لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

مقدمة السورة:

السورة التي يذكر فيها النساء

بسم الله الرحمان الرحيم

اختلفوا في الاسم عن ماذا اشتق ، فمنهم من قال إنه مشتق من السمو وهو العلو ، ومنهم من قال إنه مشتق من السمة وهي الكية .

وكلاهما في الإشارة : فمن قال إنه مشتق من السمو فهو اسم من ذكره سمت رتبته ، ومن عرفه سمت حالته ، ومن صحبه سمت همته ، فسمو الرتبة يوجب وفور المثوبات والمبار ، وسمو الحالة يوجب ظهور الأنوار في الأسرار ، وسمو الهمة يوجب التحرز عن رق الأغبار .

ومن قال أصله من السمة فهو اسم من قصده وسم بسمة العبادة ، ومن صحبه وسم بسمة الإرادة ، ومن أحبه وسم بسمة الخواص ، ومن عرفه وسم بسمة الاختصاص . فسمة العبادة توجب هيبة النار أن ترمي صاحبها بشررها ، وسمة الإرادة توجب حشمة الجنان أن تطمع في استرقاق صاحبها- مع شرف خطرها ، وسمة الخواص توجب سقوط العجب من استحقاق القربة للماء والطينة على الجملة ، وسمة الاختصاص توجب امتحان الحكم عند استيلاء سلطان الحقيقة .

ويقال اسم من واصله سما عنده( عن ) الأوهام قدره( سبحانه ) . ومن فاصله وسم بكي الفرقة قلبه .

وعلى هذه الجملة يدل اسمه .

الناس اسم جنس ، والاشتقاق فيه غير قوي . وقيل سمي الإنس إنساً لظهوره فعلى هذه الإشارة : يا مَنْ ظهرتم عن كتم العَدَم بحكم تكليفي ، ثم خصصتُ مَنْ شئتُ منكم بتشريفي ، وحرمتُ من شئت منكم هدايتي وتعريفي ، ونقلتكم إلى ما شئتُ بل أوصلتكم إلى ما شئت بحكم تصريفي .

ويقال لم أُظْهِرٍ منَ العَدَمِ أمثالكم ، ولم أُظْهِرْ على أحدٍ ما أظْهَرٍتُ عليكم من أحوالكم .

ويقال سمِّيتَ إنساناً لنسيانك ، فإن نسيتني فلا شيء أَخَس منك ، وإنْ نسيت ذكري فلا أحد أَحَط منك .

ويقال من نَسِيَ الحق فلا غاية لمحنته ، ومن نسي الخَلْقَ فلا نهاية لعلوِّ حالته .

ويقال يقول للمُذْنِبين ، يا مَنْ نسِيتَ عهدي ، ورفضتَ ودي ، وتجاوزت حدِّي حانَ لك أن ترجع إلى بابي ، لتستحقَّ لطفي وإيجابي . ويقول للعارفين يا مَنْ نسيت فينا حظَّكَ ، وصُتَ عن غيرنا لَحْظَكَ ولَفْظَك - لقد عظُم علينا حَقُّك ، وَوَجَبَ لدينا نصرُك ، وجلَّ عندنا قَدْرُك .

ويقال يا من أَنِستَ بنسيم قرْبي ، واستروحتَ إلى شهود وجهي ، واعتززت بجلال قَدْري - فأنت أجلُّ عبادي عندي .

قوله : { اتَّقُوا رَبَّكُمْ } : التقوى جماع الطاعات ، وأوله ترك الشِّرْكِ وآخره اتقاء كل غير ، وأولُ الأغيار لك نفسُكَ ، ومَنْ اتَّقَى نفسه وقف مع الله بلا مقام ولا شهود حال ، و ( وقف ) لله . . لا لشهود حظِّ في الدنيا والعقبى .

قوله : { الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } : وهو آدم عليه السلام ، وإذا كنا مخلوقين منه وهو مخلوق باليد فنحن أيضاً كذلك ، لمَّا ظهرت مزية آدم عليه السلام به على جميع المخلوقين والمخلوقات فكذلك وصفُنا ، قال تعالى :{ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةْ }[ البيّنة : 7 ] .

ولفظ " النفس " للعموم والعموم يوجب الاستغراق .

قوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } : حَكَمَ الحقُّ - سبحانه - بمساكنة الخلق مع الخلق لبقاء النسل ، ولردِّ المِثْل إلى المِثْل فربَطَ الشكلَ بالشكلِ .

قوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً } : تعرَّف إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة ؛ حيث خَلق جميع هذا الخلق من نسل شخصٍ واحدٍ ، على اختلاف هيئتهم ، وتفاوت صورهم ، وتباين أخلاقهم ، وإن اثنين منهم لا يتشابهان ، فلكلٍ وجه في الصورة والخلق ، والهمة والحالة ، فسبحان من لا حدَّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته .

ثم قال : { واتَّقُوا اللهَ } تكرير الأمر بالتقوى يدلُّ على تأكيد حكمه .

وقوله : { تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ } : أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، فَمَنْ قَطَعَ الرحمَ قُطِع ، ومَنْ وَصَلَها وَصَل .

{ إنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } : مطلعاً شهيداً ، يعدُ عليك أنفاسكَ ، ويرى حواسَك ، وهو مُتَوَّلٍ خطراتِك ، ومنشئٌ حركاتِك وسكناتِك . ومَنْ عَلِمَ أنه رقيب عليه فبالحريِّ أن يستحيَ منه .