سورة النساء{[1]}
مقصودها الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه آل عمران ، والكتاب الذي حدت عليه البقرة لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة تحذيرا مما أراده شأس {[2]} بن قيس وأنظاره من الفرقة ، وهذه /السورة من أواخر{[3]} ما نزل ، روى البخاري في فضائل القرآن عن يوسف بن ماهك أن عراقيا سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تريه مصحفها ، فقالت : لم ؟ قال : لعلي أؤلف{[4]} القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف{[5]} . قالت : و ما يضرك أيه قرأت{[6]} قبل ، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل ، فيها{[7]} ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء " لا تشربوا " الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر{[8]} أبدا ، ولو نزل " لا تزنوا " لقالوا : لا ندع الزنا أبدا . لقد نزل بمكة{[9]} على محمد {[10]} وإني لجارية ألعب " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " {[11]}وما نزلت{[12]} سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ، قال : فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور{[13]} انتهى . وقد عنت بهذا رضي الله عنها أن القرآن حاز أعلى{[14]} البلاغة في إنزاله مطابقا لما تقتضيه{[15]} الأحوال بحسب الأزمان ، ثم رتب على أعلى وجوه البلاغة بحسب ما تقتضيه{[16]} المفاهيم من المقال{[17]} كما نشاهده من هذا الكتاب البديع المثال البعيد المنال .
ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت{[18]} إليه السورتان قبلها من التوحيد ، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت " النساء " لذلك ، ولأن بالاتقاء فيهن تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد { بسم الله } الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج{[19]} في لطائف المقدور { الرحمن } الذي جعل الأرحام رحمة عامة { الرحيم * } الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله{[20]} نعمة تامة .
لما تقرر أمر{[20282]} الكتاب الجامع الذي هو الطريق ، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك ، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع و{[20283]}التواصل والتعاطف والتراحم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس ، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل - كما تبين في علم الأخلاق - أربعاً : العلم والشجاعة والعدل والعفة ، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام ، وكانت{[20284]} آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنتين{[20285]} منها ، وهما العلم والشجاعة - كما أشير إلى ذلك في غير آية { نزل عليك الكتاب بالحق }[ آل عمران : 3 ] ، { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم }[ آل عمران : 7 ] ، { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم }[ آل عمران : 18 ] ، { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }[ آل عمران : 139 ] ، { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله }[ آل عمران : 146 ] { فإذا عزمت فتوكل على الله }[ آل عمران : 159 ] ، { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله{[20286]} أمواتاً }[ آل عمران : 169 ] ، { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح }[ آل عمران : 172 ] ، { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا }[ آل عمران : 200 ] ، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد مورثوهم في حب الله ، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث جوراً عن سواء السبيل وضلالاً عن أقوم الدليل ؛ جاءت هذه السورة داعية إلى الفضيلتين الباقيتين ، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين{[20287]} الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة ، وذلك مثمر {[20288]}للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان ، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين ، وما أحسن ابتداؤها بعموم{[20289]} : { يا أيها الناس } بعد اختتام تلك بخصوص " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا{[20290]} " الآية .
ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة{[20291]} من التكاليف ، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها ، فكانت في غاية{[20292]} المشقة على النفوس ، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال : { اتقوا ربكم } أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد ، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية ، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس . ابتدأ هذه ببيان كيفية ابتداء الخلق حثاً على أساس{[20293]} التقوى من العفة والعدل فقال : { الذي } جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها ولا تضيعوها{[20294]} ، وذلك أنه { خلقكم من نفس واحدة } هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكراً{[20295]} بعظيم قدرته ترهيباً للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث ، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين : هذه وهي رابعة النصف الأول ، والحج وهي رابعة النصف الثاني ، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما{[20296]} دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدإ ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد{[20297]} تصويراً لا مزيد عليه ، فدل فيها{[20298]} على المبدإ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة ، ما خلق الوجود إلا{[20299]} لأجله ، لتظهر{[20300]} الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم{[20301]} ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه ، ورتب ذلك على الترتيب الأحكم ، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية ، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السورة الماضية المجادلة في أمر عيسى ، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام ، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ تولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ؛ بين في هذه السورة بقوله - عطفاً على ما تقديره جواباً لمن كأنه قال : كيف كان ذلك ؟ - إنشاء تلك النفس ، أو تكون{[20302]} الجملة حالية - { وخلق منها زوجها } أي مثله في ذلك أيضاً كمثل حواء : أمه ، فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى ، فصار مثله كمثل{[20303]} كل من أبيه وأمه : آدم وحواء معاً عليهما الصلاة والسلام ، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام - المندرج تحت آية{[20304]} بعضكم من بعض{[20305]} مع آية البث التي بعد هذه - حاصراً{[20306]} للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها ، وهي بشر{[20307]} لا من ذكر ولا أنثى ، بشر منهما ، بشر من ذكر فقط ، بشر من أنثى فقط ؛ ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق ، وعبر عن غيرها بالجعل ، لخلو السياق عن هذا الغرض ، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام ( كذلك الله يفعل ما يشاء{[20308]} }[ آل عمران : 40 ] وفي أمر عيسى عليه الصلاة والسلام{ يخلق ما يشاء{[20309]} }[ آل عمران : 47 ] ، وأيضاً فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى ، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتدار - لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها - أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على أسبابها وإن لم يكن اختراع - فسبحان العزيز العليم العظيم الحكيم ! .
ولما ذكر تعالى الإنشاء عبر بلفظ الرب الذي هو من التربية ، ولما كان الكل - المشار إليه بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره : وبث لكم منه إليها : { وبث منهما } أي فرق ونشر {[20310]}من التوالد{[20311]} ، ولما كان المبثوث قبل ذلك عدماً وهو الذي أوجده من العدم نكر{[20312]} لإفهام ذلك قوله : { رجالاً كثيراً ونساءً } من نفس واحدة ؛ كان إحسان{[20313]} كل من الناس إلى كل منهم من صلة{[20314]} الرحم ، و{[20315]}وصف الرجال دونهن مع أنهن أكثر منهم إشارة إلى أن لهم عليهن درجة ، فهم أقوى وأظهر وأطيب وأظهر في رأي العين لما لهم من الانتشار وللنساء من الاختفاء والاستتار .
ولما كان قد أمر سبحانه وتعالى أول الآية بتقواه مشيراً إلى أنه جدير{[20316]} بذلك منهم لكونه ربهم ، عطف على ذلك الأمر أمراً آخر مشيراً إلى أنه{[20317]} يستحق ذلك لذاته لكونه الحاوي لجميع الكمال المنزه عن كل شائبة نقص فقال : { واتقوا الله } أي عموماً لما له من إحاطة الأوصاف كما اتقيتموه خصوصاً لما له إليكم من الإحسان والتربية ، واحذروه وراقبوه في أن تقطعوا أرحامكم التي جعلها سبباً لتربيتكم .
ولما كان المقصود من هذه السورة المواصلة وصف{[20318]} نفسه المقدسة بما يشير إلى ذلك فقال : { الذين تساءلون } أي يسأل بعضكم بعضاً { به } فإنه لا يسأل باسمه الشريف المقدس إلا الرحمة والبر والعطف ، ثم زاد المقصود إيضاحاً فقال : { والأرحام } أي و{[20319]} اتقوا قطيعة الأرحام التي تساءلون بها ، فإنكم تقولون : ناشدتك بالله والرحم ! وعلل هذا الأمر بتخويفهم عواقب بطشه ، لأنه مطلع على سرهم وعلنهم مع ما له من القدرة الشاملة . فقال مؤكداً لأن أفعال الناس في ترك التقوى وقطيعة الأرحام أفعال{[20320]} من يشك في أنه بعين الله سبحانه : { إن الله } أي المحيط علماً وقدرة { كان عليكم } وفي أداة الاستعلاء ضرب من التهديد { رقيباً * } وخفض حمزة " الأرحام " المقسم بها تعظيماً لها وتأكيداً للتنبيه على أنهم قد نسوا الله في الوفاء بحقوقها - كما أقسم{[20321]} بالنجم والتين{[20322]} وغيرهما ، والقراءتان{[20323]} مؤذنتان{[20324]} بأن صلة الأرحام من الله بمكان عظيم ، حيث قرنها باسمه سواء كان عطفاً كما شرحته آية
{ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه{[20325]} }[ الإسراء : 23 ] ، وغيرها - أو كان قسماً ، واتفق المسلمون على أن صلة الرحم واجبة ، وأحقهم بالصلة الولد ، وأول صلته أن يختار له الموضع{[20326]} الحلال .