معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات } . جمع شهوة وهي ما تدعو النفس إليه .

قوله تعالى : { من النساء } بدأ بهن لأنهن حبائل الشيطان .

قوله تعالى : { والبنين والقناطير } جمع قنطار واختلفوا فيه ، فقال الربيع بن انس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : القنطار ألف ومائتا أوقية ، لكل أوقية أربعون درهما ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك : ألف ومائتا مثقال ، وعنهما رواية أخرى اثنا عشر ألف درهم وألف دينار دية أحدكم ، وعن الحسن قال : القنطار دية أحدكم ، وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو مائة ألف ، ومائة من ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم . ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا ، وقال سعيد بن المسيب وقتادة : ثمانون ألفاً ، وقال مجاهد : سبعون ألفاً ، وعن السدي قال : أربعة آلاف مثقال ، وقال الحكم : القنطار مابين السماء والأرض من مال . وقال أبو نصرة ملء مسك ثور ذهباً أو فضة ؛ وسمي قنطاراً من الإحكام ، يقال : قنطرت الشيء إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة .

قوله تعالى : { المقنطرة } . قال الضحاك : المحصنة المحكمة ، وقال قتادة : هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض . وقال يمان : هي المدفونة ، وقال السدي : هي المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير . وقال الفراء :المضعفة ، فالقناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة .

قوله تعالى : { من الذهب والفضة } . وقيل سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى ، والفضة لأنها تنفض أي تتفرق .

قوله تعالى : { والخيل المسومة } . الخيل جمع لا واحد له من لفظه ، واحدها فرس كالقوم والنساء ونحوهما . والمسومة ، قال مجاهد : هي المطهمة الحسان . وقال عكرمة : تسويمها حسنها . وقال سعيد بن جبير : هي الراعية ، يقال : أسام الخيل وسومها ، وقال الحسن وأبو عبيده : هي المعلمة من السيماء ، والسمة العلامة . ثم منهم من قال : سيماها الشبة واللون ، وهو قول قتادة ، وقيل : الكي .

قوله تعالى : { والأنعام } . جمع النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه .

قوله تعالى : { والحرث } يعني الزرع .

قوله تعالى : { ذلك } . الذي ذكرت .

قوله تعالى : { متاع الحياة الدنيا } . يشير إلى أنها متاع يفنى .

قوله تعالى : { والله عنده حسن المآب } . أي المرجع ، فيه إشارة إلى التزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

ثم بين - سبحانه - أهم الشهوات التي يؤدى الانهماك في طلبها إلى الانحراف في التفكير ، وإلى عدم التبصر والاعتبار ، ودعا الناس إلى التزود من العمل الصالح الذي يفضى بهم إلى رضاه - سبحانه - فقال : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ . . . } .

فأنت ترى في هذه الآيات الكريما بيانا حكيما من الله - تعالى - لأهم متع الحياة الدنيا وشهواتها ، ولما هو خير من هذه المتع والشهوات ، مما أعده الله لعباده المتقين من جنات وخيرات .

وقوله { زُيِّنَ } من التزيين وهو تصيير الشيء زينا أى حسنا . والزينة هى ما فى الشيء من المحاسن التي ترغب الناظرين في اقتنائه .

قال الراغب : " والزينة بالقول المجمل ثلاث : زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة ، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة ، وزينة خارجية كالمال والجاه . . وقد نسب الله التزيين في مواضع إلى نفسه كما في قوله - تعالى - { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } ونسبه في مواضع إلى الشيطان كما في قوله { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } وذكره في مواضع غير مسمى فاعله كما في قوله - تعالى - { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } .

والشهوات جمع شهوة ، وهي ثوران النفس وميلها نحو الشيء المشتهى . والمراد بها هنا الأشياء المشتهاة من النساء والبنين . . . إلخ . وعبر عنها بالشهوات للإشارة - كما يقول الألوسي - إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى لكأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض : ما تشتهي ؟ فقال : أشتهي أن أشتهى . أو تنبيها على خستها : لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله ، ثم قال : والتزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب ، وهو بهذا المعنى مضاف إليه - تعالى - حقيقة ؛ لأنه لا خالق إلا هو . ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها " .

ثم بين - سبحانه - أهم المشتهيات التي يحبها الناس ، وتهفوا إليها قلوبهم ، وترغب فيها نفوسهم ، فأجملها في أمور ستة .

