قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } . نزلت في رؤساء اليهود ، قالوا لمعاذ بن جبل : ما ترك محمد قبلتنا إلا حسداً ، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء ، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس ، فقال معاذ : إنا على حق وعدل فأنزل الله تعالى : وكذلك . أي وهكذا ، وقيل : الكاف للتشبيه وهي مردودة على قوله : ( ولقد اصطفيناه في الدنيا ) أي كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم كذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدلا خيارا قال الله تعالى : ( قال أوسطهم ) أي خيرهم وأعدلهم وخير الأشياء أوسطها ، وقال الكلبي : يعني أهل دين وسط بين الغلو والتقصير لأنهما مذمومان في الدين .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو معشر إبراهيم بن محمد بن الحسين الوراق ، أنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى ، أنا أبو الصلت ، أنا حماد بن زيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر ، فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان ، قال أما أنه لم يبق في الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وخيرها وأكرمها على الله تعالى " .
قوله تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } . يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم ، قال ابن جريج : قلت لعطاء ما معنى قوله تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس ) قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على من يترك الحق من الناس أجمعين .
قوله تعالى : { ويكون الرسول } . محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { عليكم شهيداً } . معدلاً مزكياً لكم ، وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، ثم يقول لكفار الأمم الماضية : ألم يأتكم نذير ؟ فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فيسأل الله الأنباء عليهم السلام عن ذلك فيقولون : كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة للحجة ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا ، فتقول الأمم الماضية : من أين علموا وإنما أتوا بعدنا فيسأل هذه الأمة فيقولون : أرسلت إلينا رسولاً ، وأنزلت عليه كتاباً ، أخبرتنا فيه تبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ، ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن منصور ، أخبرنا أبو أسامة ، قال الأعمش ، أخبرنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيسأل أمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير ، فيقال : من شهودك فيقول : محمد وأمته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) .
قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } . أي تحويلها . يعني بيت المقدس ، فيكون من باب حذف المضاف ويحتمل أن يكون المفعول الثاني جعل محذوفاً على تقدير ، ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ) منسوخة ، وقيل معناه التي أنت عليها ، وهي الكعبة كقوله تعالى : ( كنتم خير أمة ) أي أنتم .
قوله تعالى : { إلا لنعلم من يتبع الرسول } . فإن قيل ما معنى قوله : { إلا لنعلم } وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها ، قيل : أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب ، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد . معناه لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ، وقيل : إلا لنعلم أي : لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة .
قوله تعالى : { ممن ينقلب على عقبيه } . فيرتد وفي الحديث " إن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية ، وقالوا : رجع محمد إلى دين آبائه " ، وقال أهل المعاني معناه إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن على عقبيه كأنه سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة قوم ، وقد يأتي لفظ الاستقبال بمعنى الماضي كما قال الله تعالى ( فلم تقتلون أنبياء الله ) أي فلم قتلتموهم .
قوله تعالى : { وإن كانت } . أي قد كانت أي تولية القبلة ، وقيل : الكناية راجعة إلى القبلة ، وقيل : إلى الكعبة . قال الزجاج : وإن كانت التحويلة .
قوله تعالى : { لكبيرة } . ثقيلة شديدة .
قوله تعالى : { إلا على الذين هدى الله } . أي هداهم الله ، قال سيبويه : وإن تأكيد شبيه باليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها .
قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } . وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس ، إن كانت هدى فقد تحولتم عنها وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها ، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة ؟ فقال المسلمون : إنما الهدى ما أمر الله به . والضلالة ما نهى الله عنه . فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا ؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار ، والبراء بن معرور من بني سلمة ، وكانا من النقباء ورجال آخرون . فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) يعني صلاتكم إلى بيت المقدس .
قوله تعالى : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } . قرأ أهل الحجاز وابن عامر وحفص لرؤوف مشبعا على وزن فعول ، لأن أكثر أسماء الله تعالى على فعول وفعيل ، كالغفور والشكور والرحيم والكريم وغيرها ، وأبو جعفر يلين الهمزة . وقرأ الآخرون بالاختلاس على وزن فعل قال جرير : للمسلمين عليك حقاً كفعل الواحد الرؤف الرحيم والرأفة أشد الرحمة .
ثم يحدث هذه الأمة عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون ، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض ، وعن مكانها العظيم في هذه البشرية ، وعن دورها الأساسي في حياة الناس ؛ مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة ، وشخصيتها الخاصة ؛ وألا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم :
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ) . .
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ؛ وتضع لهم الموازين والقيم ؛ وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها ، وتقول : هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ؛ فيقرر لها موازينها وقيمها ؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها ؛ ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة . . وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها . . لتعرفها ، ولتشعر بضخامتها . ولتقدر دورها حق قدره ، وتستعد له استعدادا لائقا . .
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .
( أمة وسطا ) . . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال .
( أمة وسطا ) . . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجرتة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ؛ وشعارها الدئم : الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ، في تثبت ويقين .
( أمة وسطا ) . . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ؛ وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .
( أمة وسطا ) . . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ؛ ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة ، والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .
( أمة وسطا ) . . في المكان . . في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا ، وتشهد على الناس جميعا ؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .
( أمة وسطا ) . . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ؛ وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء ؛ وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك .
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها ، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها ، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها ، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها ! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها .
وأمة تلك وظيفتها ، وذلك دورها ، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية ، فللقيادة تكاليفها ، وللقوامة تبعاتها ، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى ، ليتأكد خلوصها لله وتجردها ، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة .
وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها ، بمناسبة تحويلهم الآن عنها :
( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )
ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة ، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة ، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة . إنه يريد لها أن تخلص له ؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها ؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة ؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية ، ومن كل شعار اتخذته ، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر ، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر .
ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة ؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك ، ومن عصبية الجنس ، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس ، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره ، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته .
لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى ، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة ، ووجههم إلى بيت المقدس ، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا ؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول [ ص ] ثانيا ، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله ، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة ، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة .
إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة . . إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا ؛ ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح ؛ إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور . جل أم صغر . وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) . . والله - سبحانه - يعلم كل ما يكون قبل أن يكون . ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس ، حتى يحاسبهم عليه ، ويأخذهم به . فهو - لرحمته بهم - لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم ، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم .
ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية ، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة . . أمر شاق ، ومحاولة عسيرة . . إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق ، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه :
( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) . .
فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات ، وأن تنفض عنها تلك الرواسب ؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع ، حيثما وجهها الله تتجه ، وحيثما قادها رسول الله تقاد .
ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال ، وإن صلاتهم لم تضع ، فالله سبحانه لا يعنت العباد ، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه ؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها :
( وما كان الله ليضيع إيمانكم ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . .
إنه يعرف طاقتهم المحدودة ، فلا يكلفهم فوق طاقتهم ؛ وإنه يهدي المؤمنين ، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان ، حين تصدق منهم النية ، وتصح العزيمة . وإذا كان البلاء مظهرا لحكمته ، فاجتياز البلاء فضل رحمته : ( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . .
بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة ، ويذهب عنها القلق ، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ }
يعني جل ثناؤه بقوله : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام ، وبما جاءكم به من عند الله ، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملّته ، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطا . وقد بينا أن الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهم .
وأما الوسط فإنه في كلام العرب : الخيار ، يقال منه : فلان وسط الحسب في قومه : أي متوسط الحسب ، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه ، وهو وسط في قومه وواسط ، كما يقال شاة يابسة اللبن ، ويَبَسة اللبن ، وكما قال جل ثناؤه : فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا في البَحْرِ يَبسا . وقال زهير بن أبي سلمى في الوسط :
هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأنامُ يحُكمِهِمْ إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللّيالي بِمُعْظَمِ
قال : وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين ، مثل «وسط الدار » ، محرّك الوسط مثقّله ، غير جائز في سينه التخفيف . وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين ، فلا هم أهل غلوّ فيه غلوّ النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها .
وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل ، وذلك معنى الخيار لأن الخيار من الناس عدولهم . ذكر من قال : الوسط العدل .
حدثنا سالم بن جنادة ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : «عُدُولاً » .
حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا جعفر بن عون ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : «عُدُولاً .
حدثني عليّ بن عيسى ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن حفص بن غياث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : عُدُولاً » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : عُدُولاً .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : عُدُولاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : أُمّةً وَسَطا قال : عُدولاً .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : أُمّةً وَسَطا قال : عُدولاً .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : أُمّةً وَسَطا قال : عدولاً .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا يقول : جعلكم أمة عدولاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن راشد بن سعد ، قال : أخبرنا ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : «الوَسَطُ : العَدْلُ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير : أُمّةً وَسَطا قالوا : عدولاً ، قال مجاهد : عدولاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : هم وسط بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين الأمم .
هالقول في تأويل قوله تعالى : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاس ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا .
والشهداء جمع شهيد . فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولاً ( لتكونوا ) شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها ، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا عليكم بإيمانكم به ، وبما جاءكم به من عندي . كما :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُدْعَىَ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السّلاَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلّغْتَ ما أُرْسِلْتَ بِهِ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيُقَالُ لِقَوْمِهِ : هَلْ بَلّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ ، فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ يَعْلَمُ ذَاكَ ؟ فَيَقُولُ مُحَمّدٌ وأُمّتُهُ فهو قوله : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ ويَكُونُ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا » .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، إلا أنه زاد فيه : «فَيُدْعَوْنَ وَيَشْهَدُونَ أنّهُ قَدْ بَلّغَ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ بأن الرسل قد بلغوا ، ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا : بما عملتم أو فعلتم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن المغيرة بن عيينة بن النهاس ، أن مكاتبا لهم حدثهم عن جابر بن عبد الله ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّي وأُمّتِي لَعَلَىَ كَوْمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُشْرِفِينَ عَلَىَ الْخَلاَئِقِ مَا أحَدٌ مِنَ الأُمَم إلاّ وَدّ أنّهُ مِنْهَا أيّتُها الأُمّةُ ، وَمَا مِنْ نَبِيَ كَذّبَهُ قَوْمُهُ إلاّ نَحْنُ شُهَدَاؤُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنّهُ قَدْ بَلّغَ رِسَالاتِ رَبّه وَنَصَحَ لَهُمْ » قال : «ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا » .
حدثني عصام بن ورّاد بن الجراح العسقلاني ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن الفضل ، عن أبي هريرة ، قال : خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فلمّا صلّى على الميت قال الناس : نعم الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَجَبَتْ » . ثم خرجت معه في جنازة أخرى ، فلما صلوا على الميت قال الناس : بئس الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَجَبَتْ » . فقام إليه أبيّ بن كعب فقال : يا رسول الله ما قولك وجبت ؟ قال : «قول الله عَزّ وجَلّ : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ » .
حدثني عليّ بن سهل الرملي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثني أبو عمرو عن يحيى ، قال : حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني ، قال : حدثني أبو هريرة ، قال : أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة ، فقال الناس : نعم الرجل ، ثم ذكر نحو حديث عصام عن أبيه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : حدثنا عكرمة بن عمار ، قال : حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه ، قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فمرّ عليه بجنازة فأثنى عليها بثناء حسن ، فقال : «وَجَبَتْ » ، ومرّ عليه بجنازة أخرى ، فأثنى عليها دون ذلك ، فقال : «وَجَبَتْ » ، قالوا : يا رسول الله ما وجبت ؟ قال : «المَلاَئِكَةُ شُهَدَاءُ اللّهِ في السّماءِ وأنْتُمْ شُهَداءُ اللّهِ في الأرْضِ فَمَا شَهِدْتُمْ عَلَيْهِ وَجَبَ » . ثم قرأ : وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَىَ اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ . . . الآية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النّاس تكونوا شهداء لمحمد عليه الصلاة والسلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، قال : يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بإذنه ليس معه أحد فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني ابن أبي نجيح ، عن أبيه قال : يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فذكر مثله ، ولم يذكر عبيد بن عمير مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ أي أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها ، وَيَكُونُ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا على أنه قد بلغ رسالات ربه إلى أمته .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أن قوم نوح يقولون يوم القيامة : لم يبلغنا نوح . فيدعى نوح عليه السلام فيسأل : هل بلغتهم ؟ فيقول : نعم ، فيقال : من شهودك ؟ فيقول : أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته . فتدعون فتسألون ، فتقولون : نعم قد بلغهم . فتقول قوم نوح عليه السلام : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا ؟ قالوا : قد جاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم ، وأنزل عليه أنه قد بلغكم ، فصدقناه . قال : فيصدق نوح عليه السلام ويكذّبونهم . قال : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ لتكون هذه الأمة شهداء على الناس أن الرسل قد بلغتهم ، ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدا ، أن قد بلغ ما أرسل به .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أن الأمم يقولون يوم القيامة : والله لقد كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلهم لما يرون الله أعطاهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك عن راشد بن سعد ، قال : أخبرني ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذَا جَمَعَ اللّهُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَانَ أوّلَ مَنْ يُدْعَىَ إسْرَافِيلُ ، فَيَقُولُ لَهُ رَبّهُ : مَا فَعَلْتَ فِي عَهْدِي ، هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغْتُهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السّلاَمُ ، فَيُدْعَىَ جِبْرِيلُ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلّغْتَ إسْرَافِيلَ عَهْدِي ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغَنِي . فَيُخَلّى عَنْ إسْرَافِيلَ ، ويُقَالُ لِجِبْرِيلَ : هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ قَدْ بَلّغْتُ الرّسُلَ . فَتُدْعَىَ الرّسُلُ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلّغَكُمْ جِبْرِيلُ عَهْدِي ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ رَبّنا . فَيُخَلّى عَنْ جِبْرِيلُ ، ثُمّ يُقَالُ للرّسُلِ : ما فَعَلْتُمْ بِعَهْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : بَلّغْنا أُمَمَنا . فَتُدْعَىَ الأُمَمُ فَيُقَالُ : هَلْ بَلّغَكُمْ الرّسُلُ عَهْدِي ؟ فَمِنْهُمْ المُكَذّبُ وَمِنْهُمْ المُصَدّقُ ، فَتَقُولُ الرّسُلُ : إنّ لَنَا عَلَيْهِمْ شُهُودا يَشْهَدُونَ أنْ قَدْ بَلغْنا مَعَ شَهَادَتِكَ . فَيَقُولُ : مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أُمّةُ مُحَمّدٍ . فَتُدْعَىَ أُمّةُ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَيَقُولُ : أتَشْهَدُونَ أنّ رُسُلِي هَؤُلاَءِ قَدْ بَلّغُوا عَهْدِي إلى مَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ رَبّنا شَهِدْنَا أنْ قَدْ بَلّغُوا . فَتَقُولُ تِلْكَ الأُمَم : كَيْفَ يَشْهَدُ عَلَيْنَا مَنْ لَمْ يُدْرِكْنا ؟ فَيَقُولُ لَهُمُ الرّبّ تَبَارَكَ وتَعَالَىَ : كَيْفَ تَشْهَدُونَ عَلَىَ مَنْ لَمْ تُدْرِكُوا ؟ فَيَقُولُونَ : رَبّنَا بَعَثْتَ إلَيْنَا رَسُولاً ، وأنْزَلْتَ إلَيْنَا عَهْدَكَ وكِتابَكَ ، وقَصَصْتَ عَلَيْنَا أنّهُمْ قَدْ بَلّغُوا ، فَشَهِدْنا بِمَا عَهِدْتَ إلَيْنَا . فَيَقُولُ الرّبّ : صَدَقُوا . فَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا » . والوسط : العدل . «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا » .
قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من كان في قلبه حقد على أخيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ يعني بذلك الذين استقاموا على الهدى ، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة ، لتكذيبهم رسل الله ، وكفرهم بآيات الله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ يقول : لتكونوا شهداء على الأمم الذين خلوا من قبلكم بما جاءتهم رسلهم ، وبما كذّبوهم ، فقالوا يوم القيامة وعجبوا : إن أمة لم يكونوا في زماننا ، فآمنوا بما جاءت به رسلنا ، وكذّبنا نحن بما جاءوا به . فعجبوا كلّ العجب .
قوله : ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا يعني بإيمانهم به ، وبما أنزل عليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ يعني أنهم شهدوا على القرون بما سمى الله عزّ وجلّ لهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما قوله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ ؟ قال : أمة محمد شهدوا على من ترك الحقّ حين جاءه الإيمان والهدى ممن كان قبلنا . قالها عبد الله بن كثير . قال : وقال عطاء : شهداء على من ترك الحقّ ممن تركه من الناس أجمعين ، جاء ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم : وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا على أنهم قد آمنوا بالحقّ حين جاءهم وصدّقوا به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد على أمته ، وهم شهداء على الأمم ، وهم أحد الأشهاد الذي قال الله عز وجلّ : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ ) الأربعة الملائكة الذين يحصون أعمالنا لنا وعلينا . وقرأ قوله : وَجَاءَتْ كُلّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ . وقال : هذا يوم القيامة . قال : والنبيون شهداء على أممهم . قال : وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على الأمم ، ( قال : والأطوار : الأجساد والجلود ) .
القول في تأويل قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ .
يعني جل ثناؤه بقوله : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ولم نجعل صَرْفَك عن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفناك عنها إلا لنعلم من يتبعك ممن لا يتبعك ممن ينقلب على عقبيه . والقبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها التي عناها الله بقوله : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا هي القبلة التي كنت تتوجه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَمَا جَعَلْنا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا يعني بيت المقدس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ؟ قال : القبلة : بيت المقدس .
وإنما ترك ذكر الصرف عنها اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نظائره .
وإنما قلنا ذلك معناه لأن محنة الله أصحاب رسوله في القبلة إنما كانت فيما تظاهرت به الأخبار عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة ، حتى ارتدّ فيما ذكر رجال ممن كان قد أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم ، وقالوا : ما بال محمد يحوّلنا مرّة إلى هَهنا ، ومرّة إلى هَهنا ؟ وقال المسلمون فيما مضى من إخوانهم المسلمين ، وهم يصلون نحو بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت . وقال المشركون : تحير محمد صلى الله عليه وسلم في دينه . فكان ذلك فتنة للناس وتمحيصا للمؤمنين ، فلذلك قال جل ثناؤه : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ أي : وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها ، وتحويلك إلى غيرها ، كما قال جل ثناؤه : وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ بمعنى : وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التي أريناك . وذلك أنه لو لم يكن أخبر القوم بما كان أري لم يكن فيه على أحد فتنة ، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس لو لم يكن صرف عنها إلى الكعبة لم يكن فيها على أحد فتنة ولا محنة .
ذكر الأخبار التي رويت في ذلك بمعنى ما قلنا :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام ، فقال في ذلك قائلون من الناس : ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده قال الله عزّ وجلّ : قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فقال أناس لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله عز وجل : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ ، وقد يبتلي الله العباد بما شاء من أمره الأمر بعد الأمر ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . وكل ذلك مقبول إذا كان في إيمان بالله ، وإخلاص له ، وتسليم لقضائه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس ، فنسختها الكعبة . فلما وُجّه قبل المسجد الحرام ، اختلف الناس فيها ، فكانوا أصنافا فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها ؟ وقال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ، هل تقبل الله منا ومنهم أو لا ؟ وقالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر . وقال المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه ، ويوشك أن يدخل في دينكم . فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين : سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا إلى قوله : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ وأنزل في الاَخرين الاَيات بعدها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ ؟ فقال عطاء : يبتليهم ليعلم من يسلم لأمره . قال ابن جريج : بلغني أن ناسا ممن أسلم رجعوا فقالوا : مرّة هَهنا ومرّة هَهنا .
فإن قال لنا قائل : أوَما كان الله عالما بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا بعد اتباع المتبع ، وانقلاب المنقلب على عقبيه ، حتى قال : ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه ؟ قيل : إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قبل كونها ، وليس قوله : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ يخبر أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجوده .
فإن قال : فما معنى ذلك ؟ قيل له : أما معناه عندنا فإنه : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . فقال جل ثناؤه : إلاّ لِنَعْلَمَ ومعناه : ليعلم رسولي وأوليائي ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه من حزبه ، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس إلى الرئيس ، وما فعل بهم إليه نحو قولهم : فتح عمر بن الخطاب سواد العراق ، وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه عن سبب كان منه في ذلك .
وكالذي رُوي في نظيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يَقُولُ اللّهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ : مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي ، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد عن محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمَن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قالَ اللّهُ : اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضنِي ، وشَتَمَنِي وَلَمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي ، يَقُولُ : وَادَهْرَاهُ وأنا الدّهْرُ أنا الدّهْرُ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمَن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره إذ كان ذلك عن سببه .
وقد حُكي عن العرب سماعا : أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير ظهري ، بمعنى جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم ، فكذلك قوله : إلاّ لِنَعْلَمَ بمعنى يعلم أوليائي وحزبي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ قال ابن عباس : لنميز أهل اليقين من أهل الشرك والريبة .
وقال بعضهم : إنما قيل ذلك من أجل أن العرب تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كما قال جل ذكره : ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحابِ الفِيلِ . فزعم أن معنى : ألَمْ تَرَ : ألم تعلم ، وزعم أن معنى قوله : إلاّ لِنَعْلَمَ بمعنى : إلا لنرى من يتبع الرسول . وزعم أن قول القائل : رأيت وعلمت وشهدت حروف تتعاقب فيوضع بعضها موضع بعض ، كما قال جرير بن عطية :
كأنّك لمْ تَشْهَدْ لَقِيطا وَحاجِبا وعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعا يالَ دارِمِ
بمعنى : كأنك لم تعلم لقيطا لأن بين هلك لقيط وحاجب وزمان جرير ما لا يخفى بعده من المدّة . وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية ، وجرير كان بعد برهة مضت من مجيء الإسلام . وهذا تأويل بعيد ، من أجل أن الرؤية وإن استعملت في موضع العلم من أجل أنه مستحيل أن يرى أحد شيئا ، فلا توجب رؤيته إياه علما بأنه قد رآه إذا كان صحيح الفطرة ، فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية أن يضاف إليه إثباته إياه علما ، وصحّ أن يدلّ بذكر الرؤية على معنى العلم من أجل ذلك . فليس ذلك وإن كان في الرؤية لما وصفنا بجائز في العلم ، فيدلّ بذكر الخبر عن العلم على الرؤية لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها ، ويستحيل أن يرى شيئا إلا علمه ، كما قد قدمنا البيان ، مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال : علمت كذا بمعنى رأيته ، وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكلام إلى ما كان موجودا مثله في كلام العرب دون ما لم يكن موجودا في كلامها ، فموجود في كلامها «رأيت » بمعنى «علمت » ، وغير موجود في كلامها «علمت » بمعنى «رأيت » ، فيجوز توجيه إلاّ لِنَعلمَ إلى معنى : إلا لنرى .
وقال آخرون : إنما قيل : إلاّ لِنَعْلَمَ من أجل أن المنافقين واليهود وأهل الكفر بالله أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يعلم الشيء قبل كونه ، وقالوا إذ قيل لهم : إن قوما من أهل القبلة سيرتدّون على أعقابهم ، إذا حوّلت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة : ذلك غير كائن ، أو قالوا : ذلك باطل . فلما فعل الله ذلك ، وحوّل القبلة ، وكفر من أجل ذلك من كفر ، قال الله جل ثناؤه : ما فعلت إلا لنعلم ما عندكم أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه ، أني عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد .
فكأن معنى قائل هذا القول في تأويل قوله : إلا لِنَعْلَمَ إلا لنبين لكم أنا نعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وهذا وإن كان وجها له مخرج ، فبعيد من المفهوم .
وقال آخرون : إنما قيل : إلاّ لِنَعْلَمَ وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال ، على وجه الترفّق بعباده ، واستمالتهم إلى طاعته ، كما قال جل ثناؤه : ( . . . قُل اللّهُ . وإنّا أو إيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وقد علم أنه على هدى وأنهم على ضلال مبين ، ولكنه رفق بهم في الخطاب ، فلم يقل : أنا على هدى ، وأنتم على ضلال . فكذلك قوله : إلاّ لِنَعْلَمَ معناه عندهم : إلا لتعلموا أنتم إذ كنتم جهالاً به قبل أن يكون فأضاف العلم إلى نفسه رفقا بخطابهم . وقد بينا القول الذي هو أولى في ذلك بالحقّ .
وأما قوله : مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ فإنه يعني : الذي يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به ، فيوجه نحو الوجه الذي يتوجه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فإنه يعني : من الذي يرتدّ عن دينه ، فينافق ، أو يكفر ، أو يخالف محمدا صلى الله عليه وسلم في ذلك ممن يظهر اتباعه . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ قال : من إذا دخلته شبهة رجع عن الله ، وانقلب كافرا على عقبيه .
وأصل المرتدّ على عقبيه : هو المنقلب على عقبيه الراجع مستدبرا في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفا عنه ، فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير ، ومن ذلك قوله : فارْتَدّا على آثارِهِما قَصصا بمعنى رجعا في الطريق الذي كانا سلكاه .
وإنما قيل للمرتدّ مرتدّ ، لرجوعه عن دينه وملّته التي كان عليها . وإنما قيل رجع على عقبيه لرجوعه دبرا على عقبه إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل رجعه عنه ، فيجعل ذلك مثلاً لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره إذا انصرف عما كان فيه إلى الذي كان له تاركا فأخذه ، فقيل ارتدّ فلان على عقبه ، وانقلب على عقبيه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ .
اختلف أهل التأويل في التي وصفها الله جلّ وعزّ بأنها كانت كبيرة إلا على الذين هدى الله .
فقال بعضهم : عنى جل ثناؤه بالكبيرة : التولية من بيت المقدس شطر المسجد الحرام والتحويل ، وإنما أنّث الكبيرة لتأنيث التولية . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قال الله : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ يعني تحويلها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال : ما أمروا به من التحوّل إلى الكعبة من بيت المقدس .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال : كبيرة حين حوّلت القبلة إلى المسجد الحرام ، فكانت كبيرة إلا على الذين هدى الله .
وقال آخرون : بل الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل . ذكر من قال ذلك .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً أي قبلة بيت المقدس ، إلاّ على الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ .
وقال بعضهم : بل الكبيرة : هي الصلاة التي كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى . ذكر من قال ذلك .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال : صلاتكم حتى يهديكم الله عزّ وجل القبلة .
وقد حدثني به يونس مرّة أخرى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً قال : صلاتك هَهنا يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وانحرافك هَهنا .
وقال بعض نحويي البصرة : أنثت الكبيرة لتأنيث القبلة ، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله : وَإنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً . وقال بعض نحويي الكوفة : بل أنثت الكبيرة لتأنيث التولية والتحويلة .
فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة : وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنت عليها وتوليتناك عنها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وإن كانت تحويلتنا إياك عنها وتوليتناك لكبيرة إلا على الذين هدى الله .
وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب ، لأن القوم إنما كبر عليهم تحويل النبيّ صلى الله عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى لا عين القبلة ولا الصلاة ، لأن القبلة الأولى والصلاة قد كانت وهي غير كبيرة عليهم إلا أن يوجه موجّه تأنيث الكبيرة إلى القبلة ، ويقول : اجتزىء بذكر القبلة من ذكر التولية والتحويلة لدلالة الكلام على معنى ذلك ، كما قد وصفنا لك في نظائره ، فيكون ذلك وجها صحيحا ومذهبا مفهوما . ومعنى قوله : كَبِيرَةً عظيمة . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ قال : كبيرة في صدور الناس فيما يدخل الشيطان به ابن آدم ، قال : ما لهم صلوا إلى هَهنا ستة عشر شهرا ثم انحرفوا فكبرُ ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين ، فقالوا : أيّ شيء هذا الدين ؟ وأما الذين آمنوا فثبت الله جل ثناؤه ذلك في قلوبهم . وقرأ قول الله : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال صلاتكم حتى يهديكم إلى القبلة .
قال أبو جعفر : وأما قوله : إلاّ عَلَىَ الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ فإنه يعني به : وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنت عليها لعظيمة إلا على من وفّقه الله جل ثناؤه فهداه لتصديقك ، والإيمان بك وبذلك ، واتباعك فيه وفيما أنزل الله تعالى ذكره عليك . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ يقول : إلا على الخاشعين ، يعني المصدّقين بما أنزل الله تبارك وتعالى .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُم قيل : عنى بالإيمان في هذا الموضع الصلاة . ذكر الأخبار التي رُويت بذلك وذكر قول من قاله :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وعبيد الله ، وحدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ .
حدثني إسماعيل بن موسى ، قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قول الله عزّ وجلّ : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء نحوه .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل عن الحرّاني ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : مات على القبلة قبل أن تحوّل إلى البيت رجال وقُتلوا ، فلم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ .
حدثنا بشر بن معاذ العقديّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال أناس من الناس لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام ، قال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ، هل تقبل الله منا ومنهم أم لا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُمْ قال : صلاتكم قبل بيت المقدس ، يقول : إن تلك طاعة وهذه طاعة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال ناس لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُمْ الآية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني داود بن أبي عاصم ، قال : لما صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، قال المسلمون : هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس ، فنزلت : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ يقول : صلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة ، فكان المؤمنون قد أشفقوا على من صلى منهم أن لا تقبل صلاتهم .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ صلاتكم .
حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري ، قال : أخبرنا المؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .
قد دللنا فيما مضى على أن الإيمان التصديق ، وأن التصديق قد يكون بالقول وحده وبالفعل وحده وبهما جميعا ، فمعنى قوله : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة : وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه الصلاة والسلام بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولي ، واتباعا لأمري ، وطاعة منكم لي . قال : وإضاعته إياه جل ثناؤه لو أضاعه ترك إثابة أصحابه وعامليه عليه ، فيذهب ضياعا ويصير باطلاً ، كهيئة إضاعة الرجل ماله ، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضا في عاجل ولا آجل . فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملاً وهو له طاعة فلا يثيبه عليه ، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله .
فإن قال قائل : وكيف قال الله جل ثناؤه : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين ، والقوم المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية ؟ قيل : إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك ، فإنهم أيضا قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة ، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا ، فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ ، فوجه الخطاب بها إلى الأحياء ، ودخل فيهم الموتى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب أن يغلبوا المخاطب ، فيدخل الغائب في الخطاب ، فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر : فعلنا بكما وصنعنا بكما ، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران ، ولا يستجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فيردّوا المخاطب إلى عداد الغَيَبِ .
القول في تأويل قوله تعالى : إن اللّهَ بالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ .
ويعني بقوله جل ثناؤه : إنّ اللّهَ بالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ أن الله بجميع عباده ذو رأفة . والرأفة أعْلى معاني الرحمة ، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الاَخرة . وأما الرحيم ، فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والاَخرة على ما قد بينا فيما مضى قبل .
وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عزّ وجلّ أرحم بعباده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها ، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم . أي ولا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، فإني لهم على طاعتهم إياي بصلاتهم التي صلوها كذلك مثيب ، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملاً عملوه لي . ولا تحزنوا عليهم ، فإني غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة ، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم ، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله . وفي الرءوف لغات : إحداها «رَؤُف » على مثال «فَعُل » كما قال الوليد بن عقبة :
وَشَرّ الطّالِبِينَ وَلاَ تَكُنْهُ يُقاتِلُ عَمّهُ الرّؤُفُ الرّحِيما
وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة . والأخرى «رءوف » على مثال «فَعُول » ، وهي قراءة عامة قرّاء المدينة . و «رَئِف » ، وهي لغة غطفان ، على مثال «فَعِل » مثل «حَذِر » . و «رَأْف » على مثال «فَعْل » بجزم العين ، وهي لغة لبني أسد ، والقراءة على أحد الوجهين الأوّلين .
{ وكذلك } إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة ، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل . { جعلناكم أمة وسطا } أي خيارا ، أو عدولا مزكين بالعلم والعمل . وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، ثم أطلق على المتصف بها ، مستويا فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها ، واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } علة للجعل ، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج ، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم ، بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلغوا ونصحوا . ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات ، والإعراض عن الآيات ، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم ، أو بعدكم . روي " أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالبهم الله ببينة التبليغ -وهو أعلم بهم- إقامة للحجة على المنكرين ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم من أين عرفتم ؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيشهد بعدالتهم " وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى ، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم . { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } أي الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها بمكة ، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود . أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما ( كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ ، وعلى الثاني المنسوخ . والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس .
{ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها ، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه . أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه ، وما كان لعارض يزول بزواله . وعلى الأول معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها ، إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه . فإن قيل : كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالما . قلت : هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء ، والمعنى ليتعلق علمنا به موجودا . وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه ، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب } فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه ، ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول ، والعلم إما بمعنى المعرفة ، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام ، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب ، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب .
{ وإن كانت لكبيرة } إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفاصلة . وقال الكوفيون هي النافية واللام بمعنى إلا . والضمير لما دل عليه قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } من الجعلة ، أو الردة ، أو التولية ، أو التحويلة ، أو القبلة . وقرئ لكبيرة بالرفع فتكون كان زائدة { إلا على الذين هدى الله } إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان والاتباع { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي ثباتكم على الإيمان . وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة ، أو صلاتكم إليها لما روي : أنه عليه السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا فنزلت { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاحهم ، ولعله قدم الرؤوف وهو أبلغ محافظة على الفواصل وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص لرؤوف بالمد ، والباقون بالقصر .
هذه الجملة معترضة بين جملة : سيقول السفهاء { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 142 ] الخ وجملة : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } الخ ، والواو اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية ، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مِما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عُدولاً خياراً ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة .
وقوله : { وكذلك } مركب من كاف التشبيه واسممِ الإشارة فيتعيَّن تَعَرُّف المشار إليه وما هو المشبه به قال صاحب « الكشاف » : « أي مثلَ ذلك الجَعْل العَجيب جعلناكم أمةً وسطاً » فاختلف شارحُوه في تقرير كلامه وتبين مراده ، فقال البيضاوي : « الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قوله : { يهدي من يشاى إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 142 ] أي كما جعلناكم أمة وسطاً أو كما جعلنا قبلتكم أفضلَ قِبلة جعلناكم أمة وسطاً » اهـ . أي إن قوله : { يهدي من يشاء } يُومِىء إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء { ما وَلاَّهم } [ البقرة : 142 ] على ما قدمناه وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يُعَرِّجْ على وصف « الكشاف » الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالباً من دون إرادة بُعد وفيه نظر ، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السَّابق فالإشارة حينئذٍ إلى مذكور متقرر في العِلم فهي جارية على سَنن الإشارات .
وحمل شراح « الكشاف » الكاف على غير ظاهر التشبيه ، فأما الطيبي والقطب فقالا الكاف فيه اسم بمعنى مِثل منتصب على المفعولية المطلقة لِجعلناكم أي مثلَ الجَعْل العجيب جعلناكم فليس تشبيهاً ولكنه تمثيل لحالة والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله : { يهدي } وهو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام ، ووجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه وهو الذي عناه في « الكشاف » بالجعل العجيب ، فالتعظيم هنا لبداعة الأمر وعجابته ، ثم إن القطب ساق كلاماً نقض به صدر كلامه .
وأما القزويني صاحبُ « الكشْف » والتفتزاني فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل ولا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائباً مناب مفعول مطلق لجعلناكم كأنه قيل ذلك الجعلَ جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة . والتشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبِّه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلاّ أن يشبهه بنفسه وهذا قريب من قوله النابغة : « والسفاهة كاسمها » فليست الكاف بزائدة ولا هي للتشبيه ولكنها قريبة من الزائدة ، والإشارة حينئذٍ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة .
وكلام « الكشاف » أظهر في هذا المحمل فيدل على ذلك تصريحه في نظائره إذ قال في قوله تعالى : { كذلك وأورثناها بني إسرائيل } [ الشعراء : 59 ] الكاف منصوبة على معنى مثل أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم وأورثناها . واعلم أن الذي حدا صاحب « الكشاف » إلى هذا المحمل أن استعمال اسم الإشارة في هذا وأمثاله لا يطرد فيه اعتبار مشار إليه مما سبق من الكلام ألا ترى أنه لا يتجه اعتبار مشار إليه في هذه الآية وفي آية سورة الشعراء ولكن صاحب « الكشاف » قد خالف ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام ( 112 ) { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً } فقال : كما خلَّيْنَا بينَك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم اهـ ، وما قاله في هذه الآية منزع حسن ؛ لكنه لم يضرب الناظرون فيه بعَطن .
والتحقيق عندي أن أصل : { كذلك } أن يدل على تشبيه شيء بشيء والمشبه به ظاهر مشار إليه أو كالظاهر ادعاءً ، فقد يكون المشبه به المشار إليه مذكوراً مثل قوله تعالى : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] إشارة إلى قوله : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله } [ هود : 101 ] الآية . وكقول النابغة :
فأَلْفَيْتُ الأَمانةَ لم تَخُنْها *** كذلك كانَ نوحٌ لا يَخُون
وقد يكون المشبه به المُشارُ إليه مفهوماً من السياق فيحتمل اعتبار التشبيه ويُحتمل اعتبار المفعوليَّة المطلقة كقوللِ أبي تَمَّام :
كَذا فليجلَّ الخَطْبُ وَلْيَفْدحَ الأَمْر *** فليس لعين لم يفض دمعُها عُذر
قال التبريزي في « شرحه » الإشارة للتعظيم والتهويل وهو في صدر القصيدة لم يسبق له ما يشبه به فقُطع النظر فيه عن التشبيه واستعمل في لازم معنى التشبيه اهـ ، يعني أن الشاعر أشار إلى الحادث العظيم وهو موت محمد بن حميد الطوسي ، ومثله قول الأسدي من شعراء « الحماسة » يرثى أخاه{[164]} :
فهكذا يذهب الزمان ويفْ *** نَى العلم فيه ويَدْرُسُ الأَثَر
وقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } على ما فسر به البيضاوي من هذا القبيل .
وقد يكون مراداً منه التنويه بالخبر فيجعل كأنه مما يروم المتكلم تشبيهه ثم لا يجد إلاّ أن يشبهه بنفسه وفي هذا قطع للنظر عن التشبيه في الواقع ومثله قول أحد شعراء فزارة في الأدب من « الحماسة » :
كذاك أُدِّبْت حتى صار من خُلُقي *** أني رأيتُ مِلاكَ الشِّيمة الأدبا
أي أدبت هذا الأدب الكامن العجيب ، ومنه قول زهير
كَذَلك خِيمهم ولكُلِّ قوم *** إذا مَسَّتْهم الضَّراء خِيمُ
وقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } من هذا القبيل عند شراح « الكشاف » وهو الحق ، وأوضح منه في هذا المعنى قوله تعالى :
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } [ الأنعام : 53 ] فإنه لم يسبق ذكر شيء غير الذي سماه الله تعالى فتنة أخذاً من فعل { فتنا } . والإشارة على هذا المحمل المشار إليه مأخوذ من كلام متأخر عن اسم الإشارة كما علمت آنفاً لأنه الجعل المأخوذ من { جعلناكم } ، وتأخير المشار إليه عن الإشارة استعمال بليغ في مقام التشويق كقوله تعالى : { قال هذا فراق بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] أو من كلام متقدم عن اسم الإشارة كما للبيضاوي إذ جعل المشار إليه هو الهدى المأخوذة من قوله تعالى : { يهدي من يشاء } [ البقرة : 142 ] ولعله رأى لزوم تقدم المشار إليه .
والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفاً ولما كان الوصول إليه لا يقع إلاّ بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة طبعاً كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلاّ بعد أكل ما في الجوانب فيبقى كثير العشب والكلأ ، ووضعاً كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة ، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه ، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفاً فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير
هُمُ وسَط يَرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
وقال تعالى : { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون } [ القلم : 28 ] .
وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلاً بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور ، والكرم بين الشح والسرف والعدالة بين الرحمة والقساوة ، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك روي حديث : " خير الأمور أوساطها " وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين .
فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى : { كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وفسر بالعدول والتفسير الثاني رواه الترمذي في « سننه » من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال حسن صحيح ، والجمع في التفسيرين هو الوجه كما قدمناه في المقدمة التاسعة .
ووصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محضة لا تشعر بصفة في الذات .
وضمير المخاطبين هنا مراد به جميع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة فيعم كل من صلى لها ، ولأن قوله { لتكونوا شهداء } قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية .
والآية ثناء على المسلمين بأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطاً بما هيأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بياناً جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الضلالات التي راجت على الأمم ، قال فخر الدين يجوز أن يكونوا وسطاً بمنعى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح ابن الله ، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل .
واستدل أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة أي المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه ، وفي بيان هذا الاستدلال طرق :
الأول قال الفخر إن الله أخبر عن عدالة الأمة وخيريتها فلو أقدموا على محظور لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت ذلك وجب كون قولهم حجة اهـ ، أي لأن مجموع المجتهدين عدول بقطع النظر عن احتمال تخلف وصف العدالة في بعض أفرادهم ، ويبطل هذا أن الخطأ لا ينافي العدالة ولا الخيرية فلا تدل الآية على عصمتهم من الخطأ فيما أجمعوا عليه وهذا رَدٌّ متمكن ، وأجيب عنه بأن العدالة الكاملة التي هي التوسط بين طرفي إفراط وتفريط تستلزم العصمة من وقوع الجميع في الخطأ في الأقوال والأفعال والمعتقدات .
الطريق الثاني قال البيضاوي لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت عدالتهم اهـ ، يعني أن الآية اقتضت العدالة الكاملة لاجتماع الأمة فلو كان إجماعهم على أمر باطل لانثلمت عدالتهم أي كانت ناقصة وذلك لا يناسب الثناء عليهم بما في هذه الآية ، وهذا يرجع إلى الطريق الأول .
الطريق الثالث قال جماعة الخطاب للصحابة وهم لا يجمعون على خطأ فالآية حجة على الإجماع في الجملة ، ويرد عليه أن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد وقد يكون إجماعهم عن اجتهاد أما إجماعهم على ما هو من طريق النقل فيندرج فيما سنذكره .
والحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدحٌ للأمة كلها لا لخصوص علمائها فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة لا من أحوال جميعها ، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل للشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبيء صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن ، وهذا من أحوال إثبات الشريعة ، به فسرت المجملات وأسست الشريعة ، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه ، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر ، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها .
وأما كون الآية دليلاً على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلاَّ بأن يقال إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطاً وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمَلَ عقولَ هذه الأمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم ، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإِثبات أحكامها بالاستدلال استنباطاً بالنسبة للعلماء وفَهْماً بالنسبة للعامة ، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قَيِّمة وهو معنى كونها وسطاً ، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكلَّ فرد ، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبتَ لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في الضلال لا عمداً ولا خطأ ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظراً ، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها ، ثم إن العامة تأخذ نصيباً من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال .
وقوله : { لتكونوا شهداء } علة لجَعْلِهم وسطاً فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة ، ولا بوجوب وإلجاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم منها خيراً فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته .
و ( الناس ) عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية . فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهورِ الحق ، وهذا حكم تاريخي ديني عليه إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب .
والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعَمْ يا رب فتُسْأل أمتُه هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول الله مَن شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } قال عدلاً { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً » اهـ . فقوله ثم قرأ يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية ، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطاً ، وأما مجيء شهادة الآخرة على طِبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى :
{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم } [ طه : 124 126 ] .
ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دَعوتنا الأممَ للإِسلام ، ليقوم ذلك مقامَ دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين .
والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم ، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شَهِد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم .
وقوله : { ويكون الرسول عليكم شهيداً } معطوف على العلة وليس علة ثانية لأنه ليس مقصوداً بالذات بل هو تَكميل للشهادة الأولى لأن جعلنا وسطاً يناسبه عدم الاحتياج إلى الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا ، فأما الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إنما بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإما بعكس ذلك ، وأما الأخروية فهي ما روى في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمة فيما شهِدت به ، وما روي في الحديث الآخر في « الموطأ » و« الصحاح » : " فَلَيُذَادنَّ أقوام عن حوضي فأقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدلوا وغيروا فأقول سحقاً سُحقاً لمن بدل بعدي " . وتعدية شهادة الرسول على الأمة بحرف على مشاكلة لقوله قبله { لتكونوا شهداء على الناس } وإلاَّ فإنها شهادة للأمة وقيل بل لتضمين { شهيداً } معنى رقيباً ومهيمناً في الموضعين كما في « الكشاف » .
وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضي إلاّ بعد حصولها . ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينه أو يسمع بأذنيه ، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة ، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكَّى ، وأن المزكي لا يحتاج للتزكية ، وأن الأمَّة لا تشهد على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع : " أَلاَ هل بَلغْتُ فيقولون نعم فيقول اللهم اشْهَد " فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت .
وتقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلاّ لمجرد الاهتمام بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلاّ رسولها ، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمةً ذاتَ حرف مد قبل الحرف الأخير لأن المد أمْكن للوقف وهذا من بدائع فصاحة القرآن ، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم .
الواو عاطفة على جملة : { سيقول السفهاء من الناس } [ البقرة : 142 ] وما اتصل بها من الجواب بقوله : { قل لله المشرق والمغرب } قُصد به بيان الحكمة من شرع استقبال بيت المقدس ثم تحويل ذلك إلى شرع استقبال الكعبة ، وما بين الجملتين من قوله : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } إلى آخرها اعتراض .
والجَعْل هنا جَعْل التشريع بدليل أن مفعوله من شؤون التعبد لا من شؤون الخلق وهو لفظ القبلة ، ولذلك فَفِعْلُ جَعَل هنا متعد إلى مفعول واحد لأنه بمعنى شرعنا ، فهذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة فيكون المراد بيت المقدس ، وعدل عن تعريف المسند باسمه إلى الموصول لمحاكاة كلام المردود عليهم حين قالوا { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] مع الإيماء إلى تعليل الحكمة المشار إليها بقوله تعالى : { إلا لنعلم } أي ما جعلنا تلك قبلةً مع إرادة نسخها فألزمناكَها زمناً إلاّ لنعلم الخ .
والاستثناء في قوله : { إلا لنعلم } استثناء من علل وأحوال أي ما جعلنا ذلك لسبب وفي حال إلاّ لنظهر من كان صادق الإيمان في الحالتين حالة تشريع استقبال بيت المقدس وحالة تحويل الاستقبال إلى الكعبة . وذكر عبد الحكيم أنه قد روي أن بعض العرب ارتدوا عن الإسلام لما استقبل رسول الله بيت المقدس حمية لقبلة العرب ، واليهود كانوا تأولوا لأنفسهم العذر في التظاهر بالإسلام كما قررناه عند قوله تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] فنافقوا وهم يتأولون للصلاة معه بأنها عبادة لله تعالى وزيادة على صلواتهم التي هم محافظون عليها إذا خلوا إلى شياطينهم مع أن صلاتهم مع المسلمين لا تشتمل على ما ينافي تعظيم شعائرهم إذ هم مستقبلون بيت المقدس فلما حولت القبلة صارت صفة الصلاة منافية لتعظيم شعائرهم لأنها استدبار لما يجب استقباله فلم تبق لهم سمة للتأويل فظهر من دام على الإسلام وأعرض المنافقون عن الصلاة .
وجعل علم الله تعالى بمن يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه علة هذين التشريعين يقتضي أن يحصل في مستقبل الزمان من التشريع كما يقتضيه لام التعليل وتقدير أن بعد اللام وأن حرف استقبال مع أن الله يعلم ذلك وهو ذاتي له لا يحدث ولا يتجدد لكن المراد بالعلم هنا علم حصول ذلك وهو تعلق علمه بوقوع الشيء الذي علم في الأزل أنه سيقع فهذا تعلق خاص وهو حادث لأنه كالتعلق التنجيزي للإرادة والقدرة وإن أغفل المتكلمون عدّه في تعلقات العلم{[165]} .
ولك أن تجعل قوله : { لنعلم من يتبع الرسول } كناية عن أن يعلم بذلك كل من لم يعلم على طريق الكناية الرمزية فيذكر علمه وهو يريد علم الناس كما قال إياس بن قبيصة الطائي :
وأقَدْمتُ والْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بينَنَا *** لأَعْلَمَ مَنْ جُبَّاؤها مِن شُجاعِها
أراد ليظهر من جبانها من شجاعها فأعلمه أنا ويعلمه الناس فجاء القرآن في هذه الآية ونظائرها على هذا الأسلوب ، ولك أن تجعله كناية عن الجزاء للمتبع والمنقلب كل بما يناسبه ولك أن تجعل ( نعلم ) مجازاً عن التحيز لنظهر للناس بقرينة كلمة ( مَنْ ) المسماة بمن الفصلية كما سماها ابن مالك وابن هشام وهي في الحقيقة من فروع معاني من الابتدائية كما استظهره صاحب « المغني » ، وهذا لا يريبك إشكال يذكرونه ، كيف يكون الجعل الحادث علة لحصول العلم القديم إذ تبين لك أنه راجع لمعنى كنائي .
والانقلاب الرجوع إلى المكان الذي جاء منه ، يقال انقلب إلى الدار ، وقوله : { على عقيبه } زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه لأن العقبين هما خلف الساقين أي انقلب على طريق عقيبه وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعاً إلى الكفر السابق . و ( مَنْ ) موصولة وهي مفعول ( نعلم ) والعلم بمعنى المعرفة وفعله يتعدى إلى مفعول واحد .
وقوله : { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } عطف على جملة { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } والمناسبة ظاهرة لأن جملة { وإن كانت } بمنزلة العلة لجملة { نعلم من يتبع الرسول } فإنها ما كانت دالة على الاتباع والانقلاب إلاّ لأنها أمر عظيم لا تساهل فيه فيظهر به المؤمن الخالص من المشوب والضمير المؤنث عائد للحادثة أو القبلة باعتبار تغيرها .
والكبيرة هنا بمعنى الشديدة المحرجة للنفوس ، تقول العرب كبر عليه كذا إذا كان شديداً على نفسه كقوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } [ الأنعام : 35 ] .
الجملة في موضع الحال من ضمير { لنعلم } أي لنُظْهر من يتبع الرسول ومن ينقلب على عقيبه ونحن غير مضيعين إيمانكم . وذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار للتعظيم .
روى البخاري عن البراء بن عازب قال : > . وفي قوله : « قتلوا » إشكال لأنه لم يكن قتال قبل تحويل القبلة وسنين ذلك ، وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال لما وُجِّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } الآية قال هذا حديث حسن صحيح .
والإضاعة إتلاف الشيء وإبطال آثاره وفُسِّر الإيمان على ظاهره ، وفسر أيضاً بالصلاة نقله القرطبي عن مالك .
وتعلق { يضيع } بالإيمان على تقدير مضاف فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وسَاوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تَودونها ، وإن فسر الإيمانُ بالصلاة كان التقدير ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها ، وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها أعظم أركان الإيمان ، وعن مالك : « إِنِّي لأَذكر بهذا قول المرجئة الصلاة ليست من الإيمان » .
ومعنى حديث البخاري والترمذي أن المسلمين كانوا يظنون أنَّ نَسْخَ حُكْم ، يجعل المنسوخ باطلاً فلا تترتب عليه آثار العمل به فلذلك توجسوا خيفة على صلاة إخوانهم اللذين ماتوا قبل نسخ استقبال بيت المقدس مثل أسعد بن زُرَارَة والبراءِ بن مَعْرُور وأبي أمامة ، وظن السائلون أنهم سيجب عليهم قضاء ما صلَّوه قبل النسخ ولهذا أجيب سؤالهم بما يشملهم ويشمل من ماتوا قبلُ فقال { إيمانكم } ، ولم يقل إيمانهم على حسب السؤال .
والتذييل بقوله : { إن الله بالناس لرءوف رحيم } تأكيد لعدم إضاعة إيمانهم ومنة وتعليم بأن الحكم المنسوخ إنما يلغى العمل به في المستقبل لا في ما مضى .
والرءوف الرحيم صفتان مُشَبَّهَتان مشتقة أولاهما من الرأفة والثانية من الرحمة . والرأفة مفسرة بالرحمة في إطلاق كلام الجمهور من أهل اللغة وعليه درج الزجاج وخص المحققون من أهل اللغة الرأفة بمعنى رحمة خاصة ، فقال أبو عَمرو بن العلاء الرأفة أكثر من الرحمة أي أقوى أي هي رحمة قوية ، وهو معنى قول الجوهري الرأفة أشد الرحمة ، وقال في « المُجْمَل » الرأفة أخص من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهية والرحمةُ تقع في الكراهية للمصلحة ، فاستخلص القفال من ذلك أن قال : الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضر كقوله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } [ النور : 2 ] ، وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام اهـ . وهذا أحسن ما قيل فيها واختاره الفخر وعبد الحكيم وربما كان مشيراً إلى أن بين الرأفة والرحمة عموماً وخصوصاً مطلقاً وأياً ما كان معنى الرأفة فالجمع بين رءوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة . وأما على اعتبار تفسير المحققين لِمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تَعَالى يرحم الرحمة القوية لمُستحقها ويرحم مطلق الرحمة مَنْ دونَ ذلك .
وتقدم معنى الرحمة في سورة الفاتحة .
وتقديم ( رءوف ) ليقع لفظ رحيم فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رءوف معتمد ساكنه على الهمز والهمز شبيه بحروف العلة فالنطق به غير تام التمكن على اللسان وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف .
وتقديم { بالناس } على متعلَّقه وهو { رءوف رحيم } للتنبيه على عنايته بهم إيقاظاً لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة .
وقرأ الجمهور ( لرءوف ) بواو ساكنة بعد الهمزة وقرأهُ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخَلَف بدون واو مع ضم الهمزة بوزن عَضُد وهو لغة على غير قياس .