اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ} (21)

ثم ذكر ربه فوقف استحياءً فنودي :" خُذْهَا فَلاَ تَخَفْ سُنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا " ( وهيئتها ){[23786]} " الأُولَى " أي نردها عصا كما كانت . قوله : { سِيرَتَهَا } في نصبها{[23787]} أوجه :

أحدها : أن تكون{[23788]} منصوبةً على الظرف ، أي في سيرتها أي : طريقتها{[23789]} .

الثاني : أن تكونَ منصوبة على البدل من " ها " {[23790]} " سَنُعِيدُهَا " بدل اشتمال لأن السيرة الصفة ، أي سنعيدها صفتها وشكلها{[23791]} .

الثالث : أنها منصوبةٌ على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها{[23792]} .

قال الزمخشري{[23793]} : ويجوز أن يكون مفعولاً من عَادَ أي عادَ إليه ، فيتعدى لمفعولين ، ومنه بيت زهير :

وَعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيهَا عَدَاءُ{[23794]} *** . . .

وهذا هو ( معنى قول من قال : إنه على إسقاط ( إلى ) و ){[23795]} كان قد جوَّز أن يكون ظرفاً كما تقدَّم{[23796]} ، إلا أن أبا حيَّان ردَّه بأنّه ظرف مختص فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة ( في ){[23797]} إلا فيما ( شذ{[23798]} . والسيرَةُ ){[23799]} فِعْلَة تدل على الهيئة من السَّيْر كالركبة من الرُّكُوب{[23800]} ، ثم اتسع فعبر بها عن المذهب والطريقة ، قال خالد الهذلي{[23801]} :

فَلاَ تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍِ أَنْتَ سِرْتَهَا *** فَأوَّلَ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا{[23802]}

وجوَّز{[23803]} أيضاً أن ينتصب بفعل مضمر ، أي : يسير سيرتها الأولى ، وتكون هذه الجملة المقدرة في محل نصب على الحال ؛ أي : سَنُعيدُها{[23804]} سائرةً سيرتَهَا{[23805]} .

فإن قيل{[23806]} : لمَّا نوديَ يا موسَى ، وخصَّ بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى فلماذا{[23807]} خاف ؟ فالجواب من وجوه :

أحدها : أن ذلك الخوف كان من نفرة{[23808]} الطبع لأنه -عليه السلام{[23809]}- ما شاهد مثل ذلك قط ، وهذا معلوم بدلائل العقول . قال أبو القاسم الأنصاري{[23810]} : وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة ، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة .

وثانيها{[23811]} : خاف لأنه عليه السلام{[23812]} عرف ما لقي آدم منها .

وثالثها : أن مجرد قوله { وَلاَ تَخَفْ } لا يدل على حصول الخوف كقوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين }{[23813]} لا يدل على وجود تلك الطاعة ، لكن قوله : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً }{[23814]} يدل عليه{[23815]} .

فصل

قال المفسرون : كانَ علَى{[23816]} موسى{[23817]} مَدْرَعة من صوف قد خللها{[23818]} بعيدان{[23819]} . فلما قال له : " خُذْهَا " لف طرف المَدْرَعَةِ على يده ، فأمره الله أن يكشف يده ، فكشف . وقيل : إن مَلَكاً قال : أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدْرعة تغني عنك شيئاً ؟ فقال : لا ولكني ضعيف ، ومِنْ ضَعْفٍ خُلِقَتُ{[23820]} ، فكشف{[23821]} يده ، ثم وضعهَا في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها إذا تَوَكَّأَ{[23822]} . واعلم أن إدخاله يده في فم الحية من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر ، وانقلاب العصا حيَّة معجز آخر ، ففيها توالي معجزات المآرب{[23823]} التي تقدمت .


[23786]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23787]:في ب: نصبه.
[23788]:انظر الكشاف 2/431. ورده أبو حيان فقال في البحر المحيط بعد ما ذكر الزمخشري في جواز نصب (سيرتها) على الظرف: (وسيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفصل على طريقة الظرفية إلا بواسطة (في) ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب) 6/236.
[23789]:في ب أنها.
[23790]:في ب: قوله. وهو تحريف.
[23791]:ذكر هذا الوجه أبو البقاء. انظر التبيان 2/ 888 ، البحر المحيط 6/236.
[23792]:قال الحوفي. قال أبو حبان (واختلفوا في إعراب سيرتها. فقال الحوفي: مفعول ثان لـ (سنعيدها). على حذف الجار مثل "واختار موسى قومه" يعني: إلى سيرتها) البحر المحيط 6/235، 236. وانظر التبيان 2/141.
[23793]:الكشاف 2/431. بتصرف، وهو بلفظه في البحر المحيط 6/236.
[23794]:هذا عجز بيت من بحر الوافر قاله زهير، وصدره: فصرم حبلها إذ صرفته وهو في شرح الديوان (62)، الكشاف 2/431، اللسان (عدا) والبحر المحيط 6/236. ورواية شرح الديوان: العداء والشاهد فيه تعدي (عاد) إلى مفعولين وهما ضمير المخاطب و (أن تلاقيها).
[23795]:ما بين القوسين سقط من ب. وفيه : الذي.
[23796]:انظر الكشاف 2/431. قال الزمخشري: (فيجوز أن ينتصب على الظرف، أي سنعيدها في طريقتها الأولى، أي في حال ما كانت عصا).
[23797]:في: سقط من الأصل.
[23798]:انظر البحر المحيط 6/236.
[23799]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23800]:اسم الهيئة: اسم يدل على نوع من الحدث، وضرب منه له صفة خاصة، وقياسه من الثلاثي على (فعلة) بكسر الفاء وسكون العين نحو جلسة. فإذا كان المصدر العام على (فعلة) بكسر الفاء دل على الهيئة بالوصف. نحو نشدة عظيمة. ومن غير الثلاثي يؤتى بالمصدر العام موصوفا نحو: أسرع إسراعا شديدا. انظر التبيان في تصريف الأسماء 55 – 56.
[23801]:هو خالد بن زهير الهذلي، أحد بني مازن بن معاوية (سعد بن هذيل) عارض زواج ابن عمه أبي ذؤيب الهذلي، فوقع في معركة بالهجاء معه، ومع معقل بن خويلد الهذلي، التقي خالد بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عند وفاته مقيما بالمدينة، رثاه أبو خراش بقصيدة. تاريخ التراث العربي، فؤاد سنركين 2/265.
[23802]:البيت من بحر الطويل قاله خالد الهذلي، اللسان (سير)، والشاهد فيه أنه عبر عن المذهب والطريقة بالسيرة اتساعا، لأن (سيرة) على فعلة تدل على الهيئة. ورواية الديوان: فـلا تجزعن من سنـة أنت سرتهــا *** وأول راضي سـنة من يسيرها وقد تقدم.
[23803]:أي الزمخشري.
[23804]:في ب: نعيدها.
[23805]:قال الزمخشري : (ووجه ثالث حسن، أن يكون سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى: أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أولا، ونصب (سيرتها) بفعل مضمر أي: تسير سيرتها الأولى أي سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها، ولك فيها مآرب التي عرفتها) الكشاف 2/431.
[23806]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/28 – 29.
[23807]:في ب: فلما.
[23808]:في ب: نفر. وهو تحريف.
[23809]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[23810]:سلمان بن ناصر بن عمران أبو القاسم الأنصاري النيسابوري، الفقيه الصوفي إمام الحرمين، كان بارعا في الأصول، وصنف في التفسير، وشرح الإرشاد لشيخه سمع الحديث من عبد الغفار الفارسي وكريمة المروذية وغيرهما مات سنة 512 هـ. طبقات المفسرين للسيوطي 52، طبقات المفسرين للداودي 1/193 – 194.
[23811]:في ب: والثاني.
[23812]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[23813]:[الأحزاب: 1،48].
[23814]:[النمل: 10]، [القصص: 31].
[23815]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/28 – 29.
[23816]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/418.
[23817]:في ب: موسى عليه الصلاة والسلام.
[23818]:في الأصل: فدخلها، وفي ب: قد خلها. وهو تحريف.
[23819]:بعيدان: سقط من ب.
[23820]:في ب: خفت. وهو تحريف.
[23821]:في ب: ثم كشف.
[23822]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/418.
[23823]:في ب: والمآرب.