ثم ذكر ما هو كالشرح والبيان لمعتبر الإنسان وهو أنه { زين للناس } اللذات الجسمانية والآخرة . وهي عالم الروحانيات - خير وأبقى ، وأنها معدة لمن واظب على العبودية واتصف بالخصال الحميدة . وأما ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه يمنعه من إتباعه حب المال والجاه . وروينا أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها ، والآخرة خير . والمزين هو الله تعالى . أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها ، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان ؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً }[ الكهف : 7 ] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها .
كان الصاحب بن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب . ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثواباً . وعن الجبائي واختاره القاضي ، أن كل ما كان واجباً أو مندوباً أو مباحاً فالتزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان . وحكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك . واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات ، وإن تزيينها وظيفة الشيطان . وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده . وقال في معرض الذم { ذلك متاع الحياة الدنيا } والذام للشيء لا يكون مزيناً له .
وقال { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزيناً لها ؟ . ثم إنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور " قدرة " وللمرجو " رجاء " . وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية . فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها . قال المتكلمون : في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايراً للمضاف إليه . فالشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد ، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات . واعلم أن الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه ، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة ، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام { إني أحببت حب الخير }[ ص : 32 ] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير . فقوله : { حب الشهوات } قريب من ذلك لأن الشهوة نوع محبة . ولفظ { الناس } عام فظاهره يقتضي أن هذا المعنى عام لجميع الناس ولا شك أنه موجود في الأغلب وفي أكثر الأوقات فلا يبعد التعميم ، فطالما أعطى للأغلب حكم الكل . على أن من همته بجوامعها مقصورة على طلب اللذات الروحانية في غاية الندرة ، وبقاء ذلك النادر في جميع الأحيان على ذلك الخاطر أعز وأمنع . ثم شرع في بيان تلك الأعيان المشتهيات فذكر منها ما هي الأمهات ورتبها في سبع مراتب : الأولى النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم { خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة }[ الروم : 21 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " إن أخوف ما أخاف على متي النساء " الثانية الأولاد ولا سيما البنين ولهذا خصوا بالذكر ، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات .
الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة . قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ومنه القنطرة . والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب . أبو عبيد : إنه وزن لا يحد . روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " القنطار اثنا عشر ألف أوقية " وروى أنس عنه هو ألف دينار . وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية . وقال ابن عباس : ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية . وبه قال الحسن . وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة . وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار . والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم " ألف مؤلفة وبدرة مبدّرة وإبل مؤبلة " . قال الكلبي : القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة . وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء .
وكل الصيد يوجد في الفرا*** ولولا التقى لقلت جلت قدرته
وصفة المالكية هي القدرة ، وأنها صفة كمال والكمال محبوب لذاته . والخامسة الخيل المسوّمة قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلاً لاختيالها وهو جولانها في مشيتها . ويسمى الخيال خيالاً لجولان هذه القوة في استحضار الصور . والمسومة قيل المرعية . أسمت الدابة وسوّمتها إذا أرسلتها في مرجها للرعي . ولا شك أنها إذا رعت ازدادت حسناً وبهاء . وقيل : هي المعلمة من السومة العلامة . ثم اختلفوا في تلك العلامة فعن أبي مسلم : الغرة والتحجيل ، وقال الأصم : هي البلق . وقال قتادة : الشية - وقيل : الكي . وقال مجاهد وعكرمة : المسومة المطهمة أي الحسان . قال الأصمعي : رجل مطهم وفرس مطهم وفرس مطهم أي تام ، كل شيء على حدته فهو بارع الجمال . السادسة الأنعام وهو جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها . السابعة الحرث وهو الزراعة ذلك الذي ذكر متاع الحياة الدنيا لأن وجوه الانتفاعات الدنيوية للإنسان إما أن تكون من بني نوعه أو من غيره . والأول أصل وهو المرأة وفرع وهو الولد ، وإنما فرض الكلام في الذكور لشرفهم . والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر ، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل ، أو للحمل واللحم وهو الأنعام ، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب ، والقرآن يخاطب أولاً معهم . { والله عنده حسن المآب } أي المرجع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.