الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع ، وهي خمس وأربعون آية .

قوله تعالى : " الحمد لله فاطر السماوات والأرض " يجوز في " فاطر " ثلاثة أوجه : الخفض على النعت ، والرفع على إضمار مبتدأ ، والنصب على المدح . وحكى سيبويه : الحمد لله أهل الحمد مثله{[13088]} وكذا " جاعل الملائكة " . والفاطر : الخالق . وقد مضى في " يوسف " {[13089]} وغيرها . والفطر . الشق عن الشيء . يقال : فطرته فانفطر . ومنه : فطر ناب البعير طلع ، فهو بعير فاطر . وتفطر الشيء تشقق . وسيف فطار ، أي فيه تشقق . قال عنترة :

وسيفي كالعقيقة فهو كِمْعِي *** سلاحي لا أفَلَّ ولا فُطَارا{[13090]}

والفطر : الابتداء والاختراع . قال ابن عباس : كنت لا أدري ما " فاطر السموات والأرض " حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتها . والفطر . حلب الناقة بالسبابة والإبهام . والمراد بذكر السموات والأرض العالم كله ، ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على الإعادة . " جاعل الملائكة " لا يجوز فيه التنوين ، لأنه لما مضى . " رسلا " مفعول ثان ، ويقال على إضمار فعل ؛ لأن " فاعلا " إذا كان لما مضى لم يعمل فيه شيئا ، وإعمال على أنه مستقبل حذف التوين منه تخفيفا . وقرأ الضحاك " الحمد لله فطر السموات والأرض " على الفصل الماضي . " جاعل الملائكة رسلا " الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، صلى الله عليهم أجمعين . وقرأ الحسن : " جاعل الملائكة " بالرفع . وقرأ خليد بن نشيط " جعل الملائكة " وكله ظاهر . " أولي أجنحة " نعت ، أي أصحاب أجنحة . " مثنى وثلاث ورباع " {[13091]} أي اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . قال قتادة : بعضهم له جناحان ، وبعضهم ثلاثة ، وبعضهم أربعة ، ينزلون بهما من السماء إلى الأرض ، ويعرجون من الأرض إلى السماء ، وهي مسيرة كذا في وقت واحد ، أي جعلهم رسلا . قال يحيى بن سلام : إلى الأنبياء . وقال السدي : إلى العباد برحمة أو نقمة . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح . وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له : ( يا محمد ، لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، وإن العرش لعلى كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع ، والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته ) . و " أولو " اسم جمع لذو ، كما أن هؤلاء اسم جمع لذا ، ونظيرهما في المتمكنة : المخاض{[13092]} والخلفة . وقد مضى الكلام في " مثنى وثلاث ورباع " في " النساء " {[13093]} وأنه غير منصرف .

قوله تعالى : " يزيد في الخلق ما يشاء " أي في خلق الملائكة ، في قول أكثر المفسرين . ذكره المهدوي . وقال الحسن : " يزيد في الخلق " أي في أجنحة الملائكة ما يشاء . وقال الزهري وابن جريج : يعني حسن الصوت . وقد مضى القول فيه في مقدمة الكتاب{[13094]} . وقال الهيثم الفارسي : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي ، فقال : ( أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا ) . وقال قتادة : " يزيد في الخلق ما يشاء " الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم . وقيل : الخط الحسن . وقال مهاجر الكلاعي قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الخط الحسن يزيد الكلام وضوحا ) . وقيل : الوجه الحسن . وقيل في الخبر في هذه الآية : هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن . ذكره القشيري . النقاش : هو الشعر الجعد{[13095]} . وقيل : العقل والتمييز . وقيل : العلوم والصنائع . " إن الله على كل شيء قدير " من النقصان والزيادة . الزمخشري : والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق ، من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء ، وقوة في البطش ، وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ، وجرأة في القلب ، وسماحة في النفس ، وذلاقة في اللسان ، ولباقة في التكلم ، وحسن تأت{[13096]} في مزاولة الأمور ، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به وصف .


[13088]:زيادة عن كتاب النحاس يقتضيها السياق.
[13089]:راجع ج 9 ص 279، ج 6 ص 397.
[13090]:عقيقة البرق: شعاعه. والكمع (بكسر فسكون) والكميع: الضجيع.
[13091]:في كتاب البحر:" وقيل أولى جنحة" معترض، و "مثنى" حال، والعامل فعل محذوف يدل عليه "رسلا"، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع".
[13092]:المخاض: الحوامل من النوق، واحدتها خلفة على غير قياس ولا واحد لها من لفظها، كما قالوا لواحدة النساء: امرأة، ولواحدة الإبل: ناقة أو بعير.
[13093]:راجع ج 5 ص 15 فما بعد.
[13094]:راجع (باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى).
[13095]:ما فيه التواء وتقبض. أو القصير منه.
[13096]:تأتى فلان لحاجته: إذا ترفق لها وأتاها من وجهها.