تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فاطر سورة مكية نزلت بعد سورة الفرقان وقد نزلت سورة فاطر فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء .

وإذا قسمنا حياة المسلمين بمكة إلى ثلاثة فترات : الفترة المبكرة للدعوة والفترة المتوسطة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء والفترة الأخيرة فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة رأينا أن سورة فاطر نزلت في الفترة المتوسطة من حياة المسلمين بمكة .

ولسورة فاطر اسمان : الاسم الأول سورة فاطر والاسم الثاني سورة الملائكة لقوله تعالى في أول السورة : { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث وربع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شي ء قدير } ( فاطر : 1 )

موضوعات السورة

قال الفيروزبادي :

مقصود سورة فاطر هو : بيان خلق الملائكة ، وفتح أبواب الرحمة ، وتذكير النعمة ، والتحذير من إغواء الشياطين ، وتسلية الرسول ، وصعود كلمة الشهادة إلى الله ، وذكر عجائب البحر واستخراج الحلية منه ، وسير الليل والنهار ، وعجز الأصنام عن الربوبية ، وفقر العباد إلى الله ، وفضل القرآن وشرف تلاوته ، وأصناف الخلق في وراثة القرآن ، وخلود الجنة لأهل الإيمان ، وخلود النار لأهل الكفر والطغيان ، والمنة على العباد بحفظ السماء والأرض من الخلل والاضطراب . . . i

سياق السورة

سورة فاطر لها نسق خاص في موضوعها وفي سياقها أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد . ››فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشرى من بدئها إلى نهايتها وهي إيقاعات موحية مؤثرة تهز القلب هزا وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هدا الوجود وروعة هذا الكون وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه المتناثرة في صفحاته ، وليتذكر آلاء الله ويشعر برحمته ورعايته وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة وليخشع ويعنوا وهو يواجه بدائع صنع الله وآثار يده في أطواء الكون وقي أغوار النفس وفي حياة البشر وفي أحداث التاريخ وهو يرى ويلمس قي تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القادرة . . ذلك كله قي أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك ويتأثر تأثر الأحياء .

والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات ، يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات ، فهي كلها موضوع ، كلها إيقاعات على أوتار القلب البشرى تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع إلى الإيمان والخشوع والإذعان

والسمة البارزة الملحوظة هي تجمع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة وإظهار هذه اليد تحرك الخيوط كلها وتجمعها وتقبضها وتبسطها وتشدها وترخيها فلا معقب ولا شريك ولا ظهير ii

فقرات السورة

رغم أن السورة كلها وحدة متماسكة إلا أنها يمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات أو مجموعات :

1- رحمة الله وفضله

إذا تأملنا الآيات من ( 1-8 ) في سورة فاطر نجد فيضا من أنعم الله التي لا تعد ولا تحصى على عباده فهو خالق السماوات والأرض وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وجليل وحيه إلى عباده وإذا لاحظت عناية الله عبدا زالت من أمامه القيود والسدود : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها . . . }( فاطر : 2 ) .

لقد فتح الله رحمته لأنبيائه وأصفيائه : جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم وأنقذ يوسف من الجب ومن السجن واستجاب دعاء يونس في بطن الحوت وآزر موسى في طريقه إلى فرعون وأنزل رحمته بأصحاب الكهف وحفظهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا وشملت رحمة الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الهجرة وهو طريد : { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا . . . }( التوبة : 40 ) .

وإذا أمسك الله رحمته عن عبد فلن ينفعه مال ولا رجال وإذا استقر اليقين في القلب تنبه إلى كيد الشيطان وفنه ، فالمؤمن يعلم أن الشيطان عدو لنا يزين لنا الشر ليوقعنا في المعصية فمن أطاع الشيطان زين له سوء عمله فرآه حسنا ووقع في الظلال ومن يضلل الله فما له من هاد .

2 – آيات الله في الكون

في الآيات من ( 9 – 10 ) نلاحظ آثار القدرة الإلهية قي نفس الإنسان وفي صفحة الكون وفي الرياح يسوقها الله ، ثم تثير السحب فتسوقها يد القدرة مطرا يحي الأرض بعد موتها وكذلك البعث والحياة بعد الموت والله خالق الإنسان وبيده رعايته قي مراحل تكوينه وتخليقه في بطن أمه ، ثم رعايته وليدا وناشئا وزوجا وهو عليم بمن يموت مبكرا إن ذلك على الله يسير .

وتمتد قدرة الله إلى كل مظهر من مظاهر الوجود فتراها في مشهد البحرين المتميزين أحدهما عذب فرات والأخر ملح أجاج وفيهما من نعم الله على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان .

وفي مشهد الليل والنهار يتداخلان ويطولان ويقصران دليل على التقدير والتدبير وكذلك مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق .

هذه آثار قدرة الله والذين يدعون من دونه لا يسمعون ولا يستجيبون ، ويوم القيامة يتبرءون من عبادهم الضلال ولا يخبر بهذه الحقائق مثل الإله الخبير

3- الله غني عن عبادتنا

في الآيات من ( 15 – 26 ) بيان لحقيقة أساسية هي أن الله غني عن عبادتنا فلا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا ولكننا نحن الفقراء المحتاجون إلى رضاه وعنايته فمن وجد الله وجد كل شيء : وجد الهداية والسعادة والثقة بالنفس والأمل في الغد ، ومن فقد الله فقد كل شيء ولو شاء الله أن يذهب الناس لأهلكهم وأتى بخلق جديد يعرفون فضله عليهم .

ويشير القرآن إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال وأن الاختلاف بين طبيعتهما أصل عميق كأصالة الاختلاف ف بين العمى والبصر والظالمات والنور والظل والحرور والموت صلة وشبها ثم تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذبين للتنبيه والتحذير

4 – كتابان إلهيان

عند قراءة الآيات من ( 27 – 38 ) يتضح أمامنا أن لله عز وجل كتابين يدلان عليه : أحدهما كتاب الكون والثاني الكتاب المنزل والمؤمن يقرأ دلائل القدرة قي كتاب الكون : في صحائفه العجيبة الرائعة المتنوعة الألوان والأنواع والأجناس والثمار المتنوعة الألوان والجبال الملونة الشعاب والناس والدواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة . . هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح

والمؤمن يقرأ في الكتاب المنزل ويستيقن بما فيه من الحق المصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة ودرجات الوارثين وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين ومشهدهم في دار النعيم ومقابلتهم مشهد الكافرين الأليم وتختم الجولة العجيبة المديدة المنوعة الألوان بتقرير أن ذلك كله يتم وفقا لعلم الله العليم بذات الصدور

5 – دلائل الإيمان

تشتمل الآيات من ( 39 – 45 ) على الفقرة الأخيرة من السورة وفيها دلائل يقدمها القرآن ليحرك القلوب نحو الإيمان وتجول الآيات جولات واسعة المدى تشتمل على إيحاءات شتى : جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة يخلف بعضهما بعضا " وجولة في الأرض و السماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله ، وجولة في السماوات و الأرض كذلك لرؤية يد الله القوية تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا وجولة قي مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضى فيهم سنة الله الجارية " iii ثم الختام الموحى الموقظ للقلب المبين فضل الله العظيم قي إمهال العصاة فإن تابوا قبل توبتهم وإن أصروا على المعصية عاقبهم وحاسبهم قال تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا . ( فاطر : 45 )

***

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير( 1 ) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم( 2 ) يأبها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تأفكون( 3 ) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور( 4 ) }

المفردات :

الحمد لله : قولوا الحمد لله فإن واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد

فاطرالسماوات والأرض : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق

جاعل الملائكة رسلا : أي : جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل

أولى أجنحة : ذوى أجنحة جمع جناح كجناح الطائر

مثنى وثلاث ورباع : أي اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، حسب مراتبهم

يزيد في الخلق ما يشاء : يزيد بحكمته في بعض مخلوقاته ما يشاء من الزيادات على بعض آخر إن اتفقوا في الجنس والنوع

1

التفسير :

{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير }

الشكر لله منشأ السماوات والأرض من العدم وخالقهما على غير مثال سابق وهو سبحانه جعل الملائكة وسائط بينه وبين عباده لتبليغ رسالات السماء وتصريف الرياح والأمطار والسحاب والأرزاق والعذاب والهداية وغير ذلك ومن هؤلاء الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وهم ذوو أجنحة متعددة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة أجنحة وبعضهم له أكثر من ذلك ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون بها من الأرض إلى السماء .

جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسام رأى جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب . iv

{ يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير } يزيد في خلق الملائكة ما يشاء من ناحية عددهم أو في عدد أجنحتهم أو يزيد في جميع الخلق ما يشاء نوعا وعددا وقوة وعقلا وعلما وحسنا وغير ذلك من الكمالات أو ما يقابلها لا يمنعه مانع من تنفيذ مشيئته إن الله على كل شيء قدير وقد تعددت الآراء قي الزيادة في الخلق فقيل : حسن الصوت وملاحة العين وحسن الأنف وحلاوة الفم وحكمة العقل وجودة الرأي وغير ذلك .

قال الزمخشرى في تفسير : { يزيد في الخلق ما يشاء . . . }

الآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة قي البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وجرأة قي القلب وسماحة في النفس وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم وحسن تأت قي مزاولة الأمور ما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف .