تتناول هذه السورة على نحو خاص موضاعات الأسرة والمجتمع ، والعلاقات بين الناس ، وتضع الأحكام المنظمة لها ، وتبدأ بالأسرة من حيث إنها : هي الخلية الأولى للمجتمع ، إذا صلحت صلح المجتمع كله . ثم تتعرض السورة الكريمة بعد ذلك للمجتمع ونظامه المتكامل ، وتحدد السورة منذ البداية في الآية الأولى المبدأ الذي تقوم عليه العلاقات بين الناس . ألا وهو المساواة بينهم . فقد خلقهم الله سبحانه وتعالى من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها . فالبشر جميعا أبناء أب واحد هو آدم ، وأم واحدة هي حواء . هؤلاء البشر يربطهم رباط الأخوة والمساواة . فالإسلام يبين أن البشر وتنظيمهم وحدة واحدة تبدأ بالأسرة ، وتتسع فتشمل القبائل والشعوب التي ينبغي عليها أن تتعارف وتتآلف على خير ما يكون التعارف والتآلف .
1- يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أوجدكم من نفس واحدة ، وأنشأ من هذه النفس زوجها ، وخلق منهما رجالاً كثيراً ونساء ، فأنتم جميعاً تنتهون إلى تلك النفس الواحدة ، واتقوا الله الذي تستعينون به في كل ما تحتاجون ، ويسأل باسمه بعضكم بعضاً فيما تتبادلون من أمور ، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها قريبها وبعيدها ، إن الله دائم الرقابة على أنفسكم ، لا تخفي عليه خافية من أموركم ، ومجازيكم عليها .
قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني : آدم عليه السلام قوله تعالى : { وخلق منها زوجها } يعني : حواء ، قوله تعالى : { وبث منهما } ، نشر وأظهر ، قوله تعالى : { رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به } أي : تتساءلون به ، وقرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين ، كقوله تعالى : { ولا تعاونوا } . قوله تعالى{ والأرحام } . قراءة العامة بالنصب ، أي : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزة بالخفض ، أي : به وبالأرحام ، كما يقال : " سألتك بالله والأرحام " والقراءة الأولى أفصح لأن العرب لا تكاد تنسق بظاهر على مكنى إلا أن بعد أن تعيد الخافض فتقول : مررت به وبزيد ، إلا أنه جائز مع قلته . قوله تعالى { إن الله كان عليكم رقيبا } . أي : حافظاً .
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }
افتتح تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه ، والحث على عبادته ، والأمر بصلة الأرحام ، والحث على ذلك .
وبيَّن السبب الداعي الموجب لكل من ذلك ، وأن الموجب لتقواه لأنه { رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } ورزقكم ، ورباكم بنعمه العظيمة ، التي من جملتها خلقكم { مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ليناسبها ، فيسكن إليها ، وتتم بذلك النعمة ، ويحصل به السرور ، وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم ، حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم ، توسلتم بها بالسؤال بالله . فيقول من يريد ذلك لغيره : أسألك بالله أن تفعل الأمر الفلاني ؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن لا يرد من سأله بالله ، فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه .
وكذلك الإخبار بأنه رقيب ، أي : مطلع على العباد في حال حركاتهم وسكونهم ، وسرهم وعلنهم ، وجميع أحوالهم ، مراقبا لهم فيها مما يوجب مراقبته ، وشدة الحياء منه ، بلزوم تقواه .
وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة ، وأنه بثهم في أقطار الأرض ، مع رجوعهم إلى أصل واحد -ليعطف بعضهم على بعض ، ويرقق بعضهم على بعض . وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها ، ليؤكد هذا الحق ، وأنه كما يلزم القيام بحق الله ، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق ، خصوصا الأقربين منهم ، بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به .
وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى ، وصلة الأرحام والأزواج عموما ، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل ، من أول السورة إلى آخرها . فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة ، مفصلة لما أجمل منها ، موضحة لما أبهم .
وفي قوله : { وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا } تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به ، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج ، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال ، وأقرب{[182]} علاقة .
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
هذه السورة مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة{[1]} وهي قوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } قال النقاش : وقيل : نزلت السورة عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : { يا أيها الناس } حيث وقع إنما هو مكي ، فيشبه أن يكون صدر هذه السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي عليه السلام ، وقال النحاس : هذه السورة مكية .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة ، وفي البخاري{[2]} : آخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ، ذكرها في تفسير سورة " براءة " من رواية البراء بن عازب . وفي البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعني قد بني بها .
«يا » حرف نداء «أي » منادى مفرد - و «ها » تنبيه ، و { الناس } - نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش ، «والرب » : المالك ، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود ، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد ، وقال : { واحدة } على تأنيث لفظ النفس ، وهذا كقول الشاعر : [ الوافر ]
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى . . . وأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ{[3828]}
وقرأ ابن أبي عبلة - «من نفس واحد » بغير هاء ، وهذا على مراعاة المعنى ، إذ المراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما ، والخلق في الآية : بمعنى الاختراع ، ويعني بقوله : { زوجها } حواء ، والزوج في كلام العرب : امرأة الرجل ، ويقال زوجة ، ومنه بيت أبي فراس{[3829]} : [ الطويل ]
وإنَّ الذي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتي . . . كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرىَ يَسْتَبِيلُها
وقوله { منها } ، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة ، إن الله تعالى خلق آدم وَحِشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله ، وقيل : من يمينه فخلق منه حواء ، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : ( إن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها » وكسرها طلاقها ){[3830]} . وقال بعضهم : معنى { منها } من جنسها ، واللفظ يتناول المعنيين ، أو يكون لحمها وجواهرها في ضلعه ، ونفسها من جنس نفسه ، و { بث } معناه : نشر ، كقوله تعالى : { كالفراش المبثوث }{[3831]} [ القارعة : 4 ] أي المنتشر ، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع ، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا ، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين ، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين . و { الذي } في موضع نصب على النعت - و { تساءلون } معناه : تتعاطفون به ، فيقول أحدكم : أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه : { تساءلون به } حقوقكم وتجعلونه مقطعاً لها وأصله : «تتساءلون » فأبدلت التاء الثانية سيناً وأدغمت في السين ، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو ، بخلاف عنه ، وقرأ الباقون - «تساءلون » - بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة ، قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا : طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس : قال العجاج{[3832]} : [ الرجز ]
لَوْ عَرَضَتْ لأَيْبُلِيِّ قسِّ . . . أشعثَ في هيكله مندسِّ
حنَّ إليها كَحنِينِ الطَّسِّ . . . وقال ابن مسعود - «تسألون » - خفيفة بغير ألف ، و { الأرحام } نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب ، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة ، وعليها فسر ابن عباس وغيره ، وقرأ عبد الله بن يزيد - والأرحامُ - بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر تقديره : والأرحام أهل أن توصل ، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء - «والأرحامِ » - بالخفض عطفاً على الضمير ، والمعنى عندهم : أنها يتساءل بها كما يقول الرجل : أسألك بالله وبالرحم ، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض ، قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه ، فكما لا يجوز : مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد ، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر ، كما قال : [ البسيط ]
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تهجونا وتَشْتُمُنا . . . فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ{[3833]}
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَاري سُيوفَنَا . . . وَمَا بَيْنَها والْكَعْبِ غَوْطُ نَفَانِفِ{[3834]}
واستهلها بعض النحويين ، قال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس .
قال القاضي أبو محمد : المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف ، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة ، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام : «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت »{[3835]} وقالت طائفة : إنما خفض - «والأرحامِ » - على جهة القسم من الله على ما اختص به إله إلا هو من القسم بمخلوقاته ، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله : { إن الله كان عليكم رقيباً } وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده ، وإن كان المعنى يخرجه{[3836]} - و { كان } في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط ، بل المعنى : كان وهو يكون ، والرقيب : بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه ، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة ، وفي قوله { عليكم } ضرب من الوعيد ، ولم يقل «لكم » للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم ، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب ، لأنه يرتقب ذلك ، ومنه قول أبي داود{[3837]} : [ مجزوء الكامل ]
كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِأَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ . . .