بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } والوسط هو العدل ، كما قال تعالى في آية أخرى : { قال أوسطهم } [ القلم : 28 ] ، أي أخيرهم وأعدلهم . والعرب تقول : فلان من أوسط قومه ، أي خيارهم وأعدلهم ، ومنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هو أوسط قريش حسباً . أي جعلناكم عدلاً للخلائق . { وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } ، يعني للنبيين . { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } بالتصديق لكم وذلك أن الله تعالى إذا جمع الخلق يوم القيامة فيسأل الأنبياء عليهم السلام عن تبليغ الرسالة كقوله تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً } [ الأحزاب : 8 ] فيقولون : قد بلغنا الرسالة ، فتنكر أممهم تبليغ رسالته ، فتشهد لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة فتطعن الأمم في شهادتهم ، فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم فذلك معنى قوله تعالى : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وَمعنى قوله { وكذلك } أي وكما هديناكم للإسلام والقبلة الكعبة فكذلك جعلناكم أمة عدلاً لتكونوا شهداء على الناس .

وللآية تأويل آخر : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } أي عدلاً ، { لتكونوا شهداء على الناس } يقول : إنكم حجة على جميع من خلقنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حجة عليكم . والشهادة في اللغة : هي البيان ، فلهذا يسمى الشاهد بيِّنة ، لأنه بيَّن حق المدعي ، يعني أنكم تبيِّنون لمن بعدكم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين لكم .

قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } ، أي ما أمرناك بالصلاة إلى القبلة الأولى ، ويقال : ما حولنا القبلة التي كنت عليها ، { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } . يقول : إلا لنختبر ونبيِّن { مَن يَتَّبِعُ الرسول } ، يطيع الرسول في تحويل القبلة ، { مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } ، أي يرجع إلى دينه بعد تحويل الله القبلة . { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } ، أي وقد كانت لثقيلة وهو صرف القبلة . { إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } ، أي حفظ الله قلوبهم على الإسلام وأكرمهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم في تحويل القبلة ، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله فإخواننا الذين ماتوا ما صنع الله بصلاتهم التي صلوا إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } ، يعني لم يبطل إيمانكم وإنما تحولت قبلتكم . ويقال : يعني صلاتهم إلى بيت المقدس ، التي صلوا إليها وماتوا عليها لأن اليهود قالوا : قد بطل إيمانكم حين تركتم القبلة ، فنزل { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } يعني يبطل إيمانكم .

قال الضحاك : يعني لم يبطل تصديقكم بالقبلتين . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ، يعني بالمؤمنين رحيم حين قبلها منهم ولم يضيع إيمانهم . قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : { لَرَؤُفٌ } بالهمزة على وزن رعف ، وقرأ الباقون : { والله رَؤوفٌ } على وزن فعول في جميع القرآن ، وهما لغتان ومعناهما واحد .