التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النساء

مدنية وآياتها 176 نزلت بعد الممتحنة .

{ يا أيها الناس اتقوا ربكم } خطاب على العموم وقد تكلمنا على التقوى في أول البقرة .

{ من نفس واحدة } هو آدم عليه السلام .

{ زوجها } هي حواء خلقت من ضلع آدم .

{ وبث } نشر .

{ تساءلون به } أي يقول بعضكم لبعض أسألك بالله أن تفعل كذا { والأرحام } بالنصب عطفا على اسم الله أي اتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، أو على موضع الجار والمجرور ، وهو به ، لأن موضعه نصب وقرئ بالخفض عطف على الضمير في به ، وهو ضعيف عند البصريين ، لأن الضمير المخفوض لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض .

{ إن الله كان عليكم رقيبا } إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة ، وهو مقام شريف أصله علم وحال ، ثم يثمر حالين : أما العلم : فهو معرفة العبد ؛ لأن الله مطلع عليه ، ناظر إليه يرى جميع أعماله ، ويسمع جميع أقواله ، ويعلم كل ما يخطر على باله ، وأما الحال فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه ، ولا يغفل عنه ، ولا يكفي العلم دون هذه الحال ، فإذا حصل العلم والحال : كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين : الحياء من الله ، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات ، وكانت ثمرتها عند المقربين : الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، فقوله : أن تعبد الله كأنك تراه : إشارة إلى الثمرة الثانية ، وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم : كمن يشاهد ملكا عظيما ، فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة ، وقوله : فإن لم تكن تراه فإنه يراك : إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقربين ، فاعلم أنه يراك فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين ، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى رأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه ، فنزل عنه إلى المقام الآخر .

واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة ، وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة .

فأما المشارطة : فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي .

وأما المرابطة : فهي معاهدة العبد لربه على ذلك .

ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره .

وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه ، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عهد عليه الله : حمد الله ، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ، ونقص عهد المرابطة . عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة ، ثم اختبر بالمحاسبة فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى .