فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

( زين للناس حب الشهوات ) كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس في هذه الدار ، وتزهيد الناس فيها وتوجيه رغباتهم إلى ما عند الله ، والمزين قيل هو الله سبحانه وبه قال عمر كما حكاه عنه البخاري وغيره ، ويؤيده قوله تعالى ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم ) ويؤيده قراءة مجاهد ( زين ) على البناء للفاعل ، وقيل المزين هو الشيطان وبه قال الحسن وقد جاء صريحا في قوله ( وزين لهم الشيطان أعمالهم ) والآية في معرض الذم وهو قول طائفة من المعتزلة والأول أولى .

والمراد بالناس الجنس ، والشهوات جمع شهوة وهي نزوع النفس إلى ما تريده وتوقان النفس إلى الشئ المشتهى ، والمراد هنا المشتهيات عبر عنها بالشهوات مبالغة في كونها مرغوبا فيها أو تحقيرا لها لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية ، والشهوة إما كاذبة كقوله تعالى ( أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) أو صادقة كقوله ( فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) .

قاله الكرخي ، ووجه تزيين الله سبحانه لها ابتلاء عباده كما صرح به في الآية الأخرى .

( من النساء ) بدأ بالنساء لكثرة تشوق النفوس اليهن والاستئناس والالتذاذ بهن لأنهن حبائل الشيطان ، وأقرب إلى الافتتان ( والبنين ) خصهم دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن ولان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى .

( والقناطير المقنطرة ) جمع قنطار ، وهو اسم للكثير من المال ، قال الزجاج القنطار مأخوذ من عقد الشئ وإحكامه تقول العرب قنطرت الشئ إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقد اختلف في تقديره على أقوال للسلف .

أخرج أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القنطار اثنا عشر ألف أوقية " {[307]} .

وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القناطير المقنطرة فقال : " القنطار ألف أوقية{[308]} " ، ورواه ابن ابي حاتم عنه مرفوعا بلفظ ألف دينار .

وأخرج ابن جرير عن أبي كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " وبه قال معاذ بن جبل وابن عمر وأبو هريرة وجماعة من العلماء ، قال ابن عطية وهو أصح الأقوال ولكن يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية .

وعن أبي سعيد الخدري قال القنطار ملء مسك الثور ذهبا ، وعن ابن عمر سبعون ألفا ، وعن سعيد بن المسيب ثمانون ألفا ، وعن أبي صالح مائة رطل ، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقالا والمثقال أربعة وعشرون قيراطا وعن الضحاك قال هو المال الكثير من الذهب والفضة وعن السدى أن المقنطرة المضروبة ، وقال ابن جرير الطبري معناها المضعفة ، وقال القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة .

وقال الفراء القناطير جمع القناطر ، والمقنطرة جمع الجمع ، فيكون تسعة قناطير ، وقيل المقنطرة المكملة كما يقال بدرة مبدرة وألوف مؤلفة ، وبه قال مكي وحكاه الهروي ، وقال ابن كيسان لا يكون المقنطرة أقل من سبع قناطير ، وفي نونه قولان ( أحدهما ) وهو قول جماعة أنها أصلية وان وزنه فعلال كقرطاس ( والثاني ) انها زائدة ووزنه فنعال .

( من الذهب والفضة ) من بيانية وإنما بدأ بالذهب والفضة من بين سائر أصناف الأموال لأنهما قيم الأشياء قيل سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى ، والفضة لأنها تنفض أي تتفرق .

( والخيل المسومة ) عطف على النساء لا على الذهب لأنها لا تسمى قناطير قاله أبو البقاء وتوهم مثل هذا بعيد جدا فلا حاجة الى التنبيه عليه ، قيل هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط بل مفرده فرس ، وسميت الأفراس خيلا لاختيالهم في مشيتها وقيل لان الخيل لا يركبها أحد الا وجد في نفسه مخيلة أي عجبا .

وقيل واحده خائل كراكب وركب وتاجر وتجر وطائر وطير ، وفي هذا خلاف بين سيبويه و الأخفش ، فسيبويه يجعله اسم جمع والأخفش يجعله جمع تكسير .

واختلفوا في معنى المسومة فقيل هي المرعية في المروج والمسارح يقال سامت الدابة والشاة إذا سرحت ، وقيل هي المعدة للجهاد ، وقيل المعلمة من السومة وهي العلامة أي التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها ، قال ابن فارس في المجمل المسومة المرسلة وعليها ركبانها ، قال ابن عباس هي الراعية والمطهمة الحسان وبه قال مجاهد ، وقال عكرمة تسو يمها حسنها أي الغرة والتحجيل ، وقال ابن كيسان البلق .

( والأنعام ) هي الإبل والبقر والغنم ، فاذا قلت نعم فهي الإبل خاصة قاله الفراء وابن كيسان ( والحرث ) اسم لكل ما يحرث وهو مصدر سمي به المحروث تقول حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض فيقع على الأرض والحرث والزرع ، قال ابن الأعرابي الحرث التفتيش .

( ذلك ) المذكور ( متاع الحياة الدنيا ) أي ما يتمتع به ثم يذهب ولا يبقى ، وفيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة ( والله عنده حسن المآب ) أي المرجع وهو الجنة ، يقال آب يؤب إيابا إذا رجع وفيه اشارة إلى أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة لأنها السعادة القصوى .


[307]:ابن ماجة كتاب الآداب الباب الأول، الإمام أحمد 2/363.
[308]:كتاب النكاح 2/178.