التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النساء

في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة . تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم . وحلال الأنكحة ومحرماتها . والمواريث والعلاقة الزوجية . وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها . وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم . ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم . والتيمم وأحكام الجناية والنهي عن الصلاة في حالة السكر . وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين . وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية ؛ لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا . وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر . وواجب الحذر والاستعداد للعدو . والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين . وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك ، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين . وأحكام القتل الخطأ والعمد . ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف .

وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار .

وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم . وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء . وبيان حكمة الله في إرسال الرسل . وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه . وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم . وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية . ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى .

ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا . ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا . ومنها المستقل . ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب . ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها . وكل هذا يسوغ القول : إن هذه السورة ألفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها .

وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة{[1]} . ولعل ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع .

ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة ، فألحقت بها ؛ لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة . وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني . والله سبحانه وتعالى أعلم .

هذا ، ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله ابن مسعود قال : ( ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة ) وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا . وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر . وقد لاحظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا{[2]} وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس . ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا . والله تعالى أعلم .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ( 1 ) وَالأَرْحَامَ ( 2 ) إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( 1 ) }

( 1 ) تساءلون به : تتساءلون به ، وقرئت بتشديد السين والمعنى واحد . وهو الذي تناشدون وتستحلفون به بعضكم ؛ حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لأجل الاطمئنان باليقين : نشدتك بالله ، أو سألتك بالله .

( 2 ) الأرحام : هي على قول الجمهور معطوفة على محل ( به ) أي اتقوا الأرحام التي تناشدون وتستحلفون بها بعضكم ؛ حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لبعضهم : نشدتك بالرحم أو سألتك بالرحم إذا أرادوا أن يطلبوا مطلبا أو يستحلفوا أحدا . وقد يرد أن تكون معطوفة على الله بمعنى واتقوا الأرحام وقطيعتها .

تعليق على الآية الأولى من السورة .

عبارة الآية واضحة . والخطاب فيها موجه للناس يدعون فيه إلى تقوى الله الذي يناشد بعضهم به بعضا ، وتقوى الأرحام بمعنى حفظها وعدم قطيعتها وهي التي يناشد كذلك بعضهم بعضا بحقها . وينبهون فيه إلى أن الله رقيب عليهم محص لجميع أعمالهم . وهو الذي خلقهم من نفس واحدة ، ثم خلق منها زوجها وأخرج منها الكثير من الرجال والنساء .

ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية . والمتبادر أنها جعلت فاتحة السورة كبراعة استهلال لما احتوته من الأحكام والتشريعات المتعددة في حقوق النساء وذوي الأرحام ، فلكل من هؤلاء حقوق يجب على الناس تقوى الله ومراقبته فيها وأداؤها إلى أهلها . وعلى ذلك يقوم المجتمع البشري قويا مطمئنا . ويتوطد التعاطف والتعاون بين أفراده الذين هم أخوة من أب واحد وأم واحدة . ومع أن المتبادر من روح الآية أن الخطاب موجه في الدرجة الأولى إلى المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن ويتلقون ما جاء فيه نبراسا وهدى لهم ، وهم أهل الدعوة إلى تقوى الله فإن استعمال لفظ ( الناس ) لا يخلو من معنى جليل في صدد الدعوة إلى تقوى الله في الحقوق التي هي قدر مشترك بين جميع الناس الذي يتألف منهم المجتمع البشري . وبهذا كله تبدو الآية رائعة في أسلوبها ومداها .

ويلحظ أن في الآية تكرار لما ورد في سور سابقة في النزول من الإشارة إلى وحدة النفس الإنسانية وخلق زوجها منها ؛ حيث يمكن أن يلمح من هذا التكرار قصد توكيد التنويه الرباني بشأن بني آدم ومركزهم بين خلق الله والتذكير بما يوجبه عليهم هذا التوكيد من تقوى الله تعالى ، على اعتبار أنهم هم المكلفون بذلك على ما شرحناه في آخر سورة الأحزاب السابقة لهذه السورة في النزول . وهناك أحاديث نبوية عديدة في تعظيم حرمة الأرحام والنهي عن قطيعتها ؛ حيث يبدو من ذلك حكمة ما جاء في الآية من مناشدة الناس بالأرحام التي يتساءلون بها ووجوب تقوى الله فيها . من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي أيوب جاء فيه ( إن رجلا قال : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ؟ فقال : تعبد الله لا تشرك به شيئا . وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ){[489]}وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن يبسط الله رزقه ، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) . وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي جاء فيه ( ليس الواصل بالمكافئ . ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ) إن الرحم شجنة من الرحمان ، فقال الله : من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته . وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جبير ابن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[489]:التاج 5 ص 8ـ 10 وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم.