فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

{ وسطا } عدولا وأخيارا

{ ينقلب على عقبيه } يرتد عما كان عليه ويرجع

{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا }- كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطا . . . الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم ومن غيرهم وأما الوسط فإنه في كلام العرب الخيار . . . وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسطا لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين قالوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبيائهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها-{[509]} . { ولتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } اصطفى الله تعالى هذه الأمة واختارها واجتباها لتكون شاهدة على الأمم وخاتم النبيين محمد صلوات ربنا عليه وسلامه يشهد بعدالة أمته ويزكيها وكلمة { عليكم } يراد بها لكم لكن لما كان الشهيد بمعنى الرقيب جئ بعلى . روى البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قول الله عز وجل { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } . . . ) - وقالت طائفة معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت جنازة فأثني عليها خير فقال ( وجبت وجبت وجبت ) ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شر فقال ( وجبت وجبت وجبت ) فقال عمر فدى لك أبي وأمي ؛ مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت ( وجبت وجبت وجبت ) ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت ( وجبت وجبت وجبت ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض ) أخرجه البخاري بمعناه-{[510]} ؛ { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } ولم نجعلك تتجه في صلاتك أو أمرك إلى بيت المقدس لشيء من الأشياء إلا لينكشف أثر علمنا في أهل الثبات على الحق الذين يصدقونك ولا يردون أمرا مما شرعته لكم وفي الذين يعبدون على حرف فإن أصابتهم فتنة واختبار ارتدوا عن دينهم ؛ مما يقول صاحب روح المعاني : واستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث العلم في المستقبل -وهو تعالى لم يزل عالما- وأجيب بوجوه : الأول –أن ذلك على سبيل التمثيل أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم ؛ الثاني - أن المراد العلم الحالي الذي يدور عليه فلك الجزاء أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل فالعلم مقيد بالحادث والحدوث راجع إلى القيد ؛ الثالث- أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص . . . . ا ه .

لكن صاحب الجامع لأحكام القرآن نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن معنى { لنعلم } لنرى والعرب تضع العلم مكان الرؤية والرؤية مكان العلم كقوله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك . . . }{[511]} بمعنى ألم تعلم ؛ ثم قال : معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة علم ما يكون قبل أن يكون ، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى { . . . وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء . . . }{[512]} { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين . . . }{[513]} وما أشبه ا ه . { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } قال الأخفش أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة إلا على من خلق الله الهدى وكتب الإيمان في قلوبهم كما قال تعالى { . . . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان . . . }{[514]} ؛ { وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم } العلماء على أنها نزلت في الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس{[515]} وقالوا سميت الصلاة إيمانا لاشتمالها نية وقول وعمل ، وربنا جل ثناؤه وتقدست أسماؤه عظيمة رأفته بعباده أن يضيع ثواب عملهم رحيم به أن يحرمهم أجرهم- أي ولا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فإني لهم على طاعاتهم إياي بصلاتهم التي صلوها كذلك مثيب لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي ولا تحزنوا عليهم فإني غير مآخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله-{[516]}


[509]:ما بين العارضتين من جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر الطبري.
[510]:ما بين العارضتين مما نقل عن أبو عبد الله القرطبي صاحب الجامع لأحكام القرآن الكريم.
[511]:من سورة الفيل الآية 1.
[512]:من سورة آل عمران من الآية 140.
[513]:من سورة محمد عليه السلام. من الآية 31.
[514]:من سورة المجادلة الآية 22.
[515]:والدليل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال (لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم...} الآية قال هذا حديث حسن صحيح.
[516]:ما بين العارضتين من جامع البيان.