التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

هذه الجملة معترضة بين جملة : سيقول السفهاء { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 142 ] الخ وجملة : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } الخ ، والواو اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية ، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مِما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عُدولاً خياراً ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة .

وقوله : { وكذلك } مركب من كاف التشبيه واسممِ الإشارة فيتعيَّن تَعَرُّف المشار إليه وما هو المشبه به قال صاحب « الكشاف » : « أي مثلَ ذلك الجَعْل العَجيب جعلناكم أمةً وسطاً » فاختلف شارحُوه في تقرير كلامه وتبين مراده ، فقال البيضاوي : « الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قوله : { يهدي من يشاى إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 142 ] أي كما جعلناكم أمة وسطاً أو كما جعلنا قبلتكم أفضلَ قِبلة جعلناكم أمة وسطاً » اهـ . أي إن قوله : { يهدي من يشاء } يُومِىء إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء { ما وَلاَّهم } [ البقرة : 142 ] على ما قدمناه وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يُعَرِّجْ على وصف « الكشاف » الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالباً من دون إرادة بُعد وفيه نظر ، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السَّابق فالإشارة حينئذٍ إلى مذكور متقرر في العِلم فهي جارية على سَنن الإشارات .

وحمل شراح « الكشاف » الكاف على غير ظاهر التشبيه ، فأما الطيبي والقطب فقالا الكاف فيه اسم بمعنى مِثل منتصب على المفعولية المطلقة لِجعلناكم أي مثلَ الجَعْل العجيب جعلناكم فليس تشبيهاً ولكنه تمثيل لحالة والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله : { يهدي } وهو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام ، ووجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه وهو الذي عناه في « الكشاف » بالجعل العجيب ، فالتعظيم هنا لبداعة الأمر وعجابته ، ثم إن القطب ساق كلاماً نقض به صدر كلامه .

وأما القزويني صاحبُ « الكشْف » والتفتزاني فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل ولا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائباً مناب مفعول مطلق لجعلناكم كأنه قيل ذلك الجعلَ جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة . والتشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبِّه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلاّ أن يشبهه بنفسه وهذا قريب من قوله النابغة : « والسفاهة كاسمها » فليست الكاف بزائدة ولا هي للتشبيه ولكنها قريبة من الزائدة ، والإشارة حينئذٍ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة .

وكلام « الكشاف » أظهر في هذا المحمل فيدل على ذلك تصريحه في نظائره إذ قال في قوله تعالى : { كذلك وأورثناها بني إسرائيل } [ الشعراء : 59 ] الكاف منصوبة على معنى مثل أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم وأورثناها . واعلم أن الذي حدا صاحب « الكشاف » إلى هذا المحمل أن استعمال اسم الإشارة في هذا وأمثاله لا يطرد فيه اعتبار مشار إليه مما سبق من الكلام ألا ترى أنه لا يتجه اعتبار مشار إليه في هذه الآية وفي آية سورة الشعراء ولكن صاحب « الكشاف » قد خالف ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام ( 112 ) { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً } فقال : كما خلَّيْنَا بينَك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم اهـ ، وما قاله في هذه الآية منزع حسن ؛ لكنه لم يضرب الناظرون فيه بعَطن .

والتحقيق عندي أن أصل : { كذلك } أن يدل على تشبيه شيء بشيء والمشبه به ظاهر مشار إليه أو كالظاهر ادعاءً ، فقد يكون المشبه به المشار إليه مذكوراً مثل قوله تعالى : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] إشارة إلى قوله : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله } [ هود : 101 ] الآية . وكقول النابغة :

فأَلْفَيْتُ الأَمانةَ لم تَخُنْها *** كذلك كانَ نوحٌ لا يَخُون

وقد يكون المشبه به المُشارُ إليه مفهوماً من السياق فيحتمل اعتبار التشبيه ويُحتمل اعتبار المفعوليَّة المطلقة كقوللِ أبي تَمَّام :

كَذا فليجلَّ الخَطْبُ وَلْيَفْدحَ الأَمْر *** فليس لعين لم يفض دمعُها عُذر

قال التبريزي في « شرحه » الإشارة للتعظيم والتهويل وهو في صدر القصيدة لم يسبق له ما يشبه به فقُطع النظر فيه عن التشبيه واستعمل في لازم معنى التشبيه اهـ ، يعني أن الشاعر أشار إلى الحادث العظيم وهو موت محمد بن حميد الطوسي ، ومثله قول الأسدي من شعراء « الحماسة » يرثى أخاه{[164]} :

فهكذا يذهب الزمان ويفْ *** نَى العلم فيه ويَدْرُسُ الأَثَر

وقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } على ما فسر به البيضاوي من هذا القبيل .

وقد يكون مراداً منه التنويه بالخبر فيجعل كأنه مما يروم المتكلم تشبيهه ثم لا يجد إلاّ أن يشبهه بنفسه وفي هذا قطع للنظر عن التشبيه في الواقع ومثله قول أحد شعراء فزارة في الأدب من « الحماسة » :

كذاك أُدِّبْت حتى صار من خُلُقي *** أني رأيتُ مِلاكَ الشِّيمة الأدبا

أي أدبت هذا الأدب الكامن العجيب ، ومنه قول زهير

كَذَلك خِيمهم ولكُلِّ قوم *** إذا مَسَّتْهم الضَّراء خِيمُ

وقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } من هذا القبيل عند شراح « الكشاف » وهو الحق ، وأوضح منه في هذا المعنى قوله تعالى :

{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } [ الأنعام : 53 ] فإنه لم يسبق ذكر شيء غير الذي سماه الله تعالى فتنة أخذاً من فعل { فتنا } . والإشارة على هذا المحمل المشار إليه مأخوذ من كلام متأخر عن اسم الإشارة كما علمت آنفاً لأنه الجعل المأخوذ من { جعلناكم } ، وتأخير المشار إليه عن الإشارة استعمال بليغ في مقام التشويق كقوله تعالى : { قال هذا فراق بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] أو من كلام متقدم عن اسم الإشارة كما للبيضاوي إذ جعل المشار إليه هو الهدى المأخوذة من قوله تعالى : { يهدي من يشاء } [ البقرة : 142 ] ولعله رأى لزوم تقدم المشار إليه .

والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفاً ولما كان الوصول إليه لا يقع إلاّ بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة طبعاً كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلاّ بعد أكل ما في الجوانب فيبقى كثير العشب والكلأ ، ووضعاً كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة ، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه ، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفاً فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير

هُمُ وسَط يَرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل

وقال تعالى : { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون } [ القلم : 28 ] .

ويقال أوسط القبيلة لصميمها .

وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلاً بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور ، والكرم بين الشح والسرف والعدالة بين الرحمة والقساوة ، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك روي حديث : " خير الأمور أوساطها " وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين .

فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى : { كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وفسر بالعدول والتفسير الثاني رواه الترمذي في « سننه » من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال حسن صحيح ، والجمع في التفسيرين هو الوجه كما قدمناه في المقدمة التاسعة .

ووصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محضة لا تشعر بصفة في الذات .

وضمير المخاطبين هنا مراد به جميع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة فيعم كل من صلى لها ، ولأن قوله { لتكونوا شهداء } قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية .

والآية ثناء على المسلمين بأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطاً بما هيأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بياناً جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الضلالات التي راجت على الأمم ، قال فخر الدين يجوز أن يكونوا وسطاً بمنعى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح ابن الله ، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل .

واستدل أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة أي المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه ، وفي بيان هذا الاستدلال طرق :

الأول قال الفخر إن الله أخبر عن عدالة الأمة وخيريتها فلو أقدموا على محظور لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت ذلك وجب كون قولهم حجة اهـ ، أي لأن مجموع المجتهدين عدول بقطع النظر عن احتمال تخلف وصف العدالة في بعض أفرادهم ، ويبطل هذا أن الخطأ لا ينافي العدالة ولا الخيرية فلا تدل الآية على عصمتهم من الخطأ فيما أجمعوا عليه وهذا رَدٌّ متمكن ، وأجيب عنه بأن العدالة الكاملة التي هي التوسط بين طرفي إفراط وتفريط تستلزم العصمة من وقوع الجميع في الخطأ في الأقوال والأفعال والمعتقدات .

الطريق الثاني قال البيضاوي لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت عدالتهم اهـ ، يعني أن الآية اقتضت العدالة الكاملة لاجتماع الأمة فلو كان إجماعهم على أمر باطل لانثلمت عدالتهم أي كانت ناقصة وذلك لا يناسب الثناء عليهم بما في هذه الآية ، وهذا يرجع إلى الطريق الأول .

الطريق الثالث قال جماعة الخطاب للصحابة وهم لا يجمعون على خطأ فالآية حجة على الإجماع في الجملة ، ويرد عليه أن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد وقد يكون إجماعهم عن اجتهاد أما إجماعهم على ما هو من طريق النقل فيندرج فيما سنذكره .

والحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدحٌ للأمة كلها لا لخصوص علمائها فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة لا من أحوال جميعها ، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل للشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبيء صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن ، وهذا من أحوال إثبات الشريعة ، به فسرت المجملات وأسست الشريعة ، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه ، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر ، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها .

وأما كون الآية دليلاً على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلاَّ بأن يقال إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطاً وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمَلَ عقولَ هذه الأمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم ، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإِثبات أحكامها بالاستدلال استنباطاً بالنسبة للعلماء وفَهْماً بالنسبة للعامة ، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قَيِّمة وهو معنى كونها وسطاً ، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكلَّ فرد ، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبتَ لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في الضلال لا عمداً ولا خطأ ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظراً ، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها ، ثم إن العامة تأخذ نصيباً من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال .

وقوله : { لتكونوا شهداء } علة لجَعْلِهم وسطاً فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة ، ولا بوجوب وإلجاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم منها خيراً فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته .

و ( الناس ) عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية . فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهورِ الحق ، وهذا حكم تاريخي ديني عليه إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب .

والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعَمْ يا رب فتُسْأل أمتُه هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول الله مَن شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } قال عدلاً { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً » اهـ . فقوله ثم قرأ يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية ، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطاً ، وأما مجيء شهادة الآخرة على طِبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى :

{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم } [ طه : 124 126 ] .

ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دَعوتنا الأممَ للإِسلام ، ليقوم ذلك مقامَ دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين .

والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم ، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شَهِد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم .

وقوله : { ويكون الرسول عليكم شهيداً } معطوف على العلة وليس علة ثانية لأنه ليس مقصوداً بالذات بل هو تَكميل للشهادة الأولى لأن جعلنا وسطاً يناسبه عدم الاحتياج إلى الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا ، فأما الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إنما بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإما بعكس ذلك ، وأما الأخروية فهي ما روى في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمة فيما شهِدت به ، وما روي في الحديث الآخر في « الموطأ » و« الصحاح » : " فَلَيُذَادنَّ أقوام عن حوضي فأقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدلوا وغيروا فأقول سحقاً سُحقاً لمن بدل بعدي " . وتعدية شهادة الرسول على الأمة بحرف على مشاكلة لقوله قبله { لتكونوا شهداء على الناس } وإلاَّ فإنها شهادة للأمة وقيل بل لتضمين { شهيداً } معنى رقيباً ومهيمناً في الموضعين كما في « الكشاف » .

وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضي إلاّ بعد حصولها . ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينه أو يسمع بأذنيه ، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة ، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكَّى ، وأن المزكي لا يحتاج للتزكية ، وأن الأمَّة لا تشهد على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع : " أَلاَ هل بَلغْتُ فيقولون نعم فيقول اللهم اشْهَد " فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت .

وتقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلاّ لمجرد الاهتمام بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلاّ رسولها ، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمةً ذاتَ حرف مد قبل الحرف الأخير لأن المد أمْكن للوقف وهذا من بدائع فصاحة القرآن ، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم .

الواو عاطفة على جملة : { سيقول السفهاء من الناس } [ البقرة : 142 ] وما اتصل بها من الجواب بقوله : { قل لله المشرق والمغرب } قُصد به بيان الحكمة من شرع استقبال بيت المقدس ثم تحويل ذلك إلى شرع استقبال الكعبة ، وما بين الجملتين من قوله : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } إلى آخرها اعتراض .

والجَعْل هنا جَعْل التشريع بدليل أن مفعوله من شؤون التعبد لا من شؤون الخلق وهو لفظ القبلة ، ولذلك فَفِعْلُ جَعَل هنا متعد إلى مفعول واحد لأنه بمعنى شرعنا ، فهذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة فيكون المراد بيت المقدس ، وعدل عن تعريف المسند باسمه إلى الموصول لمحاكاة كلام المردود عليهم حين قالوا { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] مع الإيماء إلى تعليل الحكمة المشار إليها بقوله تعالى : { إلا لنعلم } أي ما جعلنا تلك قبلةً مع إرادة نسخها فألزمناكَها زمناً إلاّ لنعلم الخ .

والاستثناء في قوله : { إلا لنعلم } استثناء من علل وأحوال أي ما جعلنا ذلك لسبب وفي حال إلاّ لنظهر من كان صادق الإيمان في الحالتين حالة تشريع استقبال بيت المقدس وحالة تحويل الاستقبال إلى الكعبة . وذكر عبد الحكيم أنه قد روي أن بعض العرب ارتدوا عن الإسلام لما استقبل رسول الله بيت المقدس حمية لقبلة العرب ، واليهود كانوا تأولوا لأنفسهم العذر في التظاهر بالإسلام كما قررناه عند قوله تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] فنافقوا وهم يتأولون للصلاة معه بأنها عبادة لله تعالى وزيادة على صلواتهم التي هم محافظون عليها إذا خلوا إلى شياطينهم مع أن صلاتهم مع المسلمين لا تشتمل على ما ينافي تعظيم شعائرهم إذ هم مستقبلون بيت المقدس فلما حولت القبلة صارت صفة الصلاة منافية لتعظيم شعائرهم لأنها استدبار لما يجب استقباله فلم تبق لهم سمة للتأويل فظهر من دام على الإسلام وأعرض المنافقون عن الصلاة .

وجعل علم الله تعالى بمن يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه علة هذين التشريعين يقتضي أن يحصل في مستقبل الزمان من التشريع كما يقتضيه لام التعليل وتقدير أن بعد اللام وأن حرف استقبال مع أن الله يعلم ذلك وهو ذاتي له لا يحدث ولا يتجدد لكن المراد بالعلم هنا علم حصول ذلك وهو تعلق علمه بوقوع الشيء الذي علم في الأزل أنه سيقع فهذا تعلق خاص وهو حادث لأنه كالتعلق التنجيزي للإرادة والقدرة وإن أغفل المتكلمون عدّه في تعلقات العلم{[165]} .

ولك أن تجعل قوله : { لنعلم من يتبع الرسول } كناية عن أن يعلم بذلك كل من لم يعلم على طريق الكناية الرمزية فيذكر علمه وهو يريد علم الناس كما قال إياس بن قبيصة الطائي :

وأقَدْمتُ والْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بينَنَا *** لأَعْلَمَ مَنْ جُبَّاؤها مِن شُجاعِها

أراد ليظهر من جبانها من شجاعها فأعلمه أنا ويعلمه الناس فجاء القرآن في هذه الآية ونظائرها على هذا الأسلوب ، ولك أن تجعله كناية عن الجزاء للمتبع والمنقلب كل بما يناسبه ولك أن تجعل ( نعلم ) مجازاً عن التحيز لنظهر للناس بقرينة كلمة ( مَنْ ) المسماة بمن الفصلية كما سماها ابن مالك وابن هشام وهي في الحقيقة من فروع معاني من الابتدائية كما استظهره صاحب « المغني » ، وهذا لا يريبك إشكال يذكرونه ، كيف يكون الجعل الحادث علة لحصول العلم القديم إذ تبين لك أنه راجع لمعنى كنائي .

والانقلاب الرجوع إلى المكان الذي جاء منه ، يقال انقلب إلى الدار ، وقوله : { على عقيبه } زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه لأن العقبين هما خلف الساقين أي انقلب على طريق عقيبه وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعاً إلى الكفر السابق . و ( مَنْ ) موصولة وهي مفعول ( نعلم ) والعلم بمعنى المعرفة وفعله يتعدى إلى مفعول واحد .

وقوله : { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } عطف على جملة { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } والمناسبة ظاهرة لأن جملة { وإن كانت } بمنزلة العلة لجملة { نعلم من يتبع الرسول } فإنها ما كانت دالة على الاتباع والانقلاب إلاّ لأنها أمر عظيم لا تساهل فيه فيظهر به المؤمن الخالص من المشوب والضمير المؤنث عائد للحادثة أو القبلة باعتبار تغيرها .

وإن مخففة من الثقيلة .

والكبيرة هنا بمعنى الشديدة المحرجة للنفوس ، تقول العرب كبر عليه كذا إذا كان شديداً على نفسه كقوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } [ الأنعام : 35 ] .

الجملة في موضع الحال من ضمير { لنعلم } أي لنُظْهر من يتبع الرسول ومن ينقلب على عقيبه ونحن غير مضيعين إيمانكم . وذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار للتعظيم .

روى البخاري عن البراء بن عازب قال : > . وفي قوله : « قتلوا » إشكال لأنه لم يكن قتال قبل تحويل القبلة وسنين ذلك ، وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال لما وُجِّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } الآية قال هذا حديث حسن صحيح .

والإضاعة إتلاف الشيء وإبطال آثاره وفُسِّر الإيمان على ظاهره ، وفسر أيضاً بالصلاة نقله القرطبي عن مالك .

وتعلق { يضيع } بالإيمان على تقدير مضاف فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وسَاوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تَودونها ، وإن فسر الإيمانُ بالصلاة كان التقدير ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها ، وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها أعظم أركان الإيمان ، وعن مالك : « إِنِّي لأَذكر بهذا قول المرجئة الصلاة ليست من الإيمان » .

ومعنى حديث البخاري والترمذي أن المسلمين كانوا يظنون أنَّ نَسْخَ حُكْم ، يجعل المنسوخ باطلاً فلا تترتب عليه آثار العمل به فلذلك توجسوا خيفة على صلاة إخوانهم اللذين ماتوا قبل نسخ استقبال بيت المقدس مثل أسعد بن زُرَارَة والبراءِ بن مَعْرُور وأبي أمامة ، وظن السائلون أنهم سيجب عليهم قضاء ما صلَّوه قبل النسخ ولهذا أجيب سؤالهم بما يشملهم ويشمل من ماتوا قبلُ فقال { إيمانكم } ، ولم يقل إيمانهم على حسب السؤال .

والتذييل بقوله : { إن الله بالناس لرءوف رحيم } تأكيد لعدم إضاعة إيمانهم ومنة وتعليم بأن الحكم المنسوخ إنما يلغى العمل به في المستقبل لا في ما مضى .

والرءوف الرحيم صفتان مُشَبَّهَتان مشتقة أولاهما من الرأفة والثانية من الرحمة . والرأفة مفسرة بالرحمة في إطلاق كلام الجمهور من أهل اللغة وعليه درج الزجاج وخص المحققون من أهل اللغة الرأفة بمعنى رحمة خاصة ، فقال أبو عَمرو بن العلاء الرأفة أكثر من الرحمة أي أقوى أي هي رحمة قوية ، وهو معنى قول الجوهري الرأفة أشد الرحمة ، وقال في « المُجْمَل » الرأفة أخص من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهية والرحمةُ تقع في الكراهية للمصلحة ، فاستخلص القفال من ذلك أن قال : الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضر كقوله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } [ النور : 2 ] ، وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام اهـ . وهذا أحسن ما قيل فيها واختاره الفخر وعبد الحكيم وربما كان مشيراً إلى أن بين الرأفة والرحمة عموماً وخصوصاً مطلقاً وأياً ما كان معنى الرأفة فالجمع بين رءوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة . وأما على اعتبار تفسير المحققين لِمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تَعَالى يرحم الرحمة القوية لمُستحقها ويرحم مطلق الرحمة مَنْ دونَ ذلك .

وتقدم معنى الرحمة في سورة الفاتحة .

وتقديم ( رءوف ) ليقع لفظ رحيم فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رءوف معتمد ساكنه على الهمز والهمز شبيه بحروف العلة فالنطق به غير تام التمكن على اللسان وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف .

وتقديم { بالناس } على متعلَّقه وهو { رءوف رحيم } للتنبيه على عنايته بهم إيقاظاً لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة .

وقرأ الجمهور ( لرءوف ) بواو ساكنة بعد الهمزة وقرأهُ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخَلَف بدون واو مع ضم الهمزة بوزن عَضُد وهو لغة على غير قياس .


[164]:- وقبل البيت لابن كناسة في رثاء حماد الراوية، وقال الجاحظ هو بعض الشعراء في رثاء بعض العلماء.
[165]:- بعد أن كتبت هذا بسنين وجدت في الرسالة الحاقانية للمحقق عبد الحكيم السلكوتي في تحقيق المذاهب في علم الله تعالى قوله > اهـ. ولم ينسب هذا القول إلأى معين من الحكماء أو المتكلمين وهو تحقيق دقيق.