أما أولها : فقد عبر عنه القرآن بقوله : " من النساء ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية ، ويكفي أن الله - تعالى - قد قال في العلاقة بين الرجل والمرأة { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقال تعالى - في آية ثانية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وإن بعض الرجال قد يستهين بكل شيء في سبيل الوصول إلى المرأة التي يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " ، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة . و { مِنَ } في قوله { مِنَ النساء والبنين } بيانية ، وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال من الشهوات .

واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمراة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغني عن ذكر الطرفين معاً ، وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصاً في هذا المجال الذي يحرص فيه القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس ، ولأن المرأة في هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة . وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذي يطلبها لا هي التي تطلبه .

وأما ثاني المشتهيات : فقد عبر عنه القرآن بقوله { والبنين } جمع ابن ، وهو معطوف على ما قبله ، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء ، واكتفى بذكر البنين ، لأنهم موضع الفخر في العادة وحب الأولاد طبيعة في النفس البشرية فهم ثمرات القلوب ، وقرة الأعين ومهوى ألفئدة ، ومطمح الآمال ، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } وسيدنا زكريا يقول : { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } والإنسان في سبيل حبه لأولاده يضحى براحته ، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام ، وقد يرتكب بعض الأعمال التي لا يريد ارتكابها إرضاء لهم ، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضي ذلك .

وصدق الله إذ يقول : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة " أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه ، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثاراً لهم بالمال ، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه .

أما الأمر الثالث من المشتهيات : فقد عبر عنه القرآن بقوله { والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } والقناطير جمع قنطار ، وهو مأخوذ من عقد الشىء وإحكامه ، تقول العرب : قنطرت الشىء إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها .

قال الفخر الرازى " القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون : إنه وزن لا يحد . واعلم أن هذا هو الصحيح ، ومن الناس من حاول تحديده . فعن ابن عباس : القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية " .

ولفظ { المقنطرة } مأخوذ من القنطار . ومن عادة العرب أن يصفوا الشىء بما يشتق منه للمبالغة أي والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنطاراً كقولهم : دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة .

وقوله { مِنَ الذهب والفضة } بيان للناطير ، وهو فى موضع الحال هنا .

والمراد أن الإنسان محب للمال حباً شديداً ، قال - تعالى - { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } وقال تعالى - { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً }

وفي الحديث الشريف الذى رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً . ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب . ويتوب الله على من تاب " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

وقالت السيدة - عائشة - رضي الله عنها - " رأيت ذا المال مهيبا ، ورأيت ذا الفقر مهينا " وقالت : " إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال " .

وإنما كان الذهب والفضة مبحوبين ، لأنهما - كما يقول الرازى - جعلا ثمنا لجميع الأشياء ، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء " وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذى هو محبوب لذاته - وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب - لا جرم كانا محبوبين " .

وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى في قوله - تعالى - { والخيل المسومة والأنعام والحرث } .

ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظة ، بل مفرده فرس فهو نظير قوم - ورهط ونساء . ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل ، فهو نظير راكب ، وطائر وطير . وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال في مشيتها .

والمسومة : أى الراعية في المروج والمسارح . يقال : سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى . أو المطهمة الحسان ، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة .

والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة ، مهما تفنن البشر في اختراع صنوف من المراكب براً وبحراً فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة . ويقتنونها للركوب والمسابقات . . . { والأنعام } جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها .

والأنعام فيها زينة . والإنسان في حاجة شديدة إليها في مركبه ومطعمه وغير ذلك . قال - تعالى - { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } و { والحرث } مصدر بمعنى المفعول أى المحروث . والمراد به المزروع سواء أكان حبوباً أم بقلا ، أم ثمراً إذ من هذه الأشياء يتخذ الإنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته .

تلك هى أهم المشتهيات في هذه الحياة إلى نفس الإنسان قد جمعها القرآن في آية واحدة ، وقد اختصها - سبحانه - بالذكر لأنها أوضح من غيرها في الاحتياج إليها والتلذذ بها ، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية ، أم مالية ، أم غير ذلك من ألوان المتع ، ومن مستلزمات الحياة .

وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } . واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى كل ما تقدم ذكره من الأمور الستة التي سبق الحديث عنها ، والمآب : مصدر ميمى بوزن مفعل ، من آب . كقال - إياباً وأوباً ومآباً ، إذا رجع . وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفاً مثل مقال .

