سورة الأنفال نزلت بالمدينة ، وهي تشتمل على خمس وسبعين آية ، وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة بعض أحكام القتال ، والبواعث عليه ، وأسباب النصر ، ومقام القوة المعنوية في الانتصار ، وأحكام غنائم الحرب ، ومتى يكون الأسر ، واجتمع فيها الحكم الشرعي بحكمته ، وهي تذكر قصة غزوة بدر ، وبعض ما كان قبلها ، وما جاء في أعقابها من الإشارة إلى سببها ؛ وهو إخراج المشركين للنبي من مكة . ويذكر سبحانه فيها الاستعداد للحرب ، ووجوب السلم إن جنحوا لها . وتختم السورة الكريمة ببيان ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ، ووجوب هجرة المؤمنين من أرض يستذلون فيها ليجاهدوا مع أوليائهم من المؤمنين في سبيل عزة الإسلام وعزتهم .
1- أُخرج النبي من مكة مهاجراً بسبب مكر المشركين وتدبيرهم أمر قتله ، وليكون للمسلمين دولة ، واستقر بالمدينة حيث النصرة ، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء ، لكيلا يُفتَنَ أهل الإيمان ، فكانت غزوة بدر الكبرى ، وكان فيها النصر المبين والغنائم ، وكان وراء الغنائم بعض الاختلاف والتساؤل في توزيعها . يسألونك عن الغنائم : ما مآلها ؟ ولمن تكون ؟ وكيف تقسم ؟ فقل لهم - أيها النبي - : إنها لله والرسول ابتداء ، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها ، فاتركوا الاختلاف بشأنها ، واجعلوا خوف الله وطاعته شعاركم ، وأصْلحوا ما بينكم ، فاجعلوا الصِّلاتِ بينكم محبة وعدلا ، فإن هذه صفة أهل الإيمان .
مدنية ، وهي خمس وسبعون آية . قيل : إلا سبع آيات من قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } إلى آخر سبع آيات ، فإنها نزلت بمكة . والأصح أنها نزلت بالمدينة ، وإن كانت الواقعة بمكة .
قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال }الآية .
قال أهل التفسير : سبب نزول هذه الآية ، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر من أتى مكان كذا فله من النفل كذا ، ومن قتل قