تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

الآية 143 وقوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) وكذلك لا يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على العطف على ما سبق من الخطاب ، وهو ، والله أعلم ، معطوف على قوله : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم ) الآية [ البقرة : 136 ] ؛ كأنه قال : كما وفقكم على الإيمان بما ذكر ، وهداكم للإسلام ، كذلك جعلكم ( أمة وسطا ) يعني عدلا ( لتكونوا شهداء على الناس ) .

ثم اختلف في قوله : ( على الناس ) ؛ قيل ( على ) بمعنى اللام ، أي : للناس ، وهذا جائز في اللغة سائغ كقوله : ( وما ذبح على النصب ) [ المائدة : 3 ] ، أي للنصب ؛ وقيل : ( على ) بمعنى على أن تشهدوا على الأمم للأنبياء على تبليغ الرسالة ، ويشهد لهم الرسول بالعدالة . وفيه دليل قبول شهادة أهل الإسلام على أهل الكفر ورد شهادتهم علينا ؛ لأنه لو قبلت شهادتنا عليهم على التبليغ ، ثم شهد أولئك بأنهم لم يبلغوا لكان فيه تناقض . فدل أن شهادتنا تقبل عليهم ، ولا تقبل شهادتهم علينا ، والله أعلم .

وقوله : ( لتكونوا شهداء على الناس ) الذين أبوا إجابة الرسل ( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) إن جحدتم الرسالة : وذلك قوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) الآية ؛ أضاف الله إليه جعلهم أمة وسطا . ثبت أن لله في فعل ذلك فعلا ، به ذكر مننه ، والله أعلم .

قوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) فالوسط العدل ؛ أخبر عز وجل أنه جعل هذه الأمة عدلا ؛ فالعدل هو المستحق للشهادة والقبول لها . ففيه [ وجوه :

الأول ]{[1693]} الدلالة على جعل [ إجماع هذه الأمة ]{[1694]} حجة ، لأنه وصفها بالعدالة ، وصيرها من أهل الشهادة ، فإذا اجتمعوا على شيء ، وشهدوا به لزم قبول ذلك ، والحكم بما شهدوا ، والشهادة فيه أنه من عند الله وقع لهم ذلك .

والثاني : قال : ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) [ التوبة : 119 ] ؛ أخبر أن فيهم صدقة يلزم اتباعهم .

والثالث : ما قال عز وجل ( ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ) [ النساء : 115 ] ، ولا يجوز الوعيد في مثله إذا لم يكن .

والرابع : قوله : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [ النساء : 59 ] ؛ أمر عز وجل عند التنازع بالرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فدل أنه إذا لم يتنازع لم يجب الرد إلى ما ذكر ، والله أعلم .

وقوله : ( لتكونوا شهداء على الناس ) روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( يسأل الله تعالى يوم القيامة الأمم عن تبليغ الأنبياء رسالته إليهم ، فينكرون ، ثم يأتي بهذه الأمة يشهدون عليهم بالتبليغ ) ، فذلك قوله : ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) يعني لهم بالعدالة والتزكية ، والله أعلم .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي قوله : ( لتكونوا شهداء على الناس ) وجهان :

أحدهما : على الكفرة ؛ وفي ذلك قبول شهادة المسلمين عليه ورد شهادتهم عليهم لما تتناقض ، فتزول منفعة الشهادة عليهم .

والثاني : من شهدوا{[1695]} رسول الله صلى الله عليه وسلم [ هم ]{[1696]} شهود على من ، يكون بعدهم ؛ وفي ذلك دليل من تأخر الصحابة ، رضوان الله عليهم أجمعين ، عن الخلاف لهم : ( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) إذا خالفتموه ، وعصيتموه ) .

وقوله : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ) ؛ فهذا ، والله أعلم ، لما كانوا في المتابعة على قسمين : منهم من تبع هواه ، ومنهم من تبعه لما علم انه الحق من عند الله ( فامتحنهم الله ]{[1697]} عز وجل ليتبين لهم ، ويقع علم ذلك عندهم من المتبع له بهواه ومن المتبع له بالأمر والطاعة ؟ وقيل أيضا في قوله : ( لنعلم من يتبع الرسول ) ؛ قيل : ليعلم ما قد علم /21 –أ/ أنه يكون كائنا ، وليعلم ما قد علم{[1698]} أنه يوجد ، وقيل : إنه يجوز أن يراد بالعلم المعلوم ؛ ومعناه{[1699]} ، والله أعلم : إلا ليكون المتبع له والمنقلب على عقبيه .

ثم الأصل في هذا ونحوه من قوله : ( حتى نعلم المجاهدين منكم ) [ محمد : 31 ] ؛ أنا لا نصف الله تعالى بالعلم في الخلق . قال غير الحال [ التي الخلق عليها ؛ لأن وصفنا إياه بالعلم على ]{[1700]} غير الحال التي عليها الخلق يومئ إلى وصفه بالجهل ؛ لأنه لا يجوز أن يقال : يعلم من الساكن في حال السكون حركة أو السكون في حال الحركة ، أو يعلم من الجالس قياما أو القائم جلوسا . وكذلك لا يجوز أن يقال : يعلم من العدم موجودا أو من الموجود معدوما في حال وجوده لأنه وصف بعلم ما ليس [ موجود ]{[1701]} ، وهو محال ، وبالله العصمة .

وقيل : إن كل علم يذكر على حدوث المعلوم يذكر بذكر الوقت للمحدث بفتح الدال : أي يستند علمه إلى المحدث بذكر الوقت : لأنه{[1702]} لا يفهم بذكره قدم المعلوم في الأزل . وإذا وصفنا الله بما هو حقيقة بلا ذكر الخلق ، مع ذلك نصفه بالذي نصفه به في الأزل لتعاليه عن التغير والزوال وعن الانتقال من حال إلى حال ، ولا قوة إلا بالله .

وقوله : ( وإن كانت لكبيرة ) يعني تحويل القبلة ( لكبيرة ) ثقيلة على من كان اتباعه لهواه دون أمر أمر به إلا على الذي يتبع أمر الله فيها ، ويعتقد طاعته ، فإنها ليست ثقيلة عليه{[1703]} ولا كبيرة .

وقوله : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) قال بعض أهل التفسير : إن قوما صلوا إلى بيت المقدس ، ثم ماتوا على ذلك ، فلما حولت القبلة إلى الكعبة قالوا : ضاعت صلواتهم التي صلوا إليها إشفاقا عليهم . لكن هذا بعيد لا يحتمل لأن الذي اعتقد الإسلام من الصحابة رضوان الله عليهم وعرف موقع أمر الله وأمر رسوله ، لا يجوز أن يخطر ببالهم حتى يسألوا عن ذلك ، بل كانوا أعلم بالله من أن يجدوا{[1704]} عدو الله فيهم ، ذلك ، ولأنهم قوم يأتمرون بأمر الله وطاعته ، ويموتون على التصديق ، وعلموا أنهم مؤمنون . ثم يشكون في أحوالهم ؟

لكن إذا كان ثم سؤال ، فهو من اليهود الذين اعتقدوا بطلان التناسخ في الأحكام والشرائع ، فكانوا يحتجون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ينهى عن التفريق والاختلاف ، ثم يدعوهم إلى ذلك ، أو [ من ]{[1705]} قوم من الكفرة آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفرطوا في التكذيب له والخلاف والمعاداة ، فأرادوا الإسلام ، فظنوا أن ما كان منهم من العصيان والتكذيب يمنع قبول الإسلام ، فأنزل الله عز وجل ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) لما كان منكم في حال الكفر ، ألا ترى أن آخر الآية يدل عليه ؟

وقوله : ( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) ؛ أخبر أنه رحيم يتجاوز عمن تاب ، أو [ عن ]{[1706]} قوم علموا أن لا تناسخ في الدين ولا اختلاف فيه ، فظنوا أن نسخ الأحكام وتبديلها يوجب اختلافا في الدين وتفرقا فيه .

فنقول : إن الإيمان في الأصل بالذي لا يقع على اعتقاد الصلاة إلى جهة دون جهة ، بل يقع على الائتمار . فالإيمان من الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، الذين ماتوا على اعتقاد{[1707]} الائتمار ، فهم مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى بيت المقدس ، مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى الكعبة ؛ فلا تفرق ولا اختلاف في الإيمان ؛ إذ في الأصل به وقع الاعتقاد للائتمار ، وبالله التوفيق .

ثم قوله : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ؛ تأويله : أي لا يضيع إيمانكم بالصلاة إلى بيت المقدس . ولو كان على الصلاة فهو لوجهين :

أحدهما : أنها إنما قامت بالإيمان ، فهو سبب لها ، وقد يذكر الشيء باسم سببه .

والثاني : ( أن اليهود عرفوه إيمانا ، فورد الخطاب على ما عندهم معروف ، كقوله : ( فراغ إلى آلهتهم ) [ الصافات : 91 ] ؛ لا أن كان ثم آلهة ، لكن لما عندهم ، وكذلك قوله : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] ؛ لا أن كان ثم خالق سواه ، ولكن لما عرفوا [ أن ]{[1708]} لكل صانع خالقا ، يخرج الخطاب على ما عرفوا هم ، فعلى ذلك الأول والله أعلم .


[1693]:- أدرج في ط ع بدلها العبارة التالية: الدلالة على حجة إجماع هذه الأمة وجعلت عنوانا ساقطة من الأصل و م.
[1694]:- من ط ع، في الأصل و م: هذه الإجماع.
[1695]:- في النسخ الثلاث: شهد.
[1696]:- ساقطة من النسخ الثلاث
[1697]:- ساقطة من ط ع.
[1698]:في ط ع: علمه.
[1699]:- في النسخ الثلاث: معناه.
[1700]:- من ط ع و ط م، ساقطة من الأصل.
[1701]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1702]:- في النسخ الثلاث: لأن.
[1703]:- من ط ع و ط م، في الأصل: عليهم.
[1704]:- في النسخ الثلاث: يجد.
[1705]:- ساقطة من النسخ الثلاث، والصواب إثباتها.
[1706]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1707]:- من ط ع و ط م، في الأصل: اعتقادهم.
[1708]:- ساقطة من النسخ الثلاث.