أى ذلك المذكور من النساء والبنين وما عطف عليهما هو موضع الزينة ، ومطلب الناس الذى يستمتعون به ، . . . .

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المشتهيات التي جبل الإنسان على الميل إليها ، وصياغة الفعل للمجهول { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } للإشارة إلى أن محبة هذه الأشياء واشتهاءها مركوز في الفطرة الإنسانية منذ أوجد الله الإنسان في هذه الحياة الدنيا .

وهذه المشتهيات ليست خسيسة في ذاتها ، ولا يقصد الإسلام إلى تخسيسها في ذاتها أو إلى التنفير منها ، وإنما الإسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا في طلبها ، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة ، وأن يضعوها في مواضعها المشروعة ، وأن يشكروا الله عليها ، وألا يجعلوها غاية مقصدهم في هذه الحياة إن الإسلام لا يحارب الفطرة الإنسانية التي تشتهي هذه الأشياء ، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الأشياء في موضعها المناسب ، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل فى غير ما خلقها الله من أجله ، وبذلك يسعد الإنسان في دينه ودنياه وآخرته .

وللإمام ابن كثير كلام حسن عند تفسيره لهذه الآية فقد قال ما ملخصه : يخبر الله - تعالى - عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين ، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد . . فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بذلك . . وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر . . . فيكون مذموما ، وتارة يكون للنفقة في وجوه البر فيكون محموداً . . وحب الخيل على ثلاثة أقسام ، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون . وتارة تربط فخرا ومناوأة لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر . وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها تر . وفى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " والسكة النخل المصطف ، والمأبورة الملقحة ، . وفي الصحيحن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم غرس أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه " .

هذا ، وختام الآية الكريمة بقوله { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإنسان فهى زوال ، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهي التي أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين في الدار الآخرة ، ولذا قال - سبحانه - بعد ذلك { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

1

وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف ؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة ؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى ؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى .

إن الاستغراق في شهوات الدنيا ، ورغائب النفوس ، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار ؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة ؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى ؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة ؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض ؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض .

ولما كانت هذه الرغائب والدوافع - مع هذا - طبيعية وفطرية ، ومكلفة من قبل الباريء - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها ، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها ، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها ، وتخفيف حدتها واندفاعها ؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكا لها متصرفا فيها ، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه ؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى .

ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي . . هذه الرغائب والدافع ، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر الوانا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر ، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة ، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة .

وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان : النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام . . وهي خلاصة للرغائب الأرضية . إما بذاتها ، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى . . وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر : جنات تجري من تحتها الأنهار . وأزواج مطهرة . وفوقها رضوان من الله . . وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض ، ويصل قلبه بالله ، على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان :

( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام ، والحرث . . ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب . قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله . والله بصير بالعباد . الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار . . )

( زين للناس ) . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل ؛ فهو محبب ومزين . . وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه . ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه " الشهوات " ، وهو جزء من تكوينه الأصيل ، لا حاجة إلى إنكاره ، ولا إلى استنكاره في ذاته . فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد - كما أسلفنا - ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل ، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده ؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها . هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي ، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه " الشهوات " . الحد الباني للنفس وللحياة ؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذيتهتف إليه النفحة العلوية ، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله . . هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول ، وينقيه من الشوائب ، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة ، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة . . والاتجاه إلى الله ، وتقواه ، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة .

( زين للناس حب الشهوات ) . . فهي شهوات مستحبة مستلذة ؛ وليست مستقذرة ولا كريهة . والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها ؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها ، ووضعها في مكانها لا تتعداه ، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى . والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك " الشهوات " في غير استغراق ولا إغراق !

وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها ، ومحاولة تهذيبها ورفعها ، لا كبتها وقمعها . . والذين يتحدثون في هذه الأيام عن " الكبت " واضراره ، وعن " العقد النفسية " التي ينشئها الكبت والقمع ، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو " الكبت " وليس هو " الضبط " . . وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس ، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين : ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلا ، فهي خطيئة ودافع شيطاني ! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة ، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية ، لا تتم إلا بها ، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثا . . وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون " العقد النفسية " . . فحتى إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النظريات النفسية ، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية . بين نوازع الشهوة واللذة ، وأشواق الارتفاع والتسامي . . وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .

( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث . . . ) . .

والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية . . وقد قرن اليهما ( القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) . . ونهم المال هو الذي ترسمه ( القناطير المقنطرة ) ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال : والأموال . أو والذهب والفضة . ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود . ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة . ذلك أن التكديس ذاته شهوة . بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى !

ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . . الخيل المسومة . والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة . ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة . وحتى الذين لا يركبونها فروسية ، يعجبهم مشهدها ، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية !

وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث . وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع . . الأنعام والحقول المخصبة . . والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء . وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفتإليه شهوة الملك ، كان الحرث والأنعام شهوة .

وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس ، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان . والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه ، ولا تطغى على ما سواه :

( ذلك متاع الحياة الدنيا ) . .

ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة - وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات - متاع الحياة الدنيا . لا الحياة الرفيعة ، ولا الآفاق البعيدة . . متاع هذه الأرض القريب . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

{ زين للناس حب الشهوات } أي المشتهيات سماها شهوات مبالغة وإيماء على أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى : { أحببت حب الخير } والمزين هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي ، ولعله زينة ابتلاء ، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى ، أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع . وقيل الشيطان فإن الآية في معرض الذم . وفرق الجبائي بين المباح والمحرم . { من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } بيان للشهوات ، والقنطار المال الكثير . وقيل مائة ألف دينار . وقيل ملء مسك ثور . واختلف في أنه فعلال أو فنعال ، والمقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة . والمسومة المعلمة من السومة وهي العلامة ، أو المرعية من أسام الدابة وسومها ، أو المطهمة . والأنعام الإبل والبقر والغنم { ذلك متاع الحياة الدنيا } إشارة إلى ما ذكر . { والله عنده حسن المآب } أي المرجع ، وهو تحريض على استبدال ما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

قرأ جمهور الناس «زُين » على بناء الفعل للمفعول ورفع «حبُّ » على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وقرأ الضحاك ومجاهد «زَين » على بناء الفعل للفاعل ونصب «حبَّ » على أنه المفعول ، واختلف الناس من المزين ؟ فقالت فرقة : الله زين ذلك وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال لما نزلت هذه الآية : قلت الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [ آل عمران : 15 ] ، وقالت فرقة : المزين هو الشيطان ، وهذا ظاهر قول الحسن بن أبي الحسن ، فإنه قال من زينها ؟ ما أحد أشد لها ذماً من خالقها .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا قيل زين الله ، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء{[2989]} ، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها . والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر ، وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توضح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم ، و { الشهوات } ذميمة واتباعها مردٍ{[2990]} وطاعتها مهلكة ، وقد قال عليه السلام : «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره »{[2991]} فحسبك أن النار حفت بها ، فمن واقعها خلص إلى النار ، و { والقناطير } جمع قنطار ، وهو العقدة الكبيرة من المال ، واختلف الناس في تحرير حده كم هو ؟ فروى أبي بن كعب ، عن النبي عليه السلام أنه قال : القنطار ألف ومائتا أوقية{[2992]} ، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وعاصم بن أبي النجود وجماعة من العلماء ، وهو أصح الأقوال ، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية ، وقال ابن عباس والضحاك بن مزاحم والحسن بن أبي الحسن : القنطار ألف ومائتا مثقال{[2993]} ، وروى الحسن ذلك مرفوعاً عن النبي عليه السلام ، قال الضحاك وهو من { الفضة } ألف ومائتا مثقال ، وروي عن ابن عباس أنه قال : القنطار من { الفضة } اثنا عشر ألف درهم ، ومن { الذهب } ألف دينار ، وروي بذلك عن الحسن والضحاك وقال سعيد بن المسيب : القنطار ثمانون ألفاً ، وقال قتادة : القنطار مائة رطل من { الذهب } أو ثمانون ألف درهم من { الفضة } ، وقال السدي : القنطار ثمانيه آلاف مثقال وهي{[2994]} مائة رطل ، وقال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وقال أبو نضرة{[2995]} : القنطار ملء مسك ثور ذهباً .

قال ابن سيده : هكذا هو بالسريانية ، وقال الربيع بن أنس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ، وحكى النقاش عن ابن الكلبي ، أن القنطار بلغة الروم ملء مسك ثور ذهباً{[2996]} ، وقال النقاش : { القناطير } ثلاثة ، { والمقنطرة } تسعة لأنه جمع الجمع ، وهذا ضعف نظر وكلام غير صحيح ، وقد حكى مكي نحوه عن ابن كيسان أنه قال : لا تكون { المقنطرة } أقل من تسعة وحكى المهدوي عنه وعن الفراء ، لا تكون { المقنطرة } أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم .

قال أبو هريرة : القنطار اثنا عشر ألف أوقية ، وحكى مكي قولاً إن القنطار أربعون أوقية ذهباً أو فضة ، وقاله ابن سيده في المحكم ، وقال : القنطار بلغة بربر ألف مثقال ، وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام في تفسير قوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطاراً }{[2997]} قال ألف دينار{[2998]} ذكره الطبري ، وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهباً أوفضة وأظنها وهماً ، وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل ، والقنطار إنما هو اسم المعيار الذي يوزن به ، كما هو الرطل والربع ، ويقال لما بلغ ذلك الوزن هذا قنطار أي يعدل القنطار ، والعرب تقول : قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار ، وقال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وأحكامه والقنطرة المعقودة نحوه ، فكأن القنطار عقدة مال .

واختلف الناس في معنى قوله : { المقنطرة } فقال الطبري : معناه المضعفة ، وكأن { القناطير } ثلاثة و { المقنطرة } تسع ، وقد تقدم ذكر هذا النظر ، وقال الربيع : معناه المال الكثير بعضه فوق بعض ، وقال السدي : معنى { المقنطرة } ، المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم ، وقال مكي : { المقنطرة } المكملة{[2999]} ، والذي أقول : إنها إشارة إلى حضور المال وكونه عتيداً ، فذلك أشهى{[3000]} في أمره وذلك أنك تقول في رجل غني من الحيوان والأملاك : فلان صاحب قناطير مال أي لو قومت أملاكه لاجتمع من ذلك ما يعدل قناطير ، وتقول في صاحب المال الحاضر العتيد هو صاحب قناطير مقنطرة أي قد حصلت كذلك بالفعل بها ، أي قنطرت فهي مقنطرة ، وذلك أشهى للنفوس وأقرب للانتفاع وبلوغ الآمال . وقد قال مروان بن الحكم ، ما المال إلا ما حازته العياب{[3001]} ، وإذا كان هذا فسواء كان المال مسكوكاً ، أو غير مسكوك ، أما أن المسكوك أشهى لما ذكرناه ، ولكن لا تعطي ذلك لفظة { المقنطرة } .

{ والخيل } : جمع خائل عند أبي عبيدة ، سمي الفرس لأنه يختال في مشيه{[3002]} فهو كطائر وطير ، وقال غيره : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه{[3003]} ، واختلف المفسرون في معنى { المسومة } فقال سعيد بن جبير وابن عباس وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى{[3004]} والحسن والربيع ومجاهد ، معناه الراعية في المروج والمسارح تقول : سامت الدابة أو الشاة إذا سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر عن حال دون حال ، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «في سائمة الغنم الزكاة »{[3005]} ومنه قوله عز وجل : { فيه تسيمون }{[3006]} وروي عن مجاهد أنه قال : { المسومة } معناه المطهمة الحسان ، وقاله عكرمة ، سومها الحسن ، وروي عن ابن عباس أنه قال : { المسومة } معناه المعلمة ، شيات{[3007]} الخيل في وجوهها وقاله قتادة{[3008]} ، ويشهد لهذا القول بيت لبيد{[3009]} : [ الكامل ]

وَغَدَاةَ قاعِ الْقرْنَتينِ أتيْنَهُمْ . . . زُجْلاً يلوحُ خِلالها التَّسْوِيمُ{[3010]}

وأما قول النابغة{[3011]} : [ الوافر ] :

بسمرٍ كَالْقِداحِ مُسَوَّمَاتٍ . . . عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جنِّ{[3012]}

فيحتمل أن يريد المطهمة الحسان ، ويحتمل أن يريد المعلمة بالشيات ويحتمل أن يريد المعدة ، وقد فسر الناس قوله تعالى : { مسومة عند ربك }{[3013]} بمعنى معدة ، وقال ابن زيد في قوله تعالى : { والخيل المسومة } معناه : المعدة للجهاد .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : قوله : للجهاد ليس من تفسير اللفظة ، { والأنعام } الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز { والحرث } هنا اسم لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به ، تقول : حرث الرجل إذا أثار ألأرض لمعنى الفلاحة فيقع اسم الحرث على زرع الحبوب وعلى الجنات وغير ذلك من أنواع الفلاحة . وقوله تعالى : { إذ يحكمان في الحرث }{[3014]} قال جمهور المفسرين ، كان كرماً ، والمتاع ما يستمتع به وينتفع مدة ما منحصرة ، و { المآب } المرجع ، تقول : آب الرجل يؤوب ، ومنه قول الشاعر{[3015]} : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** رضيتُ من الْغَنِيمَةِ بالإيَابِ

وقول الآخر [ بشر بن أبي حازم ] : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا ما القَارِظُ العنَزِيّ آبا{[3016]}

وقول عبيد : [ مخلع البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَغَائِبُ الموتِ لا يؤوبُ{[3017]}

وأصل مآب مأوب ، نقلت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف ، مثل مقال ، فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها ، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة ، وفي قوله : { زين للناس } تحسر ما على نحو ما في قول النبي عليه السلام : تتزوج المرأة لأربع -الحديث{[3018]}- وقوله تعالى : { قل أؤنبئكم } [ آل عمران : 15 ] بمثابة قول النبي عليه السلام : «فاظفر بذات الدين » .


[2989]:- قال الزمخشري: الله سبحانه وتعالى هو المزين للابتلاء، كقوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}، وقراءة: (زيّن) على البناء للفاعل تؤيد هذا المعنى لأن نسق الكلام قبلها ينسب الأفعال إلى الله في قوله: {والله يؤيد..}.
[2990]:- مردٍ: مهلك.
[2991]:- أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي (عن أنس)، وأخرجه مسلم (عن أبي هريرة)، كما أخرجه الإمام أحمد في الزهد عن ابن مسعود موقوفا، (الجامع الصغير 1/507).
[2992]:- أخرجه ابن جرير (عن أبي بن كعب)، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي (عن معاذ بن جبل)، وأخرجه ابن جرير (عن ابن عمر)، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي (عن أبي هريرة)، وأخرجه ابن جرير البيهقي (عن ابن عباس)، (فتح القدير 1/294)، وذكره ابن كثير ثم قال: "وهذا حديث منكر أيضا".
[2993]:- انظر تفسير الطبري 3/ 200، والبغوي على هامش الخازن 1/374
[2994]:- في بعض النسخ: وهو.
[2995]:- هو المنذر بن مالك بن قطعة العبدي البصري، روى عن علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وأنس، وجابر، وغيرهم، وروى عنه سليمان التيمي، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، وقتادة، وآخرون، ثقة، كثير الحديث، توفي سنة: 108هـ (تهذيب التهذيب10/302).
[2996]:-أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن أبي سعيد الخدري. (فتح القدير للشوكاني.1/294) والمسك (بفتح الميم وسكون السين) هو: الجلد-وجمعه: مسوك ومسك.
[2997]:- من الآية 20 من سورة النساء.
[2998]:- أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس (فتح القدير: 1/294)، وفي ابن كثير: رواه ابن أبي حاتم عن أنس بلفظ "قنطار يعني ألف دينار" قال: وهكذا رواه الطبراني (تفسير ابن كثير1/352).
[2999]:- هو كما تقول: بدرة مبدّرة وألف مؤلفة، وهذا أيضا قول ابن قتيبة.
[3000]:- في بعض النسخ: أشهر.
[3001]:- العياب: جمع عيبة وهي وعاء تحفظ فيه الثياب والمتاع، وقد قال الشاعر: يمرون بالدهنا خفافا عيابهم ويرجعن من دارين بجر الحقائب.
[3002]:- في بعض النسخ: مشيته.
[3003]:- ذهب ابن كثير إلى أن حبّ الخيل يكون إما استعدادا للغزو، أو رغبة في الفخر والتباهي، أو للتعفف واقتناء النسل.
[3004]:- كوفي مولى خزاعة، روى عن أبيه، وروى عنه الأجلح الكندي وأسلم المنقري وسلمة بن كهيل ومنصور بن المعتمر وغيرهم، وثقه ابن حبان. (تهذيب التهذيب 5/290)
[3005]:-أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الزكاة، صدقة الماشية: 2/112.
[3006]:- من الآية (10) من سورة النحل.
[3007]:- شيات: جمع شية، وهي العلامة، سواد في بياض أو بياض في سواد، وكل ما خالف اللون في جميع الجسد في الدواب، وشية الفرس: لونه.
[3008]:- زيادة من بعض النسخ.
[3009]:- البيت في ديوانه: 133.
[3010]:- القاع: الأرض المستوية؛ قاع القرنتين: موضع كانت فيه وقعة بين كنانة وغطفان، والنون في (أتينهم) ضمير الخيل، وزجلا: جماعات، والتسويم: الإعلام بعلامة تعرف بها في الحرب.
[3011]:- البيت في ديوانه: 128 (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم).
[3012]:- سمر: صفة للخيل، ويروى: بضمر، أي خيل ضامرة، شبهها في ضمورها بقداح المسير، وشبه الفرسان بالجن لشدة صولتهم وخفتهم في الحرب على الخيل.
[3013]:- من الآية (34) من سورة الذاريات.
[3014]:- من الآية (78) من سورة الأنبياء.
[3015]:- هو امرؤ القيس، وهذا الذي أورده هو عجز البيت، وصدره. وقد طوفت في الآفاق حتى ........................... وقد جرى قوله: رضيت ...الخ" مجرى المثل، يضرب عند القناعة بالسلامة لمن سعى في شيء ولم يبلغه، أو لمن يشقى في طلب الحاجة ثم يرضى بالخلاص سالما.
[3016]:- هذا عجز بيت لبشر بن أبي حازم، وصدره: فرجي الخير وانتظري إيابي. والقارظ: الذي يجمع ورق السلم للدباغ، وفي أوبة القارظين يضرب المثل، وهما رجلان خرجا يجمعان القرظ ولم يعودا، (انظر فصل المقال: 374، والميداني:1/142، وجمهرة العسكري 1/123).
[3017]:- هذا عجز بيت لعدي بن الأبرص الشاعر الجاهلي، وصدره: وكل ذي غيبة يئوب.
[3018]:-أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، عن أبي هريرة (الجامع الصغير1/132 ط. دار الكتب العلمية، بيروت).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

