فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

مقدمة السورة:

مدنية

وآياتها ست وسبعون ومائة

كلماتها : 3740 ؛ حروفها : 14535

يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا( 1 ) .

- لما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة من التعطيف على الأولاد والنساء والأيتام ، وإيصال حقوقهم إليهم ، وحفظ أموالهم عليهم ، ومن الأمر بالطهارة والصلاة والجهاد والدية ، ومن تحريم المحارم وتحليل غيرهن ، إلى غير ذلك من السياسات ومكارم الأخلاق التي يناط بها صلاح المعاش والمعاد ، افتتح السورة ببعث المكلفين على التقوى .

ومن غرائب القرآن أن فيه سورتين صدرهما ( يأيها الناس ) إحداهما في النصف الأول ، وهي الرابعة من سوره ، والأخرى في النصف الثاني ، وهي أيضا الرابعة من سوره ؛ ثم التي في النصف الأول مصدرة بذكر المبدأ : { اتقوا ربكم الذي خلقكم } ، والتي في النصف الثاني مصدرة بذكر المعاد : ( . . إن زلزلة الساعة شيء عظيم )( {[1297]} ) ؛ ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى بأنه خلقنا من نفس واحدة ، أما القيد الأول وهو أنه خلقنا فلا شك أنه علة لوجوب الانقياد لتكاليفه ، والخشوع لأوامره ونواهيه ، لأن المخلوقية هي العبودية ، ومن شأن العبد امتثال أمر مولاه ، في كل ما يأمره وينهاه ، وأيضا الإيجاد غاية الإحسان ، فيجب مقابلتها بغاية الإذعان ، . . . ، وأما القيد الثاني وهو خصوص أنه خلقنا من نفس واحدة ، فإنما يوجب علينا الطاعة لأن خلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم وتباين أمزجتهم واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر وبرهان باهرعلى وجود مدبر مختار ، وحكيم قدير ؛ ولو كان ذلك بالطبيعة أو لعلة موجبة كان كلهم على حد واحد ونسبة واحدة ؛ ثم في هذا القيد فوائد أخر ، منها : أنه يأمر عقبه بالإحسان إلى اليتامى والنسوان ، وكونهم متفرعين من أصل واحد ، . . . أعون على هذا المعنى ، . . ، ومنها أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا للنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يقرأ كتابا ؛ وأجمع المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا : هو آدم عليه السلام ( {[1298]} ) ؛ { وخلق منها زوجها } وخلق

الله من النفس الواحدة والشخص الواحد الذي هو آدم عليه السلام الزوج الثاني( {[1299]} ) له وهي حواء ؛ عن قتادة : { وخلق منها زوجها } يعني حواء ، خلقت من آدم من ضلع من أضلاعه ؛ { وبث منهما رجالا ونساء } ونشر الله تعالى وفرق من آدم وحواء وخلق منهما رجالا كثيرا ونساء كثيرات ؛ { واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام } قال الضحاك : واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به( {[1300]} ) ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها ؛ { إن الله كان عليكم رقيبا } أي : هو مراقب لجميع أحوالهم وأعمالهم ، كما قال : ( . . والله على كل شيء شهيد ) ( {[1301]} ) ، وفي الحديث الصحيح : " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك " وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ، ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ، ليعطف بعضهم على بعض ، ويحثهم على ضعفائهم ، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النمار ، أي من عريهم وفقرهم قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : { يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } حتى ختم الآية ، ثم قال : ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد . . ) ( {[1302]} ) ثم حضهم على الصدقة ، فقال : " تصدق ( {[1303]} ) رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره " وذكر تمام الحديث ( {[1304]} ) .


[1297]:سورة الحج. من الآية 1.
[1298]:من تفسير غرائب القرآن. ورغائب الفرقان.
[1299]:قال ابن سيده: الزوج: الفرد الذي له قرين؛ ويدل على أن الزوجين في كلام العرب اثنان قول الله عز و جل:(وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) فكل واحد منهما – كما ترى- زوج ذكرا كان أو أنثى؛ والرجل زوج المرأة وهي زوجه وزوجته؛ وفي حديث أبي ذر:أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة" قلت: وما زوجان من ماله؟ قال: عبدان أو فرسان أو بعيران من إبل؛ وكان الحسن يقول: دينارين ودرهمين وعبدين واثنين من كل شيء.
[1300]:حذفت من كل من الفعلين إحدى التاءين، وأصلهما: تتعاهدون وتتعاقدون.
[1301]:سورة البروج. من الآية 9.
[1302]:سورة الحشر. من الآية 18.
[1303]:خبر يراد به الطلب، أي: ليتصدق.
[1304]:من تفسير القرآن العظيم.