قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } : الكافُ فيها الوجهانِ المشهوران كما تقدَّم ذلك غيَر مرةٍ ، وهما : إمَّا النصبُ على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أو على الحالِ من المصدرِ المحذوفِ ، والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً جَعْلاً مثلَ ذلك ولكنَّ المشارَ إليه ب " ذلك " غيرُ مذكورٍ فيما تقدَّم ، وإنما تقدَّم ما يَدُلُّ عليهِ واختلفوا في " ذلك " على خمسةِ أوجهٍ : أحدها أنَّ المشارَ إليه هو الهدفُ المدلولُ عليه بقولِ : { يَهْدِي مَن يَشَآءُ } والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ما هَدَيْناكم الثاني : أنه الجعلُ ، والتقديرُ : جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ذلك الجعلِ الغريبِ الذي فيه اختصاصُكم بالهدايةِ . الثالث : قيل : المعنى كما جَعَلْنا قِبْلَتَكم متوسطةً جَعَلْناكم أمةً وسطاً . الرابع : قيل : المعنى كما جعلنا القِبْلة وسطَ الأرضِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً . الخامس : - وهو أبْعَدُها - أنَّ المشارَ إليه قولُه : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي : مثلُ ذلك الاصطفاءِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً و " جَعَل " بمعنى صَيَّر ، فيتعدَّى لاثنين ، فالضميرُ مفعولٌ أولُ ، و " أمةً " مفعولٌ ثانٍ ووسَطاً نعتُه . والوسَطُ بالتحريكِ : اسمٌ لما بينَ الطرفَيْن ، ويُطْلَقُ على خِيارِ الشيءِ لأن الأوساطَ محميَّةٌ بالأطراف قال حبيب :
كانَتْ هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتْ *** بها الحوادثُ حتى أَصْبَحَتْ طَرَفا
ووسَطُ الوادي خيرُ موضعٍ فيه ، قالَ زهير :
هُمُ وسَطٌ تَرْضى الأنامُ بحُكْمِهِمْ *** إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعْظَمِ
وفَرَّق بعضُهم بين وسَط بالفتح ووسْط بالتسكين ، فقال : كلُّ موضع صَلَح فيه لفظُ " بَيْنَ " يقال بالسكون وإلا فبالتحريك . فتقول : جَلَسْتُ وسْطَ القومِ بالسكون . وقال الراغب : " وسَطُ الشيءِ ما له طرفان متساويا القَدْر ، ويُقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد ، فتقول : وسَطُه صُلْبٌ ، ووسْط بالسكون يُقال في الكميةِ المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو : " وسْط القوم " كذا ، وتحريرُ القولِ فيه هو أن المفتوحَ في الأصلِ مصدر ، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره ، المؤنث والمذكرُ ، والساكنُ ظرفٌ والغالبُ فيه عدمُ التصرُّفِ ، وقد جاء متمكناً في قول الفرزدق :
أتَتْه بمَجْلومٍ كأنَّ جبينَه *** صلاءَةُ وَرْسٍ وَسْطُها قد تَفَلَّقَا
رُوي برفع الطاءِ والضميرُ لصلاءة ، وبفتحِها والضميرُ للجائية .
قوله : " لتكونوا " يجوز في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أن تكونَ لام " كي " فتفيدَ العلة . والثاني أن تكونَ لامَ الصيرورةِ ، وعلى كلا التقديرين فهي حرفُ جر ، وبعدَها أَنْ مضمرةٌ ، وهي وما بعدَها في محلِّ جر ، وأتى ب " شهداء " جمعَ شهيدٍ الذي/ يَدُلُّ على المبالغةِ دونَ شاهِدين وشهود جمعَيْ شاهد .
وفي " على " قولان أحدُهما : أنَّها على بابِها ، وهو الظاهرُ . والثاني أنها بمعنى اللام ، بمعنى : أنكم تَنْقُلون إليهم ما عَلِمْتموه من الوحي والدين ، كما نقله الرسولُ عليه السلام ، وكذلك القولان في " على " الأخيرة ، بمعنى أن الشهادَة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم .
وإنما قُدِّم متعلِّق الشهادة آخِراً وقُدِّم أولاً لوجهين ، أحدُهما - وهو ما ذكره الزمخشري - أن الغرضَ في الأولِ إثباتُ شهادتِهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم يكونِ الرسولِ شهيداً عليهم ، والثاني : أن " شهيداً " أَشْبَهُ بالفواصلِ والمقاطعِ من " عليكم " فكان قولُه " شهيداً " تمامَ الجملةِ ومقطعَها دون " عليكم " . وهذا الوجهُ قاله الشيخُ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبَه من أنَّ تقديمَ المفعولِ يُشْعِرُ بالاختصاصِ وقد تقدَّم ذلك .
قوله : { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ أحدُها : أنَّ " القِبلْة " مفعولٌ أولُ ، و { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } مفعولٌ ثانٍ ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ ، وهذا ما جَزَمَ به الزمخشري فإنَّه قال : { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } ليس بصفةٍ للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جَعَلَ ، يريد : وما جَعَلْنَا القبلةَ الجهةَ التي كنتَ عليها ، وهي الكعبةُ ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبةِ ، ثم أُمِر بالصلاةِ إلى صخرةِ بيتِ المَقْدِس ثم حُوِّلَ إلى الكعبةِ " .
الثاني : أنَّ " القِبلةَ " هي المفعولُ الثاني ، وإنما قُدِّم ، و { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } هو الأول ، وهذا ما اختارَه الشيخُ محتجَّاً له بأنَّ التصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى [ هو المفعولُ الأولُ والملتبِّسُ ] بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني ، ألا ترى أنك تقول : جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً ، والمعنى هنا على هذا التقديرِ ، وما جَعَلْنا القبلةَ - الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ ، ونسبَ الزمخشري في جَعْلِه " القبلةَ " مفعولاً أولَ إلى الوهم . وفيه نظر .
الثالث : أنَّ " القبلة " مفعولٌ أول ، و " التي كنتَ " صفتَهَا ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه : وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً . ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّره : وما جَعَلْنَا القبلةَ التي كنت عليها قبلة ، ولا طائل تحته .
الرابع : أن " القبلةَ " مفعولٌ أولُ ، و " إلا لِنَعْلَمَ " هو المفعولُ الثاني ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلاَّ لنعلمَ ، نحو قولِك : ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ ، أي : كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ .
الخامس : أنَّ " القبلةَ " مفعولٌ أولُ ، والثاني محذوفٌ ، و { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } صفةٌ لذلك المحذوفِ ، والتقديرُ : وما جَعَلْنا القبلةَ القبلةَ التي ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ . وفي قوله " كنت " وجهان أحدهما : أنها زائدةُ ، ويُروَى عن ابن عباس أي : أنتَ عليها ، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب .
والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ نحو : الجلْسة ، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه للصلاة .
وقال قطرب : " يقولون : " ليس له قِبْلَةٌ " أي جهةٌ يتوجه إليها " . وقال غيره : إذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ .
قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً ، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ ، أي : ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا . وقوله " لنعلم " ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ ، أحدُها : لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ . وقيل : على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ رسولَنا فَحَذَفَ ، أو أرادَ بذلك تَعلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه .
قوله : { مَن يَتَّبِعُ } في " مَنْ " وجهان ، أحدُهما : أنها موصولةٌ ، و " يتَّبع " صلتُها ، والموصولُ وصلتُه في محلِّ المفعولِ ل " نعلم " لأنه يتعدَّى إلى واحدٍ . والثاني : أنها استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و " يتَّبعُ " خبرهُ ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنَّها معلِّقة للعلم ، والعلم على بابِه ، وإليه نحا الزمخشري في أحدِ قوليه . وقد رَدَّ أبو البقاء هذا الوجهَ فقال : " لأنَّ يُوجِبُ أَنْ تُعَلَّق " نعلم " عن العملِ ، وإذا عُلِّقَتْ عنه لم يَبْقَ ل " مِنْ " ما تتعلَّقُ به لأنَّ ما بعد الاستفهامِ لا يتعلَّق بما قبله ، ولا يَصِحُّ تعلُّقها بيتَّبعُ لأنها في المعنى متعلِّقةٌ بنَعْلَمَ ، وليس المعنى : أيُّ فريقٍ يَتَّبعُ مِمَّنْ ينقلب " انتهى . وهو رَدٌّ واضحُ إذ ليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على أَنْ يتعلَّقَ مِمَّنْ ينقلِبُ بنعلمَ نحو : عَلِمْتُ مَنْ أحسنَ إليك ممَّنْ أساءَ ، وهذا يُقَوِّي التَجوُّزَ بالعِلْمِ عن التمييز ؛ فإنَّ العلمَ لا يتعدَّى بمِنْ إلا إذا أريد به التمييزُ . وقرأ الزهري : " إلا ليُعْلَمَ " على البناءِ للمفعولِ ، وهي قراءةٌ واضحةٌ لا تَحْتاجُ إلى تأويلٍ ، فإنَّا [ لا ] نُقَدِّرُ ذلك الفاعل غيرَ اللهِ تعالى .
قوله : { عَلَى عَقِبَيْهِ } في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، أي : يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه ، وهذا مجازٌ ، وقُرىء " على عَقْبَيْه " بسكون القاف وهي لغةُ تميم .
قوله : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } " إنْ " هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر ، وهو أغلبُ أحوالِها ، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ ، وهل هي لامُ الابتداءِ أو لامٌ أخرى أُتِيَ بها للفرقِ ؟ خلافٌ مشهور ، وزعم الكوفيون أنها بمعنى " ما " النافية وأنَّ اللام بمعنى إلاَّ ، والمعنى : ما كانت إلا كبيرةً ، نقل ذلك عنهم أبو البقاء ، وفيه نظرٌ ليس هذا موضعَ تحريرِه .
والقراءةُ المشهورةُ نصبُ " كبيرةً " " على خبر " كان " واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ وقرأ اليزيدي [ عن أبي عمرو ] برفعِها ، وفيه تأويلان ، أحدُهما - وذكره الزمخشري - :أنَّ " كان " زائدةٌ ، وفي زيادتها عاملةً نظرٌ لا يَخْفى ، وقد استدلَّ الزمخشري على ذلك بقوله :
فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ *** وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فإنَّ قولَه " كرام " صفةٌ لجيران ، وزادَ بينهما " كانوا " وهي رافعةٌ للضميرِ ، ومَنْ مَنَع ذلك تأوَّل " لنا " خبراً مقدماً ، وجملةُ الكونِ صفةٌ لجيران . والثاني : أنَّ " كان " غيرُ زائدةٍ ، بل يكونُ " كبيرةً " خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ ، والتقديرُ : وإنْ كانَتْ لهي كبيرةٌ ، وتكونُ هذه الجملةُ في محلّّ نصبٍ خبراً لكانت ، ودخلت لام الفرقِ على الجملة الواقعةِ خبراً ، وهو توجيهٌ ضعيفٌ ، ولكن لا تُوَجَّه هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرَ مِنْ ذلك .
قوله : { إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ } متعلِّقٌ ب " كبيرة " ، وهو استثناءٌ مفرغٌ ، فإنْ قيل : لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه ، وشرطُ الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك ، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي ، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] ، وقال الشيخ : " هو استثناءٌ من مستنثىً محذوفٍ تقديرُه : وإنْ كانت لكبيرةً على الناسِ إلا على الذين ، وليسَ استثناءً مفرغاً لأنه لم يتقدَّمْه نفيٌ ولا شِبْهُه " وقد تقدم جوابُ ذلك .
قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ } في هذا التركيب وما أشبهه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ } [ آل عمران : 179 ]
{ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] قولان أحدُهما : - قول البصريين - وهو أنَّ خبرَ " كان " محذوفٌ ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار " أَنْ " وجوباً ، فينسبكُ منها ومن الفعلِ مصدرٌ مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ ، والتقديرُ : وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم ، وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ . واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً . ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ ، ويَدُلُّ على مذهبِ البصريين التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قوله :
سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو *** . . . . . . . . . . . . . . . .
والقولُ الثاني للكوفيين : وهو أنَّ اللامَ وما بعدَها في محلِّ الخبرِ ، ولا يُقَدِّرون شيئاً محذوفاً ، ويزعمون أنَّ النصبَ في الفعلِ بعدَها بنفسِها لا بإضمارِ أَنْ ، وأنَّ اللامَ للتأكيدِ ، وقد رَدَّ عليهم أبو البقاء فقال : " وهو بَعيدٌ لأنَّ اللاَم لامُ الجرِّ و " أَنْ " بعدها مُرادَةٌ ، فيصيرُ التقدير على قولهم : وما كان الله إضاعةَ إيمانكم ، وهذا الردُّ هنا لازمٍ لهم ، فإنَّهم لم يقولوا بإضمارِ " أَنْ " بعد اللام كما قَدَّمْتُ نقلَه عنهم ، بل يزعمون النصبَ بها وأنها زائدةٌ للتأكيدِ ، ولكنْ للردِّ عليهم موضعٌ غيرُ هذا .
واعلم أنَّ قولَك : " ما كان زيدٌ ليقومَ " بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من : " ما كان زيدٌ يقومُ " ، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط ، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه ، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ .
وقرأ الضَّحاك : " ليُضَيِّع " بالتشديد ، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من " ضاع " القاصر ، يقال : ضاع الشيء يضيع ، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه ، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي : فاحَ فمادةٌ أخرى .
قوله : { لَرَءُوفٌ } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر : لَرُؤفٌ على وزن : نَدُس ، وهي لغةٌ فاشية كقوله :
وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ *** يقاتِلُ عَمَّه الرَّؤُفَ الرَّحيما
يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً *** كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِ
وقرأ الباقون : " لَرَؤُوف " على زنة شَكُور ، وقرأ أبو جعفر : " لَرَوُفٌ " من غير همزٍ ، وهذا دأبُه في كلِّ همزةٍ ساكنةٍ أو متحركةٍ . والرأفة : أشدُّ الرحمة فهي أخصُّ منها ، وفي رؤوف لغتان أَخْرَيَان لم تَصِلْ إلينا بهما قراءةٌ وهما : رَئِفٌ على وزن فَخِذ ، ورَأْفٌ على وزن صَعْب . وإنما قُدِّم على " رحيم " لأجلِ الفواصل .