معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات } . جمع شهوة وهي ما تدعو النفس إليه .

قوله تعالى : { من النساء } بدأ بهن لأنهن حبائل الشيطان .

قوله تعالى : { والبنين والقناطير } جمع قنطار واختلفوا فيه ، فقال الربيع بن انس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : القنطار ألف ومائتا أوقية ، لكل أوقية أربعون درهما ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك : ألف ومائتا مثقال ، وعنهما رواية أخرى اثنا عشر ألف درهم وألف دينار دية أحدكم ، وعن الحسن قال : القنطار دية أحدكم ، وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو مائة ألف ، ومائة من ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم . ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا ، وقال سعيد بن المسيب وقتادة : ثمانون ألفاً ، وقال مجاهد : سبعون ألفاً ، وعن السدي قال : أربعة آلاف مثقال ، وقال الحكم : القنطار مابين السماء والأرض من مال . وقال أبو نصرة ملء مسك ثور ذهباً أو فضة ؛ وسمي قنطاراً من الإحكام ، يقال : قنطرت الشيء إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة .

قوله تعالى : { المقنطرة } . قال الضحاك : المحصنة المحكمة ، وقال قتادة : هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض . وقال يمان : هي المدفونة ، وقال السدي : هي المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير . وقال الفراء :المضعفة ، فالقناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة .

قوله تعالى : { من الذهب والفضة } . وقيل سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى ، والفضة لأنها تنفض أي تتفرق .

قوله تعالى : { والخيل المسومة } . الخيل جمع لا واحد له من لفظه ، واحدها فرس كالقوم والنساء ونحوهما . والمسومة ، قال مجاهد : هي المطهمة الحسان . وقال عكرمة : تسويمها حسنها . وقال سعيد بن جبير : هي الراعية ، يقال : أسام الخيل وسومها ، وقال الحسن وأبو عبيده : هي المعلمة من السيماء ، والسمة العلامة . ثم منهم من قال : سيماها الشبة واللون ، وهو قول قتادة ، وقيل : الكي .

قوله تعالى : { والأنعام } . جمع النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه .

قوله تعالى : { والحرث } يعني الزرع .

قوله تعالى : { ذلك } . الذي ذكرت .

قوله تعالى : { متاع الحياة الدنيا } . يشير إلى أنها متاع يفنى .

قوله تعالى : { والله عنده حسن المآب } . أي المرجع ، فيه إشارة إلى التزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

1

وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف ؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة ؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى ؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى .

إن الاستغراق في شهوات الدنيا ، ورغائب النفوس ، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار ؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة ؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى ؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة ؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض ؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض .

ولما كانت هذه الرغائب والدوافع - مع هذا - طبيعية وفطرية ، ومكلفة من قبل الباريء - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها ، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها ، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها ، وتخفيف حدتها واندفاعها ؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكا لها متصرفا فيها ، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه ؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى .

ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي . . هذه الرغائب والدافع ، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر الوانا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر ، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة ، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة .

وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان : النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام . . وهي خلاصة للرغائب الأرضية . إما بذاتها ، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى . . وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر : جنات تجري من تحتها الأنهار . وأزواج مطهرة . وفوقها رضوان من الله . . وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض ، ويصل قلبه بالله ، على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان :

( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام ، والحرث . . ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب . قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله . والله بصير بالعباد . الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار . . )

( زين للناس ) . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل ؛ فهو محبب ومزين . . وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه . ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه " الشهوات " ، وهو جزء من تكوينه الأصيل ، لا حاجة إلى إنكاره ، ولا إلى استنكاره في ذاته . فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد - كما أسلفنا - ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل ، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده ؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها . هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي ، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه " الشهوات " . الحد الباني للنفس وللحياة ؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذيتهتف إليه النفحة العلوية ، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله . . هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول ، وينقيه من الشوائب ، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة ، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة . . والاتجاه إلى الله ، وتقواه ، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة .

( زين للناس حب الشهوات ) . . فهي شهوات مستحبة مستلذة ؛ وليست مستقذرة ولا كريهة . والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها ؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها ، ووضعها في مكانها لا تتعداه ، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى . والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك " الشهوات " في غير استغراق ولا إغراق !

وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها ، ومحاولة تهذيبها ورفعها ، لا كبتها وقمعها . . والذين يتحدثون في هذه الأيام عن " الكبت " واضراره ، وعن " العقد النفسية " التي ينشئها الكبت والقمع ، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو " الكبت " وليس هو " الضبط " . . وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس ، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين : ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلا ، فهي خطيئة ودافع شيطاني ! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة ، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية ، لا تتم إلا بها ، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثا . . وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون " العقد النفسية " . . فحتى إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النظريات النفسية ، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية . بين نوازع الشهوة واللذة ، وأشواق الارتفاع والتسامي . . وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .

( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث . . . ) . .

والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية . . وقد قرن اليهما ( القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) . . ونهم المال هو الذي ترسمه ( القناطير المقنطرة ) ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال : والأموال . أو والذهب والفضة . ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود . ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة . ذلك أن التكديس ذاته شهوة . بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى !

ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . . الخيل المسومة . والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة . ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة . وحتى الذين لا يركبونها فروسية ، يعجبهم مشهدها ، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية !

وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث . وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع . . الأنعام والحقول المخصبة . . والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء . وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفتإليه شهوة الملك ، كان الحرث والأنعام شهوة .

وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس ، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان . والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه ، ولا تطغى على ما سواه :

( ذلك متاع الحياة الدنيا ) . .

ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة - وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات - متاع الحياة الدنيا . لا الحياة الرفيعة ، ولا الآفاق البعيدة . . متاع هذه الأرض القريب . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }

يعني تعالى ذكره : ( زين للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ . وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثروا الدنيا وحبّ الرياسة فيها على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه . وكان الحسن يقول : من زَيْنها ما أحدٌ أشدّ لها ذما من خالقها . )

حدثني بذلك أحمد بن حازم : قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو الأشعث ، عنه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد ، قال : قال عمر : لما نزل : { زُيّنَ للنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ } قلت : الاَن يا ربّ حين زينتها لنا ! فنزلت : { قُلْ أَؤنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ } . . . الاَية .

وأما القناطير : فإنها جمع القنطار .

واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار ، فقال بعضهم : هو ألف ومائتا أوقية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معاذ بن جبل ، قال : القنطار : ألف ومائتا أوقية .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معاذ ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ، يعني حفص بن ميسرة ، عن أبي مروان ، عن أبي طيبة ، عن ابن عمر ، قال : القنطار : ألف ومائتا أوقية .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا قاسم بن مالك المزني ، قال : أخبرني العلاء بن المسيب ، عن عاصم بن أبي النّجود ، قال : القنطار : ألف ومائتا أوقية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، مثله .

حدثني زكريا بن يحيى الصديق ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا مخلد بن عبد الواحد ، عن عليّ بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زرّ بن حبيش ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القِنْطَارُ ألْفُ أُوقِيّةٍ وَمِائَتا أُوقِيّة » .

وقال آخرون : القنطار : ألف دينار ومائتا دينار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا يونس عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القِنْطَارُ ألْفٌ وَمِائَتا دِينارٍ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، قال : القنطار : ألف ومائتا دينار .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : القنطار ألف ومائتا دينار ، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : القناطير المقنطرة ، يعني : المال الكثير من الذهب والفضة ، والقنطار : ألف ومائتا دينار ، ومن الفضة : ألف ومائتا مثقال .

وقال آخرون : القنطار : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : القنطار : اثني عشر ألف درهم ، أو ألف دينار .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : القنطار : ألف دينار ، ومن الورِق : اثنا عشر ألف درهم .

حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أن القنطار اثنا عشر ألفا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن : القنطار : اثنا عشر ألفا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن : اثنا عشر ألفا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن بمثل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : القنطار : ألف دينار ، دية أحدكم .

وقال آخرون : هو ثمانون ألفا من الدراهم ، أو مائة رطل من الذهب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : القنطار ، ثمانون ألفا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : القنطار : ثمانون ألفا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من ذهب ، أو ثمانون ألفا من الورِق .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : القنطار : مائة رطل من ذهب ، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق .

حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : القنطار : مائة رطل .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : القنطار يكون مائة رطل ، وهو ثمانية آلاف مثقال .

وقال آخرون : القنطار سبعون ألفا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { القَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ } قال : القنطار : سبعون ألف دينار .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن حوشب ، قال : سمعت عطاء الخراساني ، قال : سئل ابن عمر عن القنطار ، فقال : سبعون ألفا .

وقال آخرون : هي ملء مَسْك ثور ذهبا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سالم بن نوح ، قال : حدثنا سعيد الجريري ، عن أبي نضرة ، قال : ملء مسك ثور ذهبا .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو الأشعث ، عن أبي نضرة : ملء مسك ثور ذهبا .

