الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

{ وكذلك جعلناكم }[ البقرة :143 ] أيْ كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته ، و{ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }[ البقرة143 ] أي : عدولاً روي ذلك عن رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتظاهَرَتْ به عباراتُ المفسِّرين ، والوَسَط : الخيارُ ، والأعلى من الشيء ، وواسطة القلادةِ أنفَسُ حَجَر فيها ، ومنه قوله تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [ القلم : 28 ] .

و{ شُهَدَاءَ } : جمع شاهدٍ ، والمراد بالناسِ هنا في قول جماعة : جميعُ الجنْسِ ، وأن أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم تشهدُ يوم القيامة للأنبياءِ على أممهم بالتبليغِ ، وروي في هذا المعنى حديثٌ صحيحٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وروي عنه أنَّ أُمته تشهدُ لكُلِّ نبيٍّ نَاكَرَهُ قومه . ( ت ) وهذا الحديثُ خرَّجه البخاريُّ ، وابن ماجة ، وابن المبارك في «رقائقه » وغيرهم ، قائلاً صلى الله عليه وسلم ، فذلك قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا . . . } الآية .

وكون الرسولِ شهيداً ، قيل : معناه : بأعمالكم يوم القيامة ، وقيل : { عليكم } بمعنى «لَكُمْ » ، أي : يَشْهَدُ لَكُمْ بالإِيمان .

وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة . . . } [ البقرة :143 ] الآية ، قال قتادةُ وغيره : القِبْلة هنا بيْتُ المَقْدِس ، أي : ( إِلا فِتْنَةً ) لنعلَمَ من يتبعك مِنَ العربِ الذين لم يألفوا إِلا مسجد مكَّة ، أو من اليهود على ما قاله الضَّحَّاك ، الذين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : إِنْ صَلَيْتَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ ، اتبعناك ، فأمره اللَّه بالصَّلاة إِليه امتحانا لهم ، فلم يؤمنوا .

وقال ابنُ عَبَّاس : القبلة في الآيَةِ : الكعبةُ ، و{ كُنتَ عَلَيْهَا } بمعنى : أَنْتَ عليه ، كقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [ آل عمران : 110 ] ، بمعنى : أنتم .

{ وَمَا جَعَلْنَاهَا } وَصَرَّفْنَاكَ إلَيْهَا ( إلا فتنةً ) ، وروي في ذلك أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما حُوِّل إِلى الكعبة أكْثَرَ في ذلك اليهودُ والمنافقونَ ، وارتاب بعض المؤمنين ، حتى نزلتِ الآية ، ومعنى : { لِنَعْلَمَ } ، أي ليعلم رسولِي والمؤمنون به ، والقاعدة نَفْيُ استقبال العلْمِ بعد أنْ لم يكُنْ ، و{ يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ }[ البقرة :143 ] عبارةٌ عن المرتدِّ ، والرجوعُ على العَقِبِ أَسوأُ حالات الراجع .

وقوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله . . . } [ البقرة :143 ] الضمير في «كَانَتْ » راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس ، أو إلى التحويلة إلى الكعبة ، حَسْبما تقدَّم من الخلاف في القبلة ، «وكَبِيرَة » هنا معناه : شاقَّة صعبةٌ ، تكبُرُ في الصدور ، ولما حُوِّلَتِ القبلة ، كان من قول اليهود : يا محمَّدُ ، إن كانَتِ الأولى حقاً ، فأنتَ الآنَ على باطلٍ ، وإن كانتْ هذه حقًّا ، فكنْتَ في الأولى على ضلالٍ ، فَوَجَمَتْ نفوسُ بعْضِ المؤمنين ، وأشْفَقُوا على مَنْ مات قبل التحويل من صلاتِهِمُ السالفة ، فنزلَتْ : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم }[ البقرة :143 ] أي : صلاتكم ، قاله ابن عبَّاس وغيره ، وسمَّى الصلاة إِيماناً لَمَّا كانَتْ صادرةً عن الإيمان ، ولأن الإِيمان هو القطب الذي عليه تدور الأعمال ، فذكره إِذ هو الأصل ، ولئلاَّ يندرج في اسم الصلاة صلاةُ المنافقين إِلى بيت المَقْدِسِ ، فذكر المعنَى الَّذي هو ملاك الأمر ، وأيْضاً سُمِّيتْ إِيماناً إِذ هي من شُعَب الإِيمان .

( ت ) وفي العتبية من سماع ابن القاسم قال مالكٌ : قال اللَّهُ تبارَكَ وتعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم }[ البقرة :143 ] قال : هي صلاة المؤمنين إلى بيت المَقْدِس ، قال ابنُ رُشْد : وعلى هذا القول أكثر أهل التفسير ، وقد قيل : إن المعنى في ذلك ، { وما كان اللَّه ليضيعَ إِيمانكم } بفَرْضِ الصلاة عليكم إلى بيْتِ المقدِسِ . انتهى من «البَيَان » .

والرَّأْفَةُ : أعلى منازل الرحْمَة .