قال عطاء : هي مكية . وقال مجاهد وقتادة مدنية . وقال الحسن وعكرمة : هي مدنية إلا آية وهي قوله : { فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا } .
{ هل أتى } قد أتى { على الإنسان } يعني آدم عليه السلام ، { حين من الدهر } أربعون سنة ، وهو من طين ملقى بين مكة ، والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح ، { لم يكن شيئاً مذكوراً } لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، يريد : كان شيئاً ولم يكن مذكوراً ، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن نفخ فيه الروح . روي أن عمر سمع رجلاً يقرأ هذه الآية : { لم يكن شيئاً مذكوراً } فقال عمر : ليتها تمت ، يريد : ليته بقي على ما كان ، قال ابن عباس : ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة .
سورة الإنسان مكية وآياتها إحدى وثلاثون
في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية ، ولكنها مكية ؛ ومكيتها ظاهرة جدا ، في موضوعها وفي سياقها ، وفي سماتها كلها . لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها . بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي . . تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة ، وصور العذاب الغليظ ، كما يشي به توجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر لحكم ربه ، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور ؛ مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة ، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] على الحق الذي نزل عليه ، وعدم الميل إلى ما يدهنون به . . كما جاء في سورة القلم ، وفي سورة المزمل ، وفي سورة المدثر ، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة . . واحتمال أن هذه السورة مدنية - في نظرنا - هو احتمال ضعيف جدا ، يمكن عدم اعتباره !
والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة ، والالتجاء إلى الله ، وابتغاء رضاه ، وتذكر نعمته ، والإحساس بفضله ، واتقاء عذابه ، واليقظة لابتلائه ، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء . .
وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري : أين كان قبل أن يكون ? من الذي أوجده ? ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود ? بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? ) . .
تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته ، وحكمة الله في خلقه ، وتزويده بطاقاته ومداركه : ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) . .
ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق ، وعونه على الهدى ، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره : ( إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) . .
وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية ، وما تثيره في القلب من تفكير عميق ، ونظرة إلى الوراء . ثم نظرة إلى الأمام ، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق . . بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار . . وترغيبه في طريق الجنة ، بكل صور الترغيب ، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم : إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا . إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا . .
وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد : ( يوفون بالنذر ، ويخافون يوما كان شره مستطيرا ، ويطعمون الطعام - على حبه - مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ) . .
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف ، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير ، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام ، يبتغون وجه الله وحده ، لا يريدون شكورا من أحد ، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير !
تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين . فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد :
فوقاهم الله شر ذلك اليوم ، ولقاهم نضرة وسرورا ، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا . متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا . ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا . ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير ، قوارير من فضة قدروها تقديرا . ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ، عينا فيها تسمى سلسبيلا . ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا . وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا . عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا . إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا .
فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود اتجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لتثبيته على الدعوة - في وجه الإعراض والكفر والتكذيب - وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر ؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ) . .
ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه ؛ والذي يخافه الأبرار ويتقونه ، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله ، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة ، وهو قادر على الذهاب بهم ، والإتيان بقوم آخرين ؛ لولا تفضله عليهم بالبقاء ، لتمضي مشيئة الابتلاء . ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء : إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا . نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا . إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، إن الله كان عليما حكيما . يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما . .
تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة ، على أساس الابتلاء ، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء ، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء . فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير ، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره . غير واع ولا مدرك ، وهو مخلوق ليبتلى ، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء .
وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم . أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم ، وهو نعيم حسي في جملته ، ومعه القبول والتكريم ، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته ، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية ، شديدي التعلق بمتاع الحواس ، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم ، ويثير تطلعهم ورغبتهم . وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس ، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم . والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم ، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم . وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) . . والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال .
( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا . إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) . .
هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير ؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه : ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها ? ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئا من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة ، وسلطت عليه النور ، وجعلته شيئا مذكورا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ?
إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام . وهي إيحاءات رفيقة وعميقة تثير في النفس تأملات شتى :
واحدة منها تتجه بالنفس إلى ما قبل خلق الإنسان ووجوده ابتداء . يعيش فيها مع هذا الكون وقد خلا من الإنسان . . كيف تراه كان ? . . والإنسان مخلوق مغرور في نفسه وفي قيمته ، حتى لينسى أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال . ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى " الإنسان " . . حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان !
وواحدة منها تتجه إلى اللحظة التي انبثق فيها هذا الوجود الإنساني . وتضرب في تصورات شتى لهذه اللحظة التي لم يكن يعلمها إلا الله ؛ والتي أضافت إلى الكون هذه الخليقة الجديدة ، المقدر أمرها في حساب الله قبل أن تكون ! المحسوب دورها في خط هذا الكون الطويل !
وواحدة منها تتجه إلى تأمل يد القدرة وهي تدفع بهذا الكائن الجديد على مسرح الوجود ؛ وتعده لدوره ، وتعد له دوره ، وتربط خيوط حياته بمحور الوجود كله ؛ وتهيئ له الظروف التي تجعل بقاءه وأداء دوره ممكنا وميسورا ؛ وتتابعه بعد ذلك في كل خطوة ، ومعها الخيط الذي تشده به إليها مع سائر خيوط هذا الكون الكبير !
وإيحاءات كثيرة وتأملات شتى ، يطلقها هذا النص في الضمير . . ينتهي منها القلب إلى الشعور بالقصد والغاية والتقدير ، في المنشأ وفي الرحلة وفي المصير .
قد تقدم في صحيح مسلم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة " الم تَنزيلُ " السجدة ، و " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ " {[1]}
وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا ابن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة : " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ " وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود ، فلما بلغ صفة الجنان ، زفر زفرة فخرجت نفسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخرج نفس{[2]} صاحبكم - أو قال : أخيكم - الشوقُ إلى الجنة " . مرسل غريب{[3]} .
يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئًا يذكر{[29582]} لحقارته وضعفه ، فقال : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } ؟