وقال آخرون : هو المال الكثير . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : { القناطير المقنطرة } : المال الكثير بعضه على بعض .

وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن ، ولكنها تقول : هو قدر ووزن . وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك ، لأن ذلك لو كان محدودا قدره عندها لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف .

( فالصواب في ذلك أن يقال : هو المال الكثير ، كما قال الربيع بن أنس ، ولا يحدّ قدر وزنه بحدّ على تعنف ، وقد قيل ما قيل مما روينا . وأما المقنطرة : فهي المضعفة ، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة ، وهو كما قال الربيع بن أنس : المال الكثير بعضه على بعض . ) كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : القناطير المقنطرة من الذهب والفضة : والمقنطرة المال الكثير بعضه على بعض .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { القَنَاطِير المُقَنْطَرة } : يعني المال الكثير من الذهب والفضة .

وقال آخرون : معنى المقنطرة : المضروبة دراهم أو دنانير . ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : { المُقْنَطَرَة } فيقول : المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم .

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا } خبر لو صح سنده لم نعده إلى غيره ، وذلك ما :

حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي ، قال : ثني عمرو بن أبي سلمة ، قال : حدثنا زهير بن محمد ، قال : ثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا } قال : «ألْفَا مِئِين » . يعني ألفين .

القول في تأويل قوله تعالى : { والخَيْلُ المُسَوّمَةِ } .

اختلف أهل التأويل في معنى المسوّمة ، فقال بعضهم : هي الراعية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير : الخيل المسوّمة ، قال : الراعية التي ترعى .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير : هي الراعية ، يعني السائمة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن طلحة القناد ، قال : سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول : الراعية .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : الراعية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } المسرّحة في الرعي .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : الخيل الراعية .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد أنه كان يقول : الخيل الراعية .

وقال آخرون : المسوّمة : الحسان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، قال : قال مجاهد : المسوّمة : المطهمة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن مجاهد في قوله : { وَالخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : المطهمة الحسان .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَالخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : المطهمة حسنا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن مجاهد : المطهمة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني ، قال : سألت عكرمة عن الخيل المسوّمة ، قال : تسويمها : حسنها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني ، قال : سمعت عكرمة يقول : { الخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : تسويمها : الحسن .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَالخَيْلِ المُسَوّمَةِ والأنْعَامِ } الرائعة .

وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غير موسى ، قال : الراعية .

وقال آخرون : { الخَيْلِ المُسَوّمَةِ } المعلمة . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } يعني : المعلمة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } وسيماها شِيَتها .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : شية الخيل في وجوهها .

وقال غيرهم : المسوّمة : المعدّة للجهاد . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد { وَالخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : المعدة للجهاد .

قال أبو جعفر : أولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } المعلمة بالشيات الحسان الرائعة حسنا من رآها ، لأن التسويم في كلام العرب : هو الإعلام ، فالخيل الحسان معلمة بإعلام إياها بالحسن من ألوانها وشياتها وهيئاتها ، وهي المطهمة أيضا ، ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل :

بِسُمْرٍ كالْقِدَاحٍ مُسَوّماتٍ *** عليها مَعْشَرٌ أشباهُ جِنّ

يعني بالمسوّمات : المعلمات¹ وقول لبيد :

وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَيْنِ أتَيْنَهُمْ *** زُجَلاً يَلُوحُ خِلالَها التّسْويمُ

فمعنى تأويل من تأول ذلك : المطهمة ، والمعلمة ، والرائعة واحد . وأما قول من تأوّله بمعنى الراعية فإنه ذهب إلى قول القائل : أسَمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة : إذا رعيتها الكلأ والعشب ، كما قال الله عزّ وجلّ : { ومنهُ شجرٌ فِيهِ تسيمونَ } بمعنى ترعون ، ومنه قول الأخطل :

مثلِ ابن بَزْعَةَ أو كآخَرَ مِثْلِهِ *** أوْلى لكَ ابنَ مُسِيمَةِ الأجْمالِ

يعني بذلك راعية الأجمال ، فإذا أريد أن الماشية هي التي رعت ، قيل : سامت الماشية تسوم سوما ، ولذلك قيل : إبل سائمة ، بمعنى راعية ، غير أنه مستفيض في كلامهم سوّمت الماشية ، بمعنى أرعيتها ، وإنما يقال إذا أريد ذلك : أسمتها . فإذا كان ذلك كذلك ، فتوجيه تأويل المسوّمة إلى أنها المعلمة بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها أصحّ . وأما الذي قاله ابن زيد من أنها المعدّة في سبيل الله ، فتأويل من معنى المسوّمة بمعزل .

