فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة فاطر

وتسمى سورة الملائكة . وهي خمس أو ست وأربعون آية وهي مكية

قال القرطبي : في قول الجميع ، وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس : أنزلت سورة فاطر بمكة ، وهذه السورة ختام السورة المفتتحة بالحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة . وهي الإيجاد الأول ، ثم الإبقاء الأول ، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ . ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها . وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء . قاله الخطيب .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق ، وعلى غير مادة كذا قال المفسرون ، والظاهر أن هذا ليس من معنى الفطر لغة ، وإنما أخذوه من المعنى وسياق الكلام ، وأصل الفطر في اللغة الشق عن الشيء مطلقا ، يقال : فطرته فانفطر ومنه فطر ناب البعير إذا طلع فهو بعير فاطر ، وتفطر الشيء تشقق ، وقيل : الشق طولا فكأنه شق العدم بإخراجهما منه ، وبابه نصر كما في المختار ، والفطر أيضا الابتداء والاختراع ، وهو المراد هنا .

عن ابن عباس قال : كنت لا أدري ما فاطر حتى أتاني أعربيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها ، يقول ابتدأتها وعنه الفاطر البديع ، والمعنى ، الحمد لله مبدع السموات والأرض ومخترعهما ، والمقصود من هذا إن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم فهو قادر على الإعادة وإنما حمد سبحانه وتعالى نفسه بذلك تعظيما له وتعليما لعباده كيفية الثناء عليه تعالى ، قرئ فاطر على صيغة اسم الفاعل ، وفطر على صيغة الفعل الماضي .

{ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا } إلى عبادة يجوز فيه الوجهان كما تقدم والرسل من الملائكة هم : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل{[1382]} فالمراد بالملائكة بعضهم إذ ليس كلهم رسلا كما هو معلوم ، صرح الطيبي بأن جاعل هنا للاستمرار فباعتبار أنه يدل على المضي يصلح كونه صفة للمعرفة ، وباعتبار أنه يدل على الحال والاستقبال يصلح للعمل . وقرئ : رسلا بسكون السين ، وهي لغة تميم ، قال يحيى بن سلام : يرسلهم الله إلى الأنبياء يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة ، وقال السدي : إلى العباد بنعمة أو نقمة أو يوصلون إليهم آثار صنعته .

{ أُولِي } أي ذوي اسم جمع لذو { أَجْنِحَةٍ } جمع جناح نعت لرسلا وهو جيد لفظا لتوافقهما تنكيرا ، أو للملائكة وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة ، فهي صفة كاشفة ، والمسوغ للتخلف في التعريف جعل أل جنسية .

{ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } صفات لأجنحة والقصد بها التكثير واختلافهم في عدد الأجنحة لا الحصر ، وإلا فبعضهم له ستمائة وغير ذلك ، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر كما عدل عمر عن عامر وعن تكرير إلى غير تكرير ، وقيل للعدل والوصف والتعويل عليه ، وقد تقدم الكلام عليها في النساء . قال قتادة : بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة ، ولعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة وبعضهم له أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون بها من الأرض إلى السماء . أقول : الأصل جناحان لأنهما بمنزلة اليدين ، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل ، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه{[1383]} .

{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة والمعنى أنه يزيد في خلق الملائكة والأجنحة ما يشاء ، وهو قول أكثر المفسرين ، واختاره الفراء والزجاج قال ابن مسعود : رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته له ستمائة جناح ، وقيل إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة ، فقال الزهري وابن جريج : إنها حسن الصوت ، وقال قتادة :

الملاحة في العينين ، والحسن في الأنف والحلاوة في الفم ، وقيل الوجه الحسن وقيل الخط الحسن ، وقيل الشعر الجعد ، وقيل العقل والتمييز ، وقيل العلوم والصنائع ، وقيل الصوت الحسن وجودة العقل ومتانته .

ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص ، بل يتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء ، وقوة في البطش ، وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ، وجراءة في القلب ، وسماحة في النفس ، ولباقة في التكلم وحسن تأن في مزاولة الأمور ، وذلاقة في اللسان ، ومحبة في قلوب المؤمنين وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف ، وبه قال الزمخشري { إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل لما قبله من أنه يزيد في الخلق ما يشاء .


[1382]:سبق الإشارة أنه لم يرو في الأحاديث تسمية عزرائيل.
[1383]:لا نملك إلا الوقوف عند وصف القرآن الكريم للملائكة دون تصور معين له، فكل تصور قد يخطئ، والاجتهاد في هذا نوع من الرجم بالغيب بدون دليل.