استئناف نشأ عن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } [ آل عمران : 10 ] إذ كانت إضافة أموالٍ وأولاد إلى ضمير « هم » دالة على أنّها معلومة للمسلمين . قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة ؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات . وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها ؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس .
والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه ، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً .
الحرب أول ما تكون فتيَّة *** تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول
فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن : التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى : { تريد زينة الحياةِ الدنيا } [ الكهف : 28 ] . وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة :
أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا *** جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا
وفي حديث « سنن أبي داود » : أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه : إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح . قال أبو برزة : « ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد » . فقال عبيد الله : « إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن » .
والشهوات جمع شهوة ، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي ، والشهوة بزنة المَرّة ، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة . وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف . وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبُّها ، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها ؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحبّ بمزيَّن ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها ، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق .
والوجه عندي إمّا أن يجعل { حبّ الشهوات } مصدراً نائباً عن مفعول مطلق ، مبيّناً لنوع التزيين : أي زيّن لهم تزيين حب ، وهو أشدّ التزيين ، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل ، وأصل الكلام : زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً ، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائباً عن الفاعل ، كما جعل مفعولاً في قوله تعالى : { فقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي } [ ص : 32 ] . وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول ، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة . وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبّر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضارّ ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات ، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال .
وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جُهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عُني بكذا ، واضْطُرّ إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عمّا في المزيَّن من المساوي ؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصوداً بحال ، والمزيِّنُ في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهواتتِ ، وذلك أمر جبلِيٌّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى : { وذلّلناها لهم فمنها رَكوبهم ومنها يأكلون } [ يس : 72 ] .
ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة ، كان فاعلُه على الحقيقة هو خالقَ هذه الجبلاّت ، فالمزيِّن هو الله بخَلْقه لا بِدَعوته ، وروى مثل هذا عن عُمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة . كان المزّيِّن هو مَيْلَ النفس إلى المشتهى ، أو ترغيبَ الداعين إلى تناول الشهوات : من الخِلاّن والقُرناء ، وعن الحسن : المزيِّن هو الشيطان ، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ، وقصَرَه على هذا وهو بعيد لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلاّ إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث : « قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوَته ولَهُ فيها أجْر فقال : أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر ، فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجر » وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام ، والمعرَّضة للزوال ، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية ، وتنال النعيم الأبدي العظيم ؛ كما أشار إليه قوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب } .
وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما ، بيان بأصول الشهوات البشرية : التي تجمع مشتهيَات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل ؛ إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة ، وفي الحديث : « ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء » ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع ، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسان .
ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع : إذ جعل الله في الوالدين ، من الرجال والنساء ، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما ، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل ، وببقائه بقاء النوع ، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه ، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع ؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف ، بعد القوة ، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه ، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه ، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه .
والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء ، والنقدان منهما : الدنانيرُ والدراهم ، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها .
{ والقناطير } جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل ، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية ، كما نقله النقّاش عن الكلبي ، وهو الصحيح ؛ فإن أصله في اللاّتينية « كِينْتال » وهو مائة رطل . وقال ابن سيده : هو معرّب عن السريانية . فما في « الكشاف » في سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قنطَرت الشيءَ إذا رفعتَه ، تكلّف . وقد كان القنطار عند العرب ، وزنا ومقداراً ، من الثروة ، يبلغه بعض المثرين : وهو أن يبلغ مالُه مائةَ رطل فضة ، ويقولون : قنطَر الرجلُ إذا بلغ ماله قنطاراً وهو اثنا عشر ألف دينارٍ أي ما يساوي قنطاراً من الفضة ، وقد يقال : هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب .
و{ المقنطرة } أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة ، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوفِ ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفةِ ، يؤذن ذلك الاشتقاقُ بمبالغة في الحاصل به كقولهم : لَيْلٌ ألْيَلُ ، وظِلٌ ظَلِيلٌ ، وداهِيَةٌ دَهْيَاء ، وشِعْرٌ شَاعِر ، وإبِل مُؤَبَّلَة ، وآلاف مُؤَلَّفَة .
{ والخيل } محبوبة مرغوبة ، في العصور الماضية وفيما بعدها ، لم يُنسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّاً وبحراً وجوّاً ، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية ، ومن سَفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار ، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفظ المصفَّى ، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى ، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل ، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس ، والعناية بالمسابقة بين الأفراس .
وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البَذخ على محبّة ركوبها ، قال امرؤ القيس
* كأنِّيَ لَمْ أركَبْ جَوادَا لِلَذّةٍ *
و { المسوّمة } الأظهر فيه ما قيل : إنّه الراعية ، فو مشتق من السَّوْم وهو الرعْي ، يقال : أسام الماشية إذا رعَى بها في المرعى ، فتكون مادة فعَّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مدداً طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم ، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل " فأطال لَها في مَرْج أو روضة " .
وقيل : المسوّمة من السُّومَة بضم السين وهي السِّمة أي العلامة من صوف أو نحوه ، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويهاً بكرمها وحسن بلائها في الحرب ، قال العَتَّابي :
ولَوْلاَهُنّ قد سَوّمْتُ مُهري *** وفي الرحمان للضعفاء كاف
يريد جعلت له سُومة أفراسِ الجهاد أي علامتَها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في سورة [ البقرة : 273 ] .
و { الأنعام } زينة لأهل الوبر قال تعالى : { ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] . وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى : { والأنعامَ خلقها لكم فيها دفء } الآيات في سورة [ النحل : 5 ] ، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها ، ويُعنَون بالارتياح إليها إجمالاً .
{ والحرث } أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس ، وأطلق هذا المصدر على المَحروث فصار يطلق على الجَنّات والحوائطِ وحقول الزرع ، وتقدم عند قوله تعالى : { نساؤكم حَرث لكم } في سورة [ البقرة : 223 ] وعند قوله : { ولا تَسقي الحرث } [ البقرة : 71 ] فيها .
والإشارة بقوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا } إلى جميع ما تقدم ذكره ، وأُفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لغير معيَّن ، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البُعد ، والبُعد هنا بُعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة .
والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة .
ومعنى { والله عنده حسن مئاب } أنّ ثواب الله خير من ذلك . والمآب : المرجع ، وهو هنا مصدرٌ ، مَفْعَل من آب يَؤوب ، وأصله مَأوَب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، وقلبت الواو ألفاً ، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة .