السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

مكية هي ست وأربعون آية ، ومائة وسبعة وتسعون كلمة ، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفاً .

وهي ختام السور المفتتحة باسم الحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة وهي : الإيجاد الأول ، ثم الإبقاء الأول ، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بإنهاء القدرة وأحكمها المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلاً شافياً على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محله .

{ بسم الله } الذي أحاطت دائرة قدرته بالممكنات { الرحمان } الذي عم الخلق بعموم الرحمة { الرحيم } الذي شرف أهل الكرامة بدوام المراقبة .

ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني ، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام كما يكون بالإعطاء والإنعام قال تعالى ما هو نتيجة ذلك :

{ الحمد } أي : الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً { لله } أي : وحده .

ولما كان الإيجاد من العدم أدل دليل على ذلك قال تعالى دالاً على استحقاقه للمحامد { فاطر السماوات والأرض } أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق قاله ابن عباس ، أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض ، وعن مجاهد عن ابن عباس ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي : ابتدأتها .

تنبيه : إن جعلت إضافة فاطر محضة كان نعتاً ، وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً وهو قليل من حيث إنه مشتق .

ولما كانت الملائكة عليهم السلام مثل الخافقين في أن كلا منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر أخبر عنهم بعدما أخبر عما طريقه المشاهدة بقوله تعالى : { جاعل الملائكة رسلاً } أي : وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون رسالته بالوحي والإلهام والرؤية الصادقة ، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه { أولي } أي : أصحاب { أجنحة } يهيئهم لما يراد منهم ، ثم وصفها بقوله تعالى : { مثنى } أي : جناحين لكل واحد من صنف منهم { وثلاث } أي : ثلاثة ثلاثة لصنف آخر منهم { ورباع } أي : أربعة أربعة لصنف آخر منهم ، فهم متفاوتون بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ويسرعون بها نحو ما وكلهم الله تعالى عليه فيتصرفون فيه على ما أمرهم به ، وإنما لم تصرف هذه الصفات لتكرر العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة .

{ يزيد في الخلق ما يشاء } أي : يزيد في خلق الأجنحة وفي غيره ما تقتضيه مشيئته ، والأصل : الجناحان ؛ لأنهما بمنزلة اليدين ، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل وذلك أقوى للطيران وأعون عليه ، فإن قيل : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه فما صورة الثلاثة ؟ أجيب : بأن الثالث لعله يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة . أو لعله لغير الطيران ، قال الزمخشري : فقد مرّ بي في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله تعالى ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى انتهى .

وروى ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينثر من رأسه الدر والياقوت » ، وروي أنه عليه السلام : «سأل جبريل أن يتراءى في صورته فقال : إنك لن تطيق ذلك فقال : إني أحب أن تفعل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده ، وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال : سبحان الله ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام له اثنا عشر ألف جناح جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله تعالى حتى يعود مثل الوصع ، وهو العصفور الصغير » .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { يزيد في الخلق ما يشاء } وهو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن ، وقيل : هو الخط الحسن ، وعن قتادة : الملاحة في العينين ، والآية كما قال الزمخشري : مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش ، ومتانة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس ، وذلاقة في اللسان ، ولباقة في التكلم وحسن تأنٍّ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف .

ثم علَّل تعالى ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث { إن الله } أي : الجامع لجميع أوصاف الكمال { على كل شيء قدير } وتخصيص بعض الأشياء دون بعض إنما هو من جهة الإرادة .

قال أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه ، وأنه الأهل للحمد والمستحق إذ الكل خلقه وملكه ، وتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه وتجردت هذه للتعريف بالاختراع والخلق .