القول في تأويل قوله تعالى : { والأنْعامِ والحَرْثِ } .

( فالأنعام جمع نعم : وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه من الضأن والمعز والبقر والإبل . وأما الحرث : فهو الزرع . وتأويل الكلام : زين للناس حبّ الشهوات من النساء ومن البنين ، ومن كذا ومن كذا ، ومن الأنعام والحرث . )

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ مَتاعُ الحَيَاةِ الدّنْيا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ } .

يعني بقوله جل ثناؤه : ذلك جميع ما ذكر في هذه الاَية من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسوّمة ، والأنعام والحرث ، فكنى بقوله «ذلك » عن جميعهن ، وهذا يدلّ على أن «ذلك » يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني ، ويكنى به عن جميع ذلك . وأما قوله : { مَتاعُ الحَيَاةِ الدّنْيا } فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يستمتع به في الدنيا أهلها أحياء ، فيتبلغون به فيها ، ويجعلونه وصلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم ، التي زين لهم حبها ، في عاجل دنياهم ، دون أن يكون عدّة لمعادهم ، وقربة لهم إلى ربهم ، إلا ما أسلك في سبيله ، وأنفق منه فيما أمر به .

وأما قوله : { وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ } فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : وعند الله حسن المآب ، يعني حسن المرجع . كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ } يقول : حسن المنقلب ، وهي الجنة .

وهو مصدر على مثال مفْعَل ، من قول القائل : آب الرجل إلينا : إذا رجع ، فهو يؤوب إيابا وأوبة وأيبة ومآبا ، غير أن موضع الفاء منها مهموز ، والعين مبدلة من الواو إلى الألف بحركتها إلى الفتح ، فلما كان حظها الحركة إلى الفتح ، وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها وهو فاء الفعل انقلبت فصارت ألفا ، كما قيل : قال : فصارت عين الفعل ألفا ، لأن حظها الفتح والمآب ، مثل المقال والمعاد والمحال ، كل ذلك مَفْعَلْ ، منقولة حركة عينه إلى فائه ، فتصير وواه أو ياؤه ألفا لفتحة ما قبلها .

فإن قال قائل : وكيف قيل : { وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ } وقد علمت ما عنده يومئذٍ من أليم العذاب وشديد العقاب ؟ قيل : إن ذلك معنيّ به خاصّ من الناس ، ومعنى ذلك : والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم ، وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الاَية التي تليها . فإن قال : وما حسن المآب ؟ قيل : هو ما وصفه به جلّ ثناؤه ، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مخلدا فيها ، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

استئناف نشأ عن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } [ آل عمران : 10 ] إذ كانت إضافة أموالٍ وأولاد إلى ضمير « هم » دالة على أنّها معلومة للمسلمين . قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة ؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات . وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها ؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس .

والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه ، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً .

وقال امرؤ القيس :

الحرب أول ما تكون فتيَّة *** تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول

فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن : التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى : { تريد زينة الحياةِ الدنيا } [ الكهف : 28 ] . وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة :

أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا *** جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا

وفي حديث « سنن أبي داود » : أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه : إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح . قال أبو برزة : « ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد » . فقال عبيد الله : « إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن » .

والشهوات جمع شهوة ، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي ، والشهوة بزنة المَرّة ، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة . وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف . وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبُّها ، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها ؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحبّ بمزيَّن ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها ، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق .

والوجه عندي إمّا أن يجعل { حبّ الشهوات } مصدراً نائباً عن مفعول مطلق ، مبيّناً لنوع التزيين : أي زيّن لهم تزيين حب ، وهو أشدّ التزيين ، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل ، وأصل الكلام : زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً ، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائباً عن الفاعل ، كما جعل مفعولاً في قوله تعالى : { فقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي } [ ص : 32 ] . وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول ، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة . وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبّر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضارّ ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات ، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال .

وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جُهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عُني بكذا ، واضْطُرّ إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عمّا في المزيَّن من المساوي ؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصوداً بحال ، والمزيِّنُ في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهواتتِ ، وذلك أمر جبلِيٌّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى : { وذلّلناها لهم فمنها رَكوبهم ومنها يأكلون } [ يس : 72 ] .

ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة ، كان فاعلُه على الحقيقة هو خالقَ هذه الجبلاّت ، فالمزيِّن هو الله بخَلْقه لا بِدَعوته ، وروى مثل هذا عن عُمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة . كان المزّيِّن هو مَيْلَ النفس إلى المشتهى ، أو ترغيبَ الداعين إلى تناول الشهوات : من الخِلاّن والقُرناء ، وعن الحسن : المزيِّن هو الشيطان ، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ، وقصَرَه على هذا وهو بعيد لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلاّ إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث : « قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوَته ولَهُ فيها أجْر فقال : أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر ، فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجر » وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام ، والمعرَّضة للزوال ، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية ، وتنال النعيم الأبدي العظيم ؛ كما أشار إليه قوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب } .

وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما ، بيان بأصول الشهوات البشرية : التي تجمع مشتهيَات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل ؛ إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة ، وفي الحديث : « ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء » ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع ، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسان .

ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع : إذ جعل الله في الوالدين ، من الرجال والنساء ، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما ، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل ، وببقائه بقاء النوع ، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه ، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع ؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف ، بعد القوة ، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه ، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه ، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه .

والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء ، والنقدان منهما : الدنانيرُ والدراهم ، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها .

{ والقناطير } جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل ، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية ، كما نقله النقّاش عن الكلبي ، وهو الصحيح ؛ فإن أصله في اللاّتينية « كِينْتال » وهو مائة رطل . وقال ابن سيده : هو معرّب عن السريانية . فما في « الكشاف » في سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قنطَرت الشيءَ إذا رفعتَه ، تكلّف . وقد كان القنطار عند العرب ، وزنا ومقداراً ، من الثروة ، يبلغه بعض المثرين : وهو أن يبلغ مالُه مائةَ رطل فضة ، ويقولون : قنطَر الرجلُ إذا بلغ ماله قنطاراً وهو اثنا عشر ألف دينارٍ أي ما يساوي قنطاراً من الفضة ، وقد يقال : هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب .

و{ المقنطرة } أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة ، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوفِ ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفةِ ، يؤذن ذلك الاشتقاقُ بمبالغة في الحاصل به كقولهم : لَيْلٌ ألْيَلُ ، وظِلٌ ظَلِيلٌ ، وداهِيَةٌ دَهْيَاء ، وشِعْرٌ شَاعِر ، وإبِل مُؤَبَّلَة ، وآلاف مُؤَلَّفَة .

{ والخيل } محبوبة مرغوبة ، في العصور الماضية وفيما بعدها ، لم يُنسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّاً وبحراً وجوّاً ، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية ، ومن سَفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار ، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفظ المصفَّى ، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى ، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل ، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس ، والعناية بالمسابقة بين الأفراس .

وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البَذخ على محبّة ركوبها ، قال امرؤ القيس

* كأنِّيَ لَمْ أركَبْ جَوادَا لِلَذّةٍ *

و { المسوّمة } الأظهر فيه ما قيل : إنّه الراعية ، فو مشتق من السَّوْم وهو الرعْي ، يقال : أسام الماشية إذا رعَى بها في المرعى ، فتكون مادة فعَّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مدداً طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم ، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل " فأطال لَها في مَرْج أو روضة " .

وقيل : المسوّمة من السُّومَة بضم السين وهي السِّمة أي العلامة من صوف أو نحوه ، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويهاً بكرمها وحسن بلائها في الحرب ، قال العَتَّابي :

ولَوْلاَهُنّ قد سَوّمْتُ مُهري *** وفي الرحمان للضعفاء كاف

يريد جعلت له سُومة أفراسِ الجهاد أي علامتَها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في سورة [ البقرة : 273 ] .

و { الأنعام } زينة لأهل الوبر قال تعالى : { ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] . وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى : { والأنعامَ خلقها لكم فيها دفء } الآيات في سورة [ النحل : 5 ] ، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها ، ويُعنَون بالارتياح إليها إجمالاً .

{ والحرث } أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس ، وأطلق هذا المصدر على المَحروث فصار يطلق على الجَنّات والحوائطِ وحقول الزرع ، وتقدم عند قوله تعالى : { نساؤكم حَرث لكم } في سورة [ البقرة : 223 ] وعند قوله : { ولا تَسقي الحرث } [ البقرة : 71 ] فيها .

والإشارة بقوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا } إلى جميع ما تقدم ذكره ، وأُفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لغير معيَّن ، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البُعد ، والبُعد هنا بُعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة .

والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة .

ومعنى { والله عنده حسن مئاب } أنّ ثواب الله خير من ذلك . والمآب : المرجع ، وهو هنا مصدرٌ ، مَفْعَل من آب يَؤوب ، وأصله مَأوَب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، وقلبت الواو ألفاً ، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة .