غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

12

ثم ذكر ما هو كالشرح والبيان لمعتبر الإنسان وهو أنه { زين للناس } اللذات الجسمانية والآخرة . وهي عالم الروحانيات - خير وأبقى ، وأنها معدة لمن واظب على العبودية واتصف بالخصال الحميدة . وأما ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه يمنعه من إتباعه حب المال والجاه . وروينا أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها ، والآخرة خير . والمزين هو الله تعالى . أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها ، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان ؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً }[ الكهف : 7 ] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها .

كان الصاحب بن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب . ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثواباً . وعن الجبائي واختاره القاضي ، أن كل ما كان واجباً أو مندوباً أو مباحاً فالتزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان . وحكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك . واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات ، وإن تزيينها وظيفة الشيطان . وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده . وقال في معرض الذم { ذلك متاع الحياة الدنيا } والذام للشيء لا يكون مزيناً له .

وقال { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزيناً لها ؟ . ثم إنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور " قدرة " وللمرجو " رجاء " . وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية . فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها . قال المتكلمون : في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايراً للمضاف إليه . فالشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد ، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات . واعلم أن الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه ، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة ، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام { إني أحببت حب الخير }[ ص : 32 ] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير . فقوله : { حب الشهوات } قريب من ذلك لأن الشهوة نوع محبة . ولفظ { الناس } عام فظاهره يقتضي أن هذا المعنى عام لجميع الناس ولا شك أنه موجود في الأغلب وفي أكثر الأوقات فلا يبعد التعميم ، فطالما أعطى للأغلب حكم الكل . على أن من همته بجوامعها مقصورة على طلب اللذات الروحانية في غاية الندرة ، وبقاء ذلك النادر في جميع الأحيان على ذلك الخاطر أعز وأمنع . ثم شرع في بيان تلك الأعيان المشتهيات فذكر منها ما هي الأمهات ورتبها في سبع مراتب : الأولى النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم { خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة }[ الروم : 21 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " إن أخوف ما أخاف على متي النساء " الثانية الأولاد ولا سيما البنين ولهذا خصوا بالذكر ، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات .

الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة . قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ومنه القنطرة . والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب . أبو عبيد : إنه وزن لا يحد . روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " القنطار اثنا عشر ألف أوقية " وروى أنس عنه هو ألف دينار . وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية . وقال ابن عباس : ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية . وبه قال الحسن . وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة . وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار . والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم " ألف مؤلفة وبدرة مبدّرة وإبل مؤبلة " . قال الكلبي : القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة . وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء .

وكل الصيد يوجد في الفرا*** ولولا التقى لقلت جلت قدرته

وصفة المالكية هي القدرة ، وأنها صفة كمال والكمال محبوب لذاته . والخامسة الخيل المسوّمة قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلاً لاختيالها وهو جولانها في مشيتها . ويسمى الخيال خيالاً لجولان هذه القوة في استحضار الصور . والمسومة قيل المرعية . أسمت الدابة وسوّمتها إذا أرسلتها في مرجها للرعي . ولا شك أنها إذا رعت ازدادت حسناً وبهاء . وقيل : هي المعلمة من السومة العلامة . ثم اختلفوا في تلك العلامة فعن أبي مسلم : الغرة والتحجيل ، وقال الأصم : هي البلق . وقال قتادة : الشية - وقيل : الكي . وقال مجاهد وعكرمة : المسومة المطهمة أي الحسان . قال الأصمعي : رجل مطهم وفرس مطهم وفرس مطهم أي تام ، كل شيء على حدته فهو بارع الجمال . السادسة الأنعام وهو جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها . السابعة الحرث وهو الزراعة ذلك الذي ذكر متاع الحياة الدنيا لأن وجوه الانتفاعات الدنيوية للإنسان إما أن تكون من بني نوعه أو من غيره . والأول أصل وهو المرأة وفرع وهو الولد ، وإنما فرض الكلام في الذكور لشرفهم . والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر ، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل ، أو للحمل واللحم وهو الأنعام ، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب ، والقرآن يخاطب أولاً معهم . { والله عنده حسن المآب } أي المرجع .

/خ25