السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

وقوله تعالى : { وكذلك } الكاف فيه للتشبيه أي : كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناكم { جعلناكم } يا أمة محمد { أمة وسطاً } أي : خياراً عدولاً قال تعالى : { قال أوسطهم } ( القلم ، 28 ) أي : خيرهم وأعدلهم ، وخير الأشياء أوسطها لا إفراطها ولا تفريطها ؛ لأنّ الإفراط المجاوزة لما لا ينبغي والتفريط التقصير عما ينبغي كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وبين الجبن ؛ لأنّ الأفراد يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية محفوظة .

روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال : ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان فقال : أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل ) وقوله تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } أي : يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم { ويكون الرسول عليكم شهيداً } أي : يزكيكم ويشهد بعدالتكم علة للجعل أي : لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد ولا ظلم بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلغوا ونصحوا ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات والإعراض عن الآيات ، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين قبلكم وبعدكم .

روي أن الله تعالى يجمع الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، ثم يقول لكفار الأمم : ألم يأتكم نذير ، فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين علموا أنهم قد بلغوا ، وإنما أتوا بعدنا فتسأل هذه الأمة ، فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق ، على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } ( النساء ، 41 ) .

فإن قيل : هلا قيل لكم شهيداً إذ شهادته لهم لا عليهم أجيب : بأنّ الشهيد لما كان كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ومنه قوله تعالى : { والله على كل شيء شهيد } ( المجادلة ، 6 ) .

فإن قيل : لم أخرت صلة الشهادة أوّلاً وقدّمت آخراً أجيب : بأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم { وما جعلنا } أي : صيرنا لك { القبلة } الآن وقوله تعالى : { التي كنت عليها } ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي جعل أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أولاً وهي الكعبة وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إليها ، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفاً لليهود فصلى إليها ستة أو سبعة عشر شهراً ثم حوّل إلى الكعبة { إلا لنعلم من يتبع الرسول } فيصدّقه { ممن ينقلب على عقبيه } أي : يرجع إلى الكفر شكاً في الدين وظناً أنّ النبيّ في حيرة من أمره ، وفي الحديث : ( أنّ القبلة لما حوّلت ارتدّ قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا : رجع محمد إلى دين آبائه ) .

فإن قيل : كيف : قال الله تعالى لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها أجيب : بأنه أراد به علم ظهور وهو العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب ، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد ، ومعناه أي : لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ونظيره قوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } ( آل عمران ، 142 ) وقيل : ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته تعالى ؛ لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده وقيل : معناه لتمييز التابع من الناكص كما قال الله تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب } ( الأنفال ، 37 ) فوضع العلم موضع التمييز التابع ؛ لأنّ بالعلم يقع التمييز ، فالعلم سبب والتمييز مسبب ، فأطلق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز .

تنبيه : العلم في الآية إمّا بمعنى المعرفة ، فيتعدى إلى مفعول واحد وهو من يتبع ، وإمّا معلق لما في من معنى الاستفهام ، وإمّا أن يكون مفعوله الثاني ممن ينقلب أي : ليعلم من يتبع الرسول مميزاً ممن ينقلب .

فإن قيل : على الأوّل كيف يكون العلم بمعنى المعرفة والله تعالى لا يوصف بها ؛ لأنها تقتضي سبق جهل والله منزه عن ذلك أجيب : بأنّ ذلك لشيوعها فيما تقتضي أن يكون مسبوقاً بالعدم وليس العلم الذي بمعنى المعرفة ، كذلك إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين ، بل قال الوليّ العراقي : قد وقع إطلاق المعرفة على الله تعالى في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة أو كلام أهل اللغة وقوله تعالى : { وإن } هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : وإنها { كانت } أي : التولية { لكبيرة } شاقة على الناس { إلا على الذين هدى الله } منهم وهم الثابتون على الإيمان { وما كان الله ليضيع أيمانكم } أي : ثباتكم على الإيمان ، وإنكم لم تزلزلوا ولم ترتابوا بل شكر سعيكم وأعدّ لكم الثواب العظيم أو صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه ؛ لأنّ سبب نزولها ( أنّ حييّ بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس ، إن كانت هدى فقد تحوّلتم عنها ، وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها ، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة ، فقال المسلمون : إنّ الهدى ما أمر الله تعالى به ، والضلالة ما نهى الله تعالى عنه قالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا ، وكان قد مات قبل أن تحوّل القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار ، والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله لقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، فأنزل الله تعالى هذه { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاتهم ) .

فإن قيل : لم قدم الرؤوف على الرحيم مع أنه أبلغ ؟ أجيب : بأنه قدم محافظة على الفواصل ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي لرؤوف بقصر الهمزة ، والباقون بمدّها ولورش في الهمزة المدّ والتوسط والقصر على أصل .