استئناف نشأ عن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } [ آل عمران : 10 ] إذ كانت إضافة أموالٍ وأولاد إلى ضمير « هم » دالة على أنّها معلومة للمسلمين . قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة ؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات . وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها ؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس .

والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه ، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً .

وقال امرؤ القيس :

الحرب أول ما تكون فتيَّة *** تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول

فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن : التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى : { تريد زينة الحياةِ الدنيا } [ الكهف : 28 ] . وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة :

أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا *** جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا

وفي حديث « سنن أبي داود » : أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه : إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح . قال أبو برزة : « ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد » . فقال عبيد الله : « إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن » .

والشهوات جمع شهوة ، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي ، والشهوة بزنة المَرّة ، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة . وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف . وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبُّها ، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها ؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحبّ بمزيَّن ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها ، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق .

والوجه عندي إمّا أن يجعل { حبّ الشهوات } مصدراً نائباً عن مفعول مطلق ، مبيّناً لنوع التزيين : أي زيّن لهم تزيين حب ، وهو أشدّ التزيين ، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل ، وأصل الكلام : زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً ، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائباً عن الفاعل ، كما جعل مفعولاً في قوله تعالى : { فقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي } [ ص : 32 ] . وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول ، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة . وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبّر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضارّ ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات ، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال .

وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جُهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عُني بكذا ، واضْطُرّ إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عمّا في المزيَّن من المساوي ؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصوداً بحال ، والمزيِّنُ في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهواتتِ ، وذلك أمر جبلِيٌّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى : { وذلّلناها لهم فمنها رَكوبهم ومنها يأكلون } [ يس : 72 ] .

ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة ، كان فاعلُه على الحقيقة هو خالقَ هذه الجبلاّت ، فالمزيِّن هو الله بخَلْقه لا بِدَعوته ، وروى مثل هذا عن عُمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة . كان المزّيِّن هو مَيْلَ النفس إلى المشتهى ، أو ترغيبَ الداعين إلى تناول الشهوات : من الخِلاّن والقُرناء ، وعن الحسن : المزيِّن هو الشيطان ، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ، وقصَرَه على هذا وهو بعيد لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلاّ إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث : « قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوَته ولَهُ فيها أجْر فقال : أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر ، فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجر » وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام ، والمعرَّضة للزوال ، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية ، وتنال النعيم الأبدي العظيم ؛ كما أشار إليه قوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب } .

وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما ، بيان بأصول الشهوات البشرية : التي تجمع مشتهيَات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل ؛ إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة ، وفي الحديث : « ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء » ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع ، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسان .

ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع : إذ جعل الله في الوالدين ، من الرجال والنساء ، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما ، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل ، وببقائه بقاء النوع ، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه ، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع ؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف ، بعد القوة ، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه ، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه ، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه .

والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء ، والنقدان منهما : الدنانيرُ والدراهم ، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها .

{ والقناطير } جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل ، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية ، كما نقله النقّاش عن الكلبي ، وهو الصحيح ؛ فإن أصله في اللاّتينية « كِينْتال » وهو مائة رطل . وقال ابن سيده : هو معرّب عن السريانية . فما في « الكشاف » في سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قنطَرت الشيءَ إذا رفعتَه ، تكلّف . وقد كان القنطار عند العرب ، وزنا ومقداراً ، من الثروة ، يبلغه بعض المثرين : وهو أن يبلغ مالُه مائةَ رطل فضة ، ويقولون : قنطَر الرجلُ إذا بلغ ماله قنطاراً وهو اثنا عشر ألف دينارٍ أي ما يساوي قنطاراً من الفضة ، وقد يقال : هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب .

و{ المقنطرة } أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة ، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوفِ ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفةِ ، يؤذن ذلك الاشتقاقُ بمبالغة في الحاصل به كقولهم : لَيْلٌ ألْيَلُ ، وظِلٌ ظَلِيلٌ ، وداهِيَةٌ دَهْيَاء ، وشِعْرٌ شَاعِر ، وإبِل مُؤَبَّلَة ، وآلاف مُؤَلَّفَة .

{ والخيل } محبوبة مرغوبة ، في العصور الماضية وفيما بعدها ، لم يُنسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّاً وبحراً وجوّاً ، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية ، ومن سَفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار ، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفظ المصفَّى ، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى ، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل ، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس ، والعناية بالمسابقة بين الأفراس .

وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البَذخ على محبّة ركوبها ، قال امرؤ القيس

* كأنِّيَ لَمْ أركَبْ جَوادَا لِلَذّةٍ *

و { المسوّمة } الأظهر فيه ما قيل : إنّه الراعية ، فو مشتق من السَّوْم وهو الرعْي ، يقال : أسام الماشية إذا رعَى بها في المرعى ، فتكون مادة فعَّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مدداً طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم ، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل " فأطال لَها في مَرْج أو روضة " .

وقيل : المسوّمة من السُّومَة بضم السين وهي السِّمة أي العلامة من صوف أو نحوه ، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويهاً بكرمها وحسن بلائها في الحرب ، قال العَتَّابي :

ولَوْلاَهُنّ قد سَوّمْتُ مُهري *** وفي الرحمان للضعفاء كاف

يريد جعلت له سُومة أفراسِ الجهاد أي علامتَها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في سورة [ البقرة : 273 ] .

و { الأنعام } زينة لأهل الوبر قال تعالى : { ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] . وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى : { والأنعامَ خلقها لكم فيها دفء } الآيات في سورة [ النحل : 5 ] ، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها ، ويُعنَون بالارتياح إليها إجمالاً .

{ والحرث } أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس ، وأطلق هذا المصدر على المَحروث فصار يطلق على الجَنّات والحوائطِ وحقول الزرع ، وتقدم عند قوله تعالى : { نساؤكم حَرث لكم } في سورة [ البقرة : 223 ] وعند قوله : { ولا تَسقي الحرث } [ البقرة : 71 ] فيها .

والإشارة بقوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا } إلى جميع ما تقدم ذكره ، وأُفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لغير معيَّن ، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البُعد ، والبُعد هنا بُعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة .

والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة .

ومعنى { والله عنده حسن مئاب } أنّ ثواب الله خير من ذلك . والمآب : المرجع ، وهو هنا مصدرٌ ، مَفْعَل من آب يَؤوب ، وأصله مَأوَب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، وقلبت الواو ألفاً ، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة .