في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة . تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم . وحلال الأنكحة ومحرماتها . والمواريث والعلاقة الزوجية . وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها . وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم . ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم . والتيمم وأحكام الجناية والنهي عن الصلاة في حالة السكر . وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين . وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية ؛ لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا . وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر . وواجب الحذر والاستعداد للعدو . والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين . وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك ، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين . وأحكام القتل الخطأ والعمد . ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف .
وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار .
وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم . وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء . وبيان حكمة الله في إرسال الرسل . وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه . وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم . وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية . ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى .
ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا . ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا . ومنها المستقل . ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب . ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها . وكل هذا يسوغ القول : إن هذه السورة ألفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها .
وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة{[1]} . ولعل ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع .
ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة ، فألحقت بها ؛ لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة . وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني . والله سبحانه وتعالى أعلم .
هذا ، ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله ابن مسعود قال : ( ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة ) وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا . وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر . وقد لاحظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا{[2]} وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس . ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا . والله تعالى أعلم .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ( 1 ) وَالأَرْحَامَ ( 2 ) إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( 1 ) }
( 1 ) تساءلون به : تتساءلون به ، وقرئت بتشديد السين والمعنى واحد . وهو الذي تناشدون وتستحلفون به بعضكم ؛ حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لأجل الاطمئنان باليقين : نشدتك بالله ، أو سألتك بالله .
( 2 ) الأرحام : هي على قول الجمهور معطوفة على محل ( به ) أي اتقوا الأرحام التي تناشدون وتستحلفون بها بعضكم ؛ حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لبعضهم : نشدتك بالرحم أو سألتك بالرحم إذا أرادوا أن يطلبوا مطلبا أو يستحلفوا أحدا . وقد يرد أن تكون معطوفة على الله بمعنى واتقوا الأرحام وقطيعتها .
تعليق على الآية الأولى من السورة .
عبارة الآية واضحة . والخطاب فيها موجه للناس يدعون فيه إلى تقوى الله الذي يناشد بعضهم به بعضا ، وتقوى الأرحام بمعنى حفظها وعدم قطيعتها وهي التي يناشد كذلك بعضهم بعضا بحقها . وينبهون فيه إلى أن الله رقيب عليهم محص لجميع أعمالهم . وهو الذي خلقهم من نفس واحدة ، ثم خلق منها زوجها وأخرج منها الكثير من الرجال والنساء .
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية . والمتبادر أنها جعلت فاتحة السورة كبراعة استهلال لما احتوته من الأحكام والتشريعات المتعددة في حقوق النساء وذوي الأرحام ، فلكل من هؤلاء حقوق يجب على الناس تقوى الله ومراقبته فيها وأداؤها إلى أهلها . وعلى ذلك يقوم المجتمع البشري قويا مطمئنا . ويتوطد التعاطف والتعاون بين أفراده الذين هم أخوة من أب واحد وأم واحدة . ومع أن المتبادر من روح الآية أن الخطاب موجه في الدرجة الأولى إلى المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن ويتلقون ما جاء فيه نبراسا وهدى لهم ، وهم أهل الدعوة إلى تقوى الله فإن استعمال لفظ ( الناس ) لا يخلو من معنى جليل في صدد الدعوة إلى تقوى الله في الحقوق التي هي قدر مشترك بين جميع الناس الذي يتألف منهم المجتمع البشري . وبهذا كله تبدو الآية رائعة في أسلوبها ومداها .
ويلحظ أن في الآية تكرار لما ورد في سور سابقة في النزول من الإشارة إلى وحدة النفس الإنسانية وخلق زوجها منها ؛ حيث يمكن أن يلمح من هذا التكرار قصد توكيد التنويه الرباني بشأن بني آدم ومركزهم بين خلق الله والتذكير بما يوجبه عليهم هذا التوكيد من تقوى الله تعالى ، على اعتبار أنهم هم المكلفون بذلك على ما شرحناه في آخر سورة الأحزاب السابقة لهذه السورة في النزول . وهناك أحاديث نبوية عديدة في تعظيم حرمة الأرحام والنهي عن قطيعتها ؛ حيث يبدو من ذلك حكمة ما جاء في الآية من مناشدة الناس بالأرحام التي يتساءلون بها ووجوب تقوى الله فيها . من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي أيوب جاء فيه ( إن رجلا قال : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ؟ فقال : تعبد الله لا تشرك به شيئا . وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ){[489]}وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن يبسط الله رزقه ، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي جاء فيه ( ليس الواصل بالمكافئ . ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ) إن الرحم شجنة من الرحمان ، فقال الله : من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته . وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جبير ابن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.