الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } : جمع شهوة وهي نزوع عن النفس إليه ، وإنَّما حُركَّت الهاء في الجمع ليكون فرقاً بين جمع الاسم وبين جمع النعت ؛ لأنَّ النعت لا تحرك نحو : ضخمه ، ضُخمات ، وحبلة حبلات ، والاسم يُحرك مثل : تمرة وتمرات ، هو نفقة الجيل ونفقات ، فإذا كان ثاني الاسم تاء أو واواً ، فأكثر العرب على تسكينها ( إستثقالاً ) لتحريك الياء والواو كقولك : بيضة وبيضات ، جوزة وجوزات .

وعن أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حُفَّت الجنَّة بالمكاره وحُفَّت النَّار بالشهوات " .

{ مِنَ النِّسَاءِ } : بدأ بهنَّ ؛ لأنهنَّ حبائل الشيطان وأقرب الى الافتان . { وَالْبَنِينَ } : عن القاسم بن عبد الرحمن قال : " قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للأشعث بن قيس : هل لك من ابنة حمزة من ولد ؟ قال : نعم لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني حيلة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن قلت ذلك إنَّهم لثمرة القلوب وقرَّة الأعين وإنَّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة " . { وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ } : المال الكثير بعضه على بعض .

ابن كيسان : المال العظيم ، أبو عبيدة : تقول العرب هو أن لا يُحدَّ .

وقال الباقون : فلا محدود ، ثم اختلفوا فيه ، فروى أبو صالح عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " القنطار : إثنا عشر ألف أوقية " . وعن يزيد الرقاشي قال : " دخلت أنا وثابت وناسٌ معنا الى أنس بن مالك فقلنا له : يا أبا حمزة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قيام الليل ؟ قال أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ في ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية أعطي قيام ليلة كاملة ، ومن قرأ مائتي آية ومعه القرآن فقد أدَّى حَقَّه ، ومن قرأ خمسمائة آية الى أن يبلغ ألف آية كان كمن تصدَّق بقنطار قبل أن يصبح ، قيل : وما القنطار ؟ قال : ألف دينار " . سالم بن أبي الجعد عن معاذ بن جبل قال : القنطار ألف ومائتا أوقيَّة ، وهو قول ابن عمر ومثله روي زر بن حبيش عن أُبي بن كعب : عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال :

" القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " . وروى عطية عن ابن عباس وعبدالله بن عمر عن الحكم عن الضحاك : " إنَّ القنطار ألف ومائتا مثقال " . ومثله روى يونس عن الحسن عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرسلاً .

روي حمزة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " القنطار ألف دينار " . سعيد بن جبير عن عكرمة : هو مائة ألف ومائة مَنْ ، ومائة ( رطل ) ومائة مثقال ومائة درهم ، ولقد جاء الإسلام يوم جاء ( وبمكة ) مائة رجل .

( وعن سفيان عن ) إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال : القنطار : مائة رطل .

فقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال .

أبو نظرة : مسك ثور ذهباً أو فضَّة .

سعيد بن المسيَّب وقتادة : ثمانون ألفاً .

ليث عن مجاهد القنطار : سبعون ألفاً .

شريك : أربعون ألف مثقال .

الحسن : القنطار ديَّة أحدكم .

ومثله روى الوالبي عن ابن عباس وجويبر عن الضحَّاك قال : إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار ديَّة أحدكم .

وعن أبي حمزة الثمالي قال : القنطار بلسان أفريقيا والأندلس ثمانية آلاف جروال من ذهب أو فضة .

وروى الثمالي عن السدي قال : أربعة آلاف مثقال .

قال الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب أنّ القناطير [ مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه ] وأصلها من الإحكام يقال : قنطرت الشيء إذا أحكمته ، ومنه سمَّيت القنطرة المقنطرة .

قال الضحاك : المقنطرة : المحصنَّة المحكمة .

قتادة : هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض كأنّها المدفونة يقال : قنطر إذا كثر .

السدي : المخزونة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير .

قال الفراء : المضعَّفة كأن القنطار ثلاثة والمقنطرة تسعة .

أبو عبيدة : هو مفعللة من القنطار مثل قولك ألف مؤلَّف .

{ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } : قيل سُمَّي الذهب ذهباً ؛ لأنه يذهب ولا يبقى ، والفضَّة ؛ لأنَّه تنفض أي تفرق .

{ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ } : الخيل جمع هو لا واحد له من لفظه . واحدهُ " فرس " كالقوم والنساء والرهط والجيش ونحوها . واختلف العلماء في معنى " المسومة " فقال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والربيع : هي الراعية .

ومثله روى عطيَّة عن ابن عباس والحسن : هي المرعيّة يُقال : سامت الخيل يسوم سوماً ، فهي سائمة ، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة ، وسوَّمتها تسويماً فهي مسوَّمة . قال اللّه :

{ فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النحل : 10 ] .

وفيهُ قول الأخطل :

مثل ابن بزعة أو كآخر مثله *** أولى لك ابن مسيمة الاجال

يعني : ابن الابل .

حبيب بن أبي ثابت ، وابن أبي نجيع عن مجاهد : المطهَّمة الحسان ليث عنها المصوَّرة ، وعن عكرمة : تسويمها حسنها .

السدَّي : هي الرايعة ، وكلها بمعنى واحد .

أبو عبيدة ، والحسن ، والاخفش ، والقتيبيَّ : المعلَّمة . ومثلهُ روى الوالبي عن ابن عباس .

قتادة : شيباتها وألوآنها ، المؤرَّج المكويَّة ، المبرد : المعرفة في البلدان .

ابن كيسان : اليحلق وكلها قد قسارية وأصلها من السومة ، والمسيما وهي العلامة . يُقال : سومت الخيل تسويماً إذا علمتها . قال اللّه تعالى :

{ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .

قال النابغة في صفة الخيل :

بسمر كالقداح مسوَّمات *** عليها معشر اشبها جنَّ

وقال الأعشى :

وفرسان الحفاظ بكل ثغر *** يقودون المسوَّمة العرابا

وقال ابن زيد وأبان بن ثعلب : المسومة : المعدَّة للحرب والجهاد . قل لبيد :

ولعمري لقد بلي كليب *** كلَّ قرن مسوَّم القتال

قال الثعلبي : ورأيتُ في بعض التفاسير : أنَّها الهماليخ .

فصل في الخيل " صفة خلقها "

روى الحسن بن علي عن أبيه علي ( عليه السلام ) قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللّه لما أراد أن يخلق الخلق قال للريح الجنوب : إنَّي خالقٌ منكِ خلقاً . فأجعله عزّاً لأوليائي ، ومذلة على أعدائي ، وجمالاً لأهل طاعتي ، فقال الريح : أخلق . فقبض منها قبضةً فخلق فيها فرساً . فقال له : خلقتك عربياً وجعلت الخير معقوداً بناصيتك ، والغنائم مجموعة على ظهرك ، عطفتُ عليك صاحبك ، وجعلتك تطيرُ بلا جناح ، وأنت للطلب وأنت للهرب ، وسأجعل على ظهرك رجالاً يسبَّحوني ويحمدونني ، ويهلَّلوني ويكبَّروني ، تسبَّحين إذا سبَّحوا ، وتهلَّلين إذا هلَّلوا ، وتكبَّرين إذا كبرَّوا " . وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " ما من تسبيحة ، وتحميدة وتمجيدة ، وتكبيرةُ يكبّرها صاحبها وتسعهُ إلاّ وتجيبه بمثلها " . ثم قال : " لما سمعت الملائكة صفة الفرس عاتبوا خالقها قالت : ربَّ نحن ملائكتك نسبّحك ، ونحمدك فماذا لنا ؟ فخلق اللّهُ لها خيلاً بلقاء أعناقها كأعناق البخت ، قال : فلما أرسل الفرس الى الأرض فأستوت قدماه على الأرض صهَل ، فقيل : بوركتِ من دابَّة أذلَّ بصهيلهِ المشركين ، أذل به أعناقهم ، أملأ منه آذانهم ، وأرعب به قلوبهم .

فلما عرض الله على آدم من كل شيء قال : أختر من خلقي ماشئت ، فاختار الفرس . فقال له : اخترت عزّك وعزّ ولدك خالداً ما خلدوا وباقياً مابقوا . ( يلقح فينتج منه أولادك أبد الآبدين ) بركتي عليك وعليه ؛ ما خلقتُ خلقاً أحبَّ الي منك ومنهُ " . فضلها :

روى أبو صالح عن ابيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة " . وعن سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس قال : لم يكن شيءٌ أحبَّ الى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل .

وعن أبي ذرَّ قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " ليس من فرس عربي إلاّ يؤذن لهُ مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول : اللَّهم خولتني من خولتني من بني آدم ، وجعلتني له ، فاجعلني أحبُّ ماله وأهله إليه ، أو من أحب مالهُ وأهلهُ إليه " .

شأنها :

عن أبي وهب الحسيني ، وكانت له صحبة قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " وارتبطوا الخيل ، وامسحوا نواصيها وأكفالها ، وقلدوها ولا تقلدوها الاوتار ، وعليكم بكل كميت أغرَّ محجَّل أو أشقر محجل ، أو أدهم أغرَّ محجَّل " . وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال : كان النبي يكره الشكال من الخيل ، قال أبو عبد الرحمن : الشكال من الخيل أن يكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة أو يكون ثلاث قوائم مطلقة ، ورجل محجلة ، وليس تكون الشكال إلا في الرجل .

وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشؤم في ثلاثة : المرأة والفرس والدار " . وجوهها :

زيد بن أسلم عن أبي صالح التمار عن أبي هريرة ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر . ولرجل وزر ، فأما الذي هو له أجر فرجلٌ ربطها في سبيل اللَّه ، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة ، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فأستنت شرفاً أو شرّفن كانت أن آثارها و أورواثها حسنات له . ولو أنَّها مرَّتْ بنهر فشربت منهُ ، ولم يردْ أنْ يسقيها منهُ كان ذلك حسنات لهُ ؛ فهي لذلك أجر . ورجلٌ ربطها تقنَّناً وتعففاً ، ولم ينسَ حق اللَّه في رقابها وظهرها فهي لذلك ستر . ورجلٌ ربطها فخراً ورياء ونوى لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر " . وعن خباب بن الأرث قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " الخيل ثلاثة ؛ فرس للرحمن ، وفرس للأنسان ، وفرس للشيطان ؛ فأمّا فرس الرحمن فما اتخذ في سبيل اللَّه ، وقتل عليه أعداء اللَّه ، وأما فرس الإنسان فما استبطن ويحمل عليه ، واما فرس الشيطان فما روهب ورُهن عليه وقومِر عليه " . { وَالأَنْعَامِ } : جمع نعم وهي الابل والبقر والغنم ، جمعٌ لا واحد له من لفظه .

{ وَالْحَرْثِ } : يعني الزرع .

{ ذلِكَ } : الذي ذكرت .

{ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } : لا عتاد المعاد والعقبى .

{ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } : أي المرجع مفعل من أب ، يؤوب أوباً مثل المتاب .

زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعتُ عبد اللَّه بن الأرقم وهو يقول لعمر ( رضي الله عنه ) : يا أمير المؤمنين إنّ عندنا حلية من حلية جلود وآنية من ذهب وفضّة فما رأيك فيها . فقال عمر : إذا رأيتني فارغاً فائتني ، فقال : يا أمير المؤمنين إنَّك اليوم فارغٌ . قال : فما نطلق معهُ ، فجيء بالمال . فقال : أبسطهُ قطعاً ، فبسط ثم جيء بذلك المال وصبَّ عليه ثم قال : " اللهم إنَّك ذكرتَ هذه المال فقلت : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } ثم قلت

{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] اللهم إنا لا نستطيع أنْ لا نفرح بما آتينا ، اللهم انفقهُ في حق ، وأعوذ بك منهُ ، قال : فأتى بابن له يحمله ، يقال له عبد الرحمن ، فقال : يا أبه هب لي خاتماً .

قال : إذهب الى أمك تسقيك سويقاً ، فلم يعطهِ شيئاً .