معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فاطر مكية وآياتها خمس وأربعون

قوله : { الحمد لله فاطر السموات والأرض } خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق ، { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة } ذوي أجنحة { مثنى وثلاث ورباع } قال قتادة ومقاتل : بعضهم له جناحان ، وبعضهم له ثلاثة أجنحة ، وبعضهم له أربعة أجنحة ، ويزيد فيها ما يشاء وهو قوله ، { يزيد في الخلق ما يشاء } . وقال ابن مسعود في قوله عز وجل : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قال : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح . وقال ابن شهاب في قوله : { يزيد في الخلق ما يشاء } قال : حسن الصوت . وعن قتادة قال : هو الملاحة في العينين . وقيل : هو العقل والتمييز . { إن الله على كل شيء قدير }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة فاطر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة فاطر هي السورة الخامسة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الفرقان –كما ذكر صاحب الإتقان( {[1]} ) .

وهي من السور المكية الخالصة ، وتسمى أيضا –بسورة " الملائكة " .

قال القرطبي : هي مكية في قول الجميع ، وهي خمس وأربعون آية( {[2]} ) .

2- سورة فاطر هي آخر السور التي افتتحت بقوله –تعالى- : [ الحمد لله ] وقد سبقها في هذا الافتتاح سور : الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ .

قال –سبحانه- في افتتاح سورة فاطر : [ الحمد لله فاطر السموات والأرض ، جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ] .

3- ثم تحدث –سبحانه- بعد ذلك عن مظاهر نعمه على عباده ورحمته بهم ، فقال : [ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم . . . ] .

4- ثم توجه السورة الكريمة نداءين إلى الناس ، تأمرهم في أولهما بشكر الله –تعالى- على نعمه ، وتنهاهم في ثانيهما عن الاغترار بزينة الحياة الدنيا وعن اتباع خطوات الشيطان . .

قال –سبحانه- : [ يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم ، هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض . . ] . وقال –جل شأنه- : [ يأيها الناس إن وعد الله حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور ] .

5- وبعد أن تسلي السورة الكريمة الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه ، تأخذ في بيان مظاهر قدرة الله –تعالى- في خلقه ، فتذكر قدرته –سبحانه- في إرسال الرياح والسحب ، وفي خلقه للإنسان من تراب ، وفي إيجاده للبحرين : أحدهما عذب فرات سائغ شرابه ، والثاني : ملح أجاج ، وفي إدخاله الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وفي تسخيره الشمس والقمر . .

قال –تعالى- : [ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ، ومن كل تأكلون لحما طريا ، وتستخرجون حلية تلبسونها ، وترى الفلك فيه مواخر ، لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، ذلكم الله ربكم له الملك ، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ] .

6- ثم وجه –سبحانه- نداء ثالثا إلى الناس ، بين لهم فيه : افتقارهم إليه –تعالى- وحاجتهم إلى عونه وعطائه ، وتحمل كل إنسان لمسئولياته ولنتائج أعماله . .

كما بين لهم –سبحانه- أن الفرق بين الهدى والضلال ، كالفرق بين الإبصار والعمى ، وبين النور والظلمات ، وبين الحياة والموت ، وبين الظل والحرور .

قال –تعالى- : [ وما يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات ، إن الله يسمع من يشاء ، وما أنت بمسمع من في القبور ] .

7- ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- ورحمته بعباده ، وعن الثواب العظيم الذي أعده –سبحانه- لمن يتلون كتابه ولمن يحافظون على فرائضه – وعن عقابه الأليم للكافرين الجاحدين لنعمه . .

قال –تعالى- : [ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها ، وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ، إنما يخشى الله من عباده العلماء ، إن الله عزيز غفور . إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، يرجون تجارة لن تبور ] .

ثم قال –سبحانه- : [ والذين كفروا لهم نار جهنم ، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ] .

8- ثم انتقلت السورة الكريمة في أواخرها إلى الحديث عن جهالات المشركين ، حيث عبدوا من دون الله –تعالى- مالا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، وعن مكرهم السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله ، وعن نقضهم لعهودهم حيث [ أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا . . . ] .

ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ببيان سعة رحمته بالناس فقال : [ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ، ما ترك على ظهرها من دابة ، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ، فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ] .

9- وهكذا نرى سورة فاطر قد طوفت بالنفس الإنسانية في أرجاء هذا الكون ، وأقامت الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته . عن طريق نعم الله –تعالى- المبثوثة في الأرض وفي السماء ، وفي الليل وفي النهار ، وفي الشمس وفي القمر : وفي الرياح وفي السحب ، وفي البر وفي البحر . . وفي غير ذلك من النعم التي سخرها –سبحانه- لعباده .

كما نراها قد حددت وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وساقت له ما يسليه ويزيده ثباتا على ثباته ، وما يرشد كل عاقل إلى حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .

افتتحت سورة " فاطر " كما سبق أن ذركنا عند تفسيرنا لسورة " سبأ " بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل ، هو الله رب العالمين .

و " أل " فى الحمد للاستغراق . بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ، ولكافة ألوان الثناء هو الله - تعالى - .

وقوله : { فَاطِرِ السماوات والأرض } أى خالقهما وموجدهما على غير مثال يحتذى ، إذ لامراد بالفطر هنا : والاختراع للشئ الذى لم يوجد ما يشبهه من قبل .

قال القرطبى : والفاطر : الخالق ، والفَطْر - بفتح الفاء - : الشق عن الشئ . يقال فطرته فانفطر . ومنه : فطر ناب البعير ، أى : وتفطر الشئ ، أى : تشقق . .

والفطر : الابتداء والاختراع . قال ابن عباس : كنت لا أدرى ما { فَاطِرِ السماوات والأرض } حتى أتى أعرابيان يختصمان فى بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتهما ، أى : أنا ابتدأتها . .

والمراد بذكر السماوات والأرض : العالم كله . ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء ، قادر على الإِعادة .

والمعنى : الحمد المطلق والثناء التام الكامل لله - تعالى - وحده ، فهو - سبحانه الخالق للسموات والأرض ، ولهذا الكون بأسره ، دون أن يسبقه إلى ذلك سابق ، أو يشاركه فيما خلق وأوجد مشارك .

وقوله - تعالى - : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - تعالى - التى لا يعجزها شئ .

والملائكة : جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملاك . وهم جند من خلق الله - تعالى - وقد وصفهم - سبحانه - بصفات متعددة ، منها : أنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } قال الجمل : وقوله : جاعل الملائكة ، أى : بعضهم . إذ ليس كلهم رسلا كما هو معلوم . وقوله : { أولي أَجْنِحَةٍ } نعت لقوله { رُسُلاً } ، وهو جيد لفظا لتوافقهما تنكيرا . أو هو نعت للملائكة ، وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة ، فهى صفة كاشفة . .

وقوله : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أسماء معدول بها عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وهى ممنوعة من الصرف ، للوصفية والعدل عن المكرر وهى صفة لأجنحة .

أى : الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض بقدرته ، والذى جعل الملائكة رسلا إلى أنبيائه . وإلى من يشاء من عباده ، ليبلغوهم ما يأمرهم - سبحانه - بتبليغه إليهم . .

وهؤلاء الملائكة المكرمون ، ذوو أجنحة عديدة ، ذوو أجنحة عديدة . منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له أكثر من ذلك ، لأن المراد بهذا الوصف ، بيان كثرة الأجنحة لا حصرها .

قال الآلوسى ما ملخصه قوله : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً . . . } معناه : جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالته بالوحى والإِلهام والرؤيا الصادقة ، أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه ، كالأمطار والرياح وغيرهما .

وقوله : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معناه : أن من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا دلالة فى الآية على نفى الزائد ، وما ذكر من عد للدلالة على التكثير والتفاوت ، لا للتعيين ولا لنفى النصان عن اثنين . .

فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود فى قوله - تعالى - { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } أن الرسول صلى الله عليه سولم رأى جبريل وله ستمائة جناح . .

وقوله - تعالى - : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، من كمال قدرته ، ونفاذ إرادته .

أى يزيد - سبحانه - فى خلق كل ما يزيد خلقه ما يشاء أن يزيده من الأمور التى لا يحيط بها الوصف ، ومن ذلك أجنحة الملائكة فيزيد فيها ما يشاء ، وكذلك ينقص فى الخلق ما يشاء ، والكل جاء على مقتضى الحكمة والتدبير .

قال صاحب الكشاف : قوله { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ } أى : يزيد فى خلق الأجنحة ، وفى غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته .

والآية مطلقة تتناول كل زيادة فى الخلق : من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام الأعضاء ، وقوة فى البطش ، وحصافة فى العقل ، وجزالة فى الرأى ، وجرأة فى القلب ، وسماحة فى النفس ، وذلاقة فى اللسان ، ولباقة فى التكلم ، وحسن تأن فى مزاولة الأمور ، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف . .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقولهك { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى : إن الله - تعالى - لا يعجزه شيئ يريده ، لأنه قدير على فعل كل شئ ، فالجملة الكريمة تعليل لما قبلها من كونه - سبحانه - يزيد فى الخلق ما يشاء ، وينقص منه ما يشاء .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيَ أَجْنِحَةٍ مّثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل للمعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، ولا ينبغي أن تكون لغيره خالق السموات السبع والأرض ، جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً إلى من يشاء من عباده ، وفيما شاء من أمره ونهيه أُولي أجْنِحَةٍ مّثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ يقول : أصحاب أجنحة : يعني ملائكة ، فمنهم من له اثنان من الأجنحة ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أُولي أجْنِحَةٍ مّثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ قال بعضهم : له جناحان ، وبعضهم : ثلاثة ، وبعضهم أربعة .

واختلف أهل العربية في علة ترك إجراء مَثْنَى وثلاث ورباع ، وهي ترجمة عن أجنحة ، وأجنحة نكرة ، فقال بعض نحوييّ البصرة . تُرك إجراؤهنّ لأنهنّ مصروفات عن وجوههنّ ، وذلك أن مثنى مصروف عن اثنين ، وثلاث عن ثلاثة ، ورُباع عن أربعة ، فصرف نظيرُ عمَرَ ، وزُفَرَ ، إذ صُرِف هذا عن عامر إلى عمر ، وهذا عن زافر إلى زُفر ، وأنشد بعضهم في ذلك :

وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمُ ثُناءَ وَمَوْحَدَا *** وترَكْتُ مَرّةَ مِثْلَ أمْسِ المُدْبِرِ

وقال آخر منهم : لم يصرف ذلك لأنه يوهم به الثلاثة والأربعة ، قال : وهذا لا يستعمل إلا في حال العدد . وقال بعض نحوييّ الكوفة : هنّ مصروفات عن المعارف ، لأن الألف واللام لا تدخلها ، والإضافة لا تدخلها قال : ولو دخلتها الإضافة والألف واللام لكانت نكرة ، وهي ترجمة عن النكرة قال : وكذلك ما كان في القرآن ، مثل : أنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ، وكذلك وُحاد وأحاد ، وما أشبهه من مصروف العدد .

وقوله : يَزِيدُ فِي الخَلْقِ ما يَشاءُ وذلك زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا الملك من الأجنحة على الاَخر ما يشاء ، ونقصانه عن الاَخر ما أحبّ ، وكذلك ذلك في جميع خلقه يزيد ما يشاء في خلق ما شاء منه ، وينقص ما شاء من خلق ما شاء ، له الخلق والأمر ، وله القدرة والسلطان إنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : إن الله تعالى ذكره قدير على زيادة ما شاء من ذلك فيما شاء ، ونقصان ما شاء منه ممن شاء ، وغير ذلك من الأشياء كلها ، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده سبحانه وتعالى .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فاطر مكية وآيها خمس وأربعون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم { الحمد لله فاطر السماوات والأرض } مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه ، والإضافة محضة لأنه بمعنى الماضي . { جاعل الملائكة رسلا } وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة ، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه . { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } ذوي أجنحة متعددة متفاوة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ، أو يسرعون بها نحو ما وكلهم الله عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به ، ولعله لم يرد به خصوصية الإعداد ونفي ما زال عليها ، لما وري أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح { يزيد في الخلق ما يشاء } استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم ، لأن اختلاف الأصناف ، والأنواع بالخواص والفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال ، والآية متناولة زيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وحصافة العقل وسماحة النفس . { إن الله على كل شيء قدير } وتخصيص بعض ، الأشياء بالتحصيل دون بعض ، إنما هو من جهة الإرادة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين

سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

( 35 ) سورة فاطر مكية

وآياتها خمس وأربعون

هذه السورة مكية{[1]}

بسم الله الرحمن الرحيم

الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس على أتم عموم ، لأن { الحمد } بالإطلاق على الأفعال الشريفة والكمال هو لله تعالى والشكر مستغرق فيه لأنه فصل من فصوله ، و { فاطر } معناه خالق لكن يزيد في المعنى الانفراد بالابتداء لخلقها ، ومنه قول الأعرابي المتخاصم في البئر عند ابن عباس : أنا فرطتها ، أراد بدأت حفرها . قتال ابن عباس ما كنت أفهم معنى { فاطر } حتى سمعت قول الأعرابي{[9686]} ، وقرأ الجمهور «الحمد لله فطر » ، وقرأ جمهور الناس «جاعلِ » بالخفض ، وقرأت فرقة «جاعلُ » بالرفع على قطع الصفة ، وقرأ خليد بن نشيط «جعل » على صيغة الماضي «الملائكة » نصباً ، فأما على هذه القراءة الأخيرة فنصب قوله { رسلاً } على المفعول الثاني ، وأما على القراءتين المتقدمتين فقيل أراد ب «جاعل » الاستقبال لأن القضاء في الأزل وحذف التنوين تخفيفاً وعمل عمل المستقبل في { رسلاً } ، وقالت فرقة { جاعل } بمعنى المضي و { رسلاً } نصب بإضمار فعل ، و { رسلاً } معناه بالوحي وغير ذلك من أوامره ، فجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل رسل ، والملائكة المتعاقبون رسل ، والمسددون لحكام العدل رسل وغير ذلك ، وقرأ الحسن «رسْلاً » بسكون السين ، و { أولي } جمع واحده ذو ، تقول ذو نهية والقوم أولو نهي ، وروي عن الحسن أنه قال في تفسير قول مريم { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً }{[9687]} [ مريم : 18 ] قال علمت مريم أن التقي ذو نهية .

وقوله { مثنى وثلاث ورباع } ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل للعدل والصفة ، وفائدة العدل الدلالة على التكرار لأن { مثنى } بمنزلة قولك اثنين اثنين ، وقال قتادة : إن أنواع الملائكة هي هكذا منها ما له جناحان ، ومنها ما له ثلاثة ، ومنها ما له أربعة ، ويشذ منها ما له أكثر من ذلك ، وروي أن لجبريل ستمائة جناح منهِا اثنان تبلغ من المشرق إلى المغرب ، وقالت فرقة المعنى أن في كل جانب من الملك جناحين ، ولبعضهم ثلاثة في كل جانب ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لكل واحد لما اعتدلت في معتاد ما رأيناه نحن من الأجنحة ، وقيل بل هي ثلاثة لكل واحد كالحوت والله أعلم بذلك ، وقوله تعالى : { يزيد في الخلق ما يشاء } تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عن الخبر بالملائكة أولي الأجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا المزيد هو حسن لصوت قال الهيثم الفارسي : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيراً ، وقيل الزيادة الخط الحسن ، وقال النبي عليه السلام :

«الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً »{[9688]} ، وقال قتادة الزيادة ملاحة العينين .

قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا وهذه الإشارة إنما ذكرها من ذكرها على جهة المثال لا أن المقصود هي فقط ، وإنما مثل بأشياء هي زيادات خارجة عن الغالب الموجود كثيراً وباقي الآية بين .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[9686]:جاء أعرابيان غلى ابن عباس رضي الله عنهما يختصمان في بئر، فقال أحدهما:"أنا فطرتها" أي: أنا ابتدأت حفرها، والفَطر في اللغة: الشق عن الشيء، يقال: فطرته فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير، أي طلع، وسيف فطار، أي: فيه تشقق، قال عنترة: وسيفي كالعقيقة فهو كِمعي سلاحي لا أفل ولا فطارا أي: هو كشعاع الشمس، وهو ضجيعي، ليس فيه شقوق ولا ثلوم.
[9687]:من قوله تعالى في الآية(18) من سورة (مريم):{قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا}.
[9688]:أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، عن أم سلمة رضي الله عنها، ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بأنه ضعيف. وفي القرطبي:"وقال مهاجر الكلاعي: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الخط الحسن...الحديث).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

سميت { سورة فاطر } في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير . وسميت في صحيح البخاري وفي سنن الترمذي وفي كثير من المصاحف والتفاسير { سورة الملائكة } لا غير . وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب الإتقان .

فوجه تسميتها { سورة فاطر } أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى . ووجه تسميته { سورة الملائكة } أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى .

وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين : آية { أن الذين يتلون كتاب الله } الآية ، وآية { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } الآية ، ولم أر هذا لغيره .

وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سورة القرآن . نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم .

وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستا وأربعين ، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين .

أغراض هذه السورة

اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية .

وعلى إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله . وإثبات البعث والدار الآخرة .

وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم .

وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه .

وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم .

وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم .

والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين .

وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا .

وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم ، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده .

والتحذير من غرور الشيطان والتذكير بعداوته لنوع الإنسان .

افتتاحها ب { الحمد لله } مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها ، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة مِن خلقِهِ السماوات والأرض وأفضللِ ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإِثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذان { الحمد لله } باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة .

والفاطر : فاعل الفَطْر ، وهو الخلق ، وفيه معنى التكون سريعاً لأنه مشتق من الفطر وهو الشق ، ومنه { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } [ الشورى : 5 ] { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] . وعن ابن عباس « كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض ( أي لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتُها . وأحسب أن وصف الله ب { فاطر السماوات والأرض } مما سبق به القرآن ، وقد تقدم عند قوله تعالى { فاطر السماوات والأرض } في سورة الأنعام ( 14 ) ، وقوله : { وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض } في آخر سورة يوسف ( 101 ) فضُمَّه إلى ما هنا .

وأما { جاعل } فيطلق بمعنى مكوِّن ، وبمعنى مُصَيِّر ، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله : { رسلاً } بين أن يكون مفعولاً ثانياً ل { جاعل } أي جعل الله من الملائكة ، أي ليكونوا رسلاً منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية ، وبين أن يكون حالاً من { الملائكة } ، أي يجعل من أحوالهم أن يُرسَلوا . ولصلاحية المعنيين أُوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول { فاطر } .

وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم .

وأجري عليهم صفة أنهم رُسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة ، أي جاعلهم رسلاً منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس .

وقوله { أولي أجنحة } يجوز أن يكون حالاً من { الملائكة } ، فتكون الأجنحة ذاتيةً لهم من مقومات خلقتهم ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { رسلاً } فيكون خاصة بحالة مَرسوليتهم .

و { أجنحة } جمع جَناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإِنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعوداً ونزولاً لا يعلم كنهها إلا الله تعالى .

و { مثنى } وأخواتُه كلمات دالّة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مَثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثُلاث ورُباع . والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة ، وقيل : يجوز إلى العشرة . والمعنى : اثنين اثنين الخ . وتقدم قوله : { أن تقوموا لله مثنى وفرادى } في سورة سبأ ( 46 ) .

والكلام على { أولي } تقدم .

والمعنى : أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف ، وبعضها ثلاثةً ثلاثة ، وبعضها أربعةً أربعةً ، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح » .

ويجوز أن تكون أعداد الأجنحة متغيرة لكل ملك في أوقات متغيرة على حسب المسافات التي يؤمرون باختراقها من السماوات والأرضين . والأظهر أن الأجنحة للملائكة من أحوال التشكل الذي يتشكلون به . وفي رواية الزهري أن جبريل قال للنبيء صلى الله عليه وسلم « لو رأيت إسرافيل إنّ له لاَثنَيْ عشرَ ألفَ جناح وإن العرش لعلى كاهله » .

واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب « المقاصد » « إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة ، شأنهم الخير والطاعة ، والعلم ، والقدرة على الأعمال الشاقة ، ومسكنُهم السماوات ، وقال : هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة » . اهـ . ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات .

وعندي : أن تعريف صاحب « المقاصد » لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليطٍ في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات .

والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال : أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة ، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة ، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم ، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض .

وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورانيتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم . دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [ الأنفال : 12 ] ، وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية الكلبي ، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة في صورة « رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفَر ، ولا يَعرفه منا أحد ( أي من أهل المدينة ) حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه » الحديث ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقهم الرجل " هل تدرون من السائل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " كما في « الصحيحين » عن عمر بن الخطاب .

وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي ، وظهورهُ للنبيء صلى الله عليه وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها في غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر ، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ناساً لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم .

وجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما ذكر من صفات الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة ، فأجيب بهذا الاستئناف بأن مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا تُوقَّت .

ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه . فالمراد بالخلق : المخلوقات كُلّها ، أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خَلققٍ آخر . فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض ، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام . ويجوز أن تكون جملة { يزيد في الخلق ما يشاء } صفة ثانية للملائكة ، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل : مثنى وثلاث ورباع وأكثر ، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى { يزيد في الخلق ما يشاء } . وعليه فالمراد بالخلق ما خُلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على من لبعض آخر .

وجملة { إن الله على كل شيء قدير } تعليل لجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } ، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } [ إبراهيم : 10 ] ، فأجيبوا بقول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على ما يشاء من عباده } [ إبراهيم : 11 ] .