الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

قوله : { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ } : إنْ جَعَلْتَ إضافتَه مَحْضَةً كان نعتاً لله ، وإنْ جَعَلْتَها غيرَ محضةٍ كان بدلاً . وهو قليلٌ من حيث إنه مشتقٌّ . وهذه قراءةُ العامَّةِ : " فاطر " اسمَ فاعلٍ . والزهريُّ والضحَّاك " فَطَر " فعلاً ماضياً . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ أي : الذي فَطَر ، كذا قَدَّره أبو الفضل . ولا يَليق بمذهب البصريين ؛ لأنَّ حَذْفَ الموصولِ الاسميِّ لا يجوزُ . وقد تقدَّمَ هذا الخلافُ مُسْتَوْفَى في البقرة . الثاني : أنه حال على إضمار " قد " قاله أبو الفضل أيضاً . الثالث : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو فَطَر . وقد حكى الزمخشري قراءةً تؤيِّد ما ذَهَبَ إليه الرازيُّ فقال : " وقُرِئَ الذي فَطَر وجعل " فصَرَّح بالموصولِ .

قوله : " جاعل " العامَّةُ أيضاً على جَرِّه نعتاً أو بدلاً . والحسن بالرفعِ والإِضافةِ ، وروي عن أبي عمروٍ كذلك ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّنْ ، ونَصَبَ " الملائكة " ، وذلك على حَذْفِ التنوينِ لالتقاء الساكنين ، كقولِه :

3758 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً

وابن يعمر وخليد بن مشيط " جَعَلَ " فعلاً ماضياً بعد قراءة " فاطر " بالجر ، وهذه كقراءةِ { فَالِقُ الإِصْبَاحِ ، وَجَعَلَ الْلَّيْلَ } [ الأنعام : 96 ] . والحسن وحميد " رُسْلاً " بسكونِ السين ، وهي لغةُ تميم . وجاعل يجوز أَنْ يكونَ بمعنى مُصَيِّر أو بمعنى خالق . فعلى الأول يجري الخلاف : هل نَصْبُ الثاني باسم الفاعل ، أو بإضمار فعلٍ ، هذا إن اعْتُقِد أنَّ جاعلاً غيرُ ماضٍ ، أمَّا إذا كان ماضياً تَعَيَّن أن يَنتصبَ بإضمار فعلٍ . وقد حُقِّق ذلك في الأنعام . وعلى الثاني ينتصِبُ على الحالِ . و { مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } صفةٌ ل " أجنحة " . و " أُوْلي " صفة ل " رُسُلاً " . وقد تقدَّم تحقيقُ الكلامِ في " مَثْنى " وأختيها في سورة النساء مستوفى . قال الشيخ : " وقيل : " أُوْلي أجنحة " معترضٌ و " مَثْنَى " حالٌ ، والعاملُ فعلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه " رسلاً " أي : يُرْسَلون مَثْنى وثلاثَ ورباع " وهذا لا يُسَمَّى اعتراضاً لوجهين ، أحدهما : أنَّ " أُولي " صفةٌ ل " رُسُلاً " ، والصفةُ لا يُقال فيها معترضةٌ . والثاني : أنها لَيسَتْ حالاً من " رُسُلاً " بل من محذوفٍ فكيف يكون ما قبلَه معترضاً ؟ ولو جعله حالاً من الضمير في " رسلاً " لأنه مشتقٌّ لَسَهُلَ ذلك بعضَ شيءٍ ، ويكون الاعتراضُ بالصفةِ مَجازاً ، مِنْ حيث إنه فاضلٌ في السورة .

قوله : " يزيدُ " مستأنَفٌ . وما " يَشاء " هو المفعولُ الثاني للزيادة ، والأولُ لم يُقْصَدْ ، فهو محذوفٌ اقتصاراً ، لأنَّ ذِكْرَ قولِه : " في الخَلْق " يُغْني عنه .