعالى هو النافع الضار ، لا راد لقضائه ولا معقب لأمره : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيقول . ( يس : 82 ) .

وتمكينا لهذه العقيدة الإسلامية في النفوس ، علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمه عبد الله بن عباس وهو غلام صغير وقد كان راكبا خلفه .

فعن عبد الله بن عباس قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته فقال لي : ( يا غلام ، هل أعلمك كلمات ينفعك الله بهن في الدنيا والآخرة ) ؟ قلت : بلى يا رسول الله علمني . فقال لي : ( يا غلام ، احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف )ii . رواه أحمد ، والترمذي ، وهو حديث صحيح .

وحيث يعلم المؤمن هذه الحقيقة ، ويحيى في فكره وقلبه صمدية الله تعالى ، فإنه لا يرجع في أمر من أموره إلا إليه سبحانه ، ولا يتقرب بأي قربى إلا قربى تدنيه من طاعة ربه ومرضاته ، وتثبيتا لحقيقة صمدية الخالق من حقائق صفات الألوهية ، قال سبحانه : الله الصّمد . أي : الله هو الغني في ذاته وفي صفاته غنى تاما ، وهو الذي يصمد إليه ، يرجع إليه في كل أمر صغر أو كبر .

قال أبو هريرة في تفسير كلمة الصمد : هو المستغني عن كل أحد ، المحتاج إليه كل أحد .

لم يلد ولم يولد .

لم يلد . لم يتخذ ولدا . ولم يولد . ليس له والد يكنّى به . والقرآن بهذا ينزه الله العلي العظيم عن الشبه بالآدميين الفانين الذي يوجدون بعد عدم ، ويعيشون وينجبون الولد والأولاد ، ثم تشتعل رؤوسهم شيبا ويبلغون من الكبر عتيا ثم يموتون ، وبذلك يكون الإنسان والدا ومولودا في آن واحد ، أما الله سبحانه فتعالى علوّا كبيرا عن أن يلد أو يولد ، فهو منزّه عن مجانسة الآدميين في اتخاذ الصاحبة أو الزوجة واتخاذ الأولاد .

قال تعالى : بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم* ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل* لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير . ( الأنعام : 101 -103 ) .

ولم يكن له كفوا أحد .

الكفء معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة ، وهو نفي لما يعتقده بعض المبطلين من أن لله ندا في أفعاله ويعاكسه في أعماله ، على نحو ما يعتدقه بعض الوثنيين في الشيطان مثلا ، فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الشرك ، وقرر جميع أصول التوحيد والتنزيه .

( وقد جعل الله الآية الأخيرة خاتمة للآيات قبلها ، فبعد أن قرّر وحدانيته وعظيم سلطانه ، وأنه ملاذ الكون ومخلوقاته ، وأنه منزه عن مشابهة الإنسان ومماثلته لتفرده بقدمه وأزليته ، قال في صيغة عامة إنه ليس له مثيل ولا نظير من الخلق في أي صفة ولا في أي فعل ولا في أي شيء من الأشياء )iii .

وقد سفّه القرآن في مواطن كثيرة من جعلوا لله أندادا من المخلوقات ، وبين أنه سبحانه الصانع الأعظم ، وما من كائن إلا ويفتقر إليه في وجوده .

وفي معنى سورة الإخلاص يقول الله سبحانه : وقالوا اتخذ الرحمان ولدا* لقد جئتم شيئا إدّا* تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا* أن دعوا الرحمان ولدا* وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولدا* إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا* لقد أحصاهم وعدّهم عدّا* وكلهم آتيه يوم القيامة فردا . ( مريم : 88 -95 ) .

وقال سبحانه : وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . ( الأنبياء : 26 ، 27 ) .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ قل هو الله أحد 1 الله الصّمد 2 لم يلد ولم يولد 3 ولم يكن له كفوا أحد 4 }

التفسير :

1- قل هو اله أحد .

قل لهم يا محمد : هو الله أحد .

هو الله أحد ، أي : واحد في ذاته ، ليس له شريك ولا مثيل ، وهو واحد في صفاته ، لأنه كامل القدرة ، كامل الإرادة ، كامل الرحمة ، كامل القهر ، كامل الصفات الكاملة التي يتصف بها وحده .

وهو واحد في أفعاله ، بمعنى أنه خالق الكون ، وغيره لا يقدر على أن يفعل مثل أفعاله .

قل تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون . ( النحل : 17 ) .

وهذه الجملة تكفي المؤمن حين ينطق بها ، ويتمثّل معناها ومبناها ، ويتأكد أن الكون له إله واحد ، هو المقصود ، هو المعبود ، وهو خالق الوجود ، لذلك قالوا : من وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر . ومدنية ، في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي . وهي أربع آيات .

قوله تعالى : { قل هو الله أحد } أي الواحد الوتر ، الذي لا شبيه له ، ولا نظير ولا صاحبة ، ولا ولد ولا شريك . وأصل " أحد " : وحد ، قلبت الواو همزة . ومنه قول النابغة{[16565]} :

بِذِي الجَلِيلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ

وقد تقدم في سورة " البقرة " الفرق بين واحد وأحد ، وفي كتاب " الأسنى في شرح أسماء الله الحسي " أيضا مستوفى . والحمد لله . و " أحد " مرفوع ، على معنى : هو أحد . وقيل : المعنى : قل : الأمر والشأن : الله أحد . وقيل : " أحد " بدل من قوله : " الله " .

وقرأ جماعة { أحد الله } بلا تنوين ، طلبا للخفة ، وفرارا من التقاء الساكنين ، ومنه قول الشاعر :

ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا{[16566]}


[16565]:صدر البيت كما في معلقته: * كأن رحلي وقد زال النهار بنا * و"ذو الجليل" مكان ينبت الجليل، وهو الثمام. والثمام: نبت ضعيف قصير لا يطول.
[16566]:هذا عجز بيت لأبي الأسود الدؤلى. وصدره: * فألفيته غير مستعتب *
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإخلاص

مكية ، وآياتها 4 ، نزلت بعد الناس .

سبب نزول هذه السورة أن اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، صف لنا ربك وانسبه ، فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها ، فارتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خر مغشيا عليه ، ونزل عليه جبريل بهذه السورة ، وقيل : إن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فنزلت . وعلى الرواية الأولى السورة مدنية ؛ لأن سؤال اليهود بالمدينة ، وعلى الرواية الثانية تكون مكية . واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن " . فقيل : إن ذلك في الثواب ، أي : لمن قرأها من الأجر مثل أجر من قرأ ثلث القرآن ، وقيل : إن ذلك فيما تضمنته من المعاني والعلوم ، وذلك أن علوم القرآن ثلاثة : توحيد وأحكام وقصص ، وقد اشتملت هذه السورة على التوحيد ، فهي ثلث القرآن بهذا الاعتبار ، وهذا أظهر ، وعليه حمل ابن عطية الحديث . ويؤيده أن في بعض روايات الحديث : " ن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء : فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن " ؛ وخرج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرؤها فقال : " أما هذا فقد غفر له " ، وفي رواية أنه قال : " وجبت له الجنة " ، وخرج مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في الصلاة ( قل هو الله أحد ) ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحب أن أقرأها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبروه أن الله يحبه " ، وفي رواية خرجها الترمذي : " أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل : حبك إياها أدخلك الجنة " ، وخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ ( قل هو الله أحد ) مائة مرة كل يوم غفرت له ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين " .

{ قل هو الله أحد } الضمير هنا عند البصريين ضمير الأمر والشأن ، والذي يراد به التعظيم والتفخيم ، وإعرابه مبتدأ ، وخبره الجملة التي بعده ، وهي المفسرة له ، والله مبتدأ ، وأحد خبره . وقيل : الله هو الخبر ، وأحد بدل منه ، وقيل : الله بدل ، وأحد هو الخبر ، وأحد له معنيان :

أحدهما : أن يكون من أسماء النفي التي لا تقع إلا في غير الواجب ، كقولك : ما جاءني أحد ، وليس هذا موضع هذا المعنى ، وإنما موضعه قوله : { ولم يكن له كفوا أحد } .

والآخر : أن يكون بمعنى واحد ، وأصله وحد بواو ، ثم أبدل من الواو همزة ، وهذا هو المراد هنا . واعلم أن وصف الله تعالى بالواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى :

الأول : أنه واحد لا ثاني معه ، فهو نفي للعدد .

والثاني : أنه واحد لا نظير ولا شريك له ، كما تقول فلان واحد عصره ، أي : لا نظير له .

والثالث : أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض .

والأظهر أن المراد في السورة نفي الشريك لقصد الرد على المشركين ، ومنه قوله تعالى : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] . قال الزمخشري : أحد وصف بالوحدانية ، ونفي الشركاء . قلت : وقد أقام الله في القرآن براهين قاطعة على وحدانيته ، وذلك في القرآن كثير جدا ، وأوضحها أربعة براهين :

الأول : قوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ النحل : 17 ] ؛ لأنه إذا ثبت أن الله تعالى خلق جميع الموجودات لم يمكن أن يكون واحد منها شريكا له .

والثاني : قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] .

والثالث : قوله : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ] .

والرابع : قوله : { وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ] ، وقد فسرنا هذه الآيات في مواضعها ، وتكلمنا على حقيقة التوحيد في قوله : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] .