تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

مقدمة السورة:

[ وهي مدنية ]{[1]} قال العَوْفِي عن ابن عباس : نزلت سورةُ النساء بالمدينة . وكذا رَوَى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، وزيد بن ثابت ، ورَوَى من طريق عبد الله بن لَهِيعة ، عن أخيه عيسى ، عن عِكْرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حَبْس " {[2]} .

وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو البَخْتَرِي{[3]} عبد الله بن محمد شاكر ، حدثنا محمد بن بِشْر العَبْدي ، حدثنا مِسْعَر بن كِدَام ، عن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن في سورة النساء لخمسُ آيات ما يَسُرّني أن لي بها الدنيا وما فيها : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآية ، و{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية ، و { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } و { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } الآية ، و{ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه ، فقد اختلف في ذلك{[4]} .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من{[5]} النساء : لهن{[6]} أحب إلَيّ من الدنيا جَميعًا : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وقوله : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ{[7]} أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } رواه ابن جرير : ثم روى من طريق صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير{[8]} لهذه الأمة مما طَلَعت عليه الشمس وغربت ، أولاهن : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } والثانية : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا } والثالثة : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا } .

ثم ذكر قول{[9]} ابن مسعود سواء ، يعني في الخمسة{[10]} الباقية .

وروى الحاكم من طريق أبي نُعَيم ، عن سفيان بن عُيَيْنَة ، عن عبيد الله{[11]} بن أبي يزيد ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ؛ سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة النساء ، فإني قرأت القرآن وأنا صغير . ثم قال : هذا حديث{[12]} صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومُنَبّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهي حواء ، عليها السلام ، خلقت من ضِلعه الأيسر{[6518]} من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : خُلقَت المرأة من الرجل ، فجعل نَهْمَتَها في الرجل ، وخلق الرجل من الأرض ، فجعل نهمته في الأرض ، فاحبسوا نساءكم .

وفي الحديث الصحيح : " إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَج " {[6519]} .

وقوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } أي : وذَرَأ منهما ، أي : من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ، ونَشَرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر .

ثم قال تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ } أي : واتقوا الله بطاعتكم إياه ، قال إبراهيم ومجاهد والحسن : { الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ } أي : كما يقال : أسألك بالله وبالرَّحِم . وقال الضحاك : واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن بروها وصِلُوها ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع وغير واحد .

وقرأ{[6520]} بعضهم : { والأرحام } بالخفض على العطف على الضمير في به ، أي : تساءلون بالله وبالأرحام ، كما قال مجاهد وغيره .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } أي : هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ البروج : 9 ] .

وفي الحديث الصحيح : " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " {[6521]} وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ؛ ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [ واحد ]{[6522]} وأم واحدة ؛ ليعطفَ بعضهم على

بعض ، ويحننهم{[6523]} على ضعفائهم ، وقد ثبت في صحيح مسلم ، من حديث جَرِير بن عبد الله البَجَلي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مُضَر - وهم مُجْتابو النِّمار - أي من عُريِّهم وفَقْرهم - قام فَخَطَب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } حتى ختم الآية{[6524]} وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [ وَاتَّقُوا اللَّهَ ]{[6525]} } [ الحشر : 18 ] ثم حَضَّهم{[6526]} على الصدقة فقال : " تَصَدَّقَ رجُلٌ من دِينَاره ، من دِرْهَمِه ، من صَاعِ بُرِّه ، صَاعِ تَمْره . . . " وذكر تمام الحديث{[6527]} .

وهكذا رواه{[6528]} الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خُطْبَة الحاجة{[6529]} وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ]{[6530]} } الآية .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
[8]:في د: "أن يعذب".
[9]:في د: "اللهم إني أعوذ بك".
[10]:في د: "لا يحتسبون".
[11]:في د: "وجلس".
[12]:في د: "فإذا هو بسمكة".
[6518]:في جـ، ر، أ: "الأقصر".
[6519]:رواه مسلم في صحيحه برقم (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6520]:في أ: "وقال".
[6521]:رواه بهذا اللفظ الطبراني في المعجم الكبير والحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في التهذيب (3/106) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ولعل الحافظ ابن كثير يقصد بهذا الحديث حديث جبريل الطويل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (28)، وفيه "أخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
[6522]:زيادة من جـ، ر، أ.
[6523]:في ر: "وتحننهم".
[6524]:في جـ، ر، أ: جاءت الآية كاملة.
[6525]:زيادة من جـ، أ.
[6526]:في جـ، أ: "حثهم".
[6527]:صحيح مسلم برقم (1017).
[6528]:في جـ، ر، أ: "روى".
[6529]:المسند (4/358).
[6530]:زيادة من جـ، ر، أ.