الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

وقوله تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات . . . } [ آل عمران :14 ] .

هذه الآيةُ ابتداءُ وعظٍ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توبيخٌ ، والشهواتُ ذميمةٌ ، واتباعها مُرْدٍ ، وطاعتها مَهْلَكَةٌ ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ، وَحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ ) ، فَحَسْبُكَ أَنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِهَا ، فمَنْ واقعها ، خلص إِلى النَّار .

قلْتُ : وقد جاءت أحاديثٌ كثيرةٌ في التزْهِيدِ في الدنيا ، ذكَرْنا من صحيحها وحَسَنِهَا في هذا المُخْتَصَرِ جملةً صالحةً لا توجد في غيره من التَّفَاسير ، فعلَيْكَ بتحصيله فتَطَّلعَ فيه على جواهرَ نفيسةٍ ، لا توجَدُ مجموعةً في غيره ، كما هي بحَمْدِ اللَّه حاصلةٌ فيه ، وكيف لا يكونُ هذا المختصر فائقاً في الحُسْن ، وأحاديثه بحَمْد اللَّه مختارةٌ ، أكثرها من أصولِ الإسلامِ الستَّةِ : البخاريِّ ، ومسلمٍ ، وأبي داود ، والتِّرمذيِّ والنَّسائِيِّ ، وابنِ مَاجَة ، فهذه أصول الإِسلام ، ثم مِنْ غيرها كصحيح ابن حِبَّانَ ، وصحيح الحاكمِ ، أعني : المُسْتَدْرَكَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ ، وأَبِي عَوَانَةَ ، وابْنِ خُزَيْمَةَ ، والدَّارِمِيِّ ، وَالمُوَطَّأِ ، وغيرِها من المسانيدِ المشهورةِ بيْن أئمَّة الحديثِ ، حَسْبما هو معلومٌ في علْمِ الحديث ، وقصْدِي من هذا نُصْحُ من اطلع على هذا الكتاب ، أنْ يعلم قَدْرَ ما أنعم اللَّه به علَيْه ، فإِن التحدُّث بالنعم شُكْر . ولنرجَعْ إلى ما قصدناه من نَقْلِ الأحاديث : روى الترمذيُّ عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنْ أَرَدتِّ اللُّحُوقَ بِي ، فَلْيَكْفِيكِ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبَ ، وإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ ، وَلاَ تَسْتَخْلِفِي ثَوْباً حتى تَرْقَعِيهِ ) حديث غَرِيبٌ ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ ) ، خرَّجه أبو داود وقد نقله البغويُّ في «مصابيحه » ، والبَذَاذَةُ : هي رث الهَيْئَة . اه و{ القَناطير } : جمع قِنْطَارٍ ، وهو العُقْدة الكثيرةُ من المال ، واختلف النَّاس في تحريرِ حَدِّه ، وأصحُّ الأقوالِ فيه : ما رواه أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : ( القِنْطَارُ أَلْفٌ ومِائَتَا أُوقِيَّةٍ ) ، لكنَّ القنْطارَ على هذا يختلفُ باختلاف البلادِ ، في قَدْر الأَوقِيَّةِ .

وقوله : { المقنطرة } ، قال الطبريُّ : معناه المُضَعَّفة ، وقال الربيعُ : المالُ الكثيرُ بعْضُه على بعض .

( ص ) : { المقنطرة } : مُفَعْلَلَة ، أو مُفَنْعَلَة ، مِن القِنْطَار ، ومعناه : المجتمعة .

( م ) : أبو البقاء ، و{ مِنَ الذهب } : في موضعِ الحالِ من { المقنطرة } اه .

وقوله : { المسومة } : قال مجاهدٌ : معناه المُطَهَّمة الحِسَان ، وقال ابن عبَّاس ، وغيره : معناه الراعيَةُ ، وقيل : المُعَدَّة ، { والأنعام } : الأصنافُ الأربعةُ : الإِبلُ ، والبَقَرُ ، والضَّأْنُ ، والمَعْز .

( ص ) : و( الأنعامُ ) واحدُها نَعَمٌ ، والنَّعَمُ : الإِبل فقَطْ ، وإِذا جُمِعَ ، انطق على الإِبلِ ، والبقرِ ، والغنمِ اه .

{ والحرث } : هنا اسمٌ لكلِّ ما يُحْرَثُ من حَبٍّ ، وغيره ، و( المَتَاعُ ) : ما يستمتعُ به ، وينتفعُ مدَّةً مَّا منحصرة ، { والمآب } : المَرْجِعُ ، فمعنى الآية : تقليلُ أمر الدُّنيا وتحقيرُها ، والترغيبُ في حُسْن المَرْجِع إِلى اللَّه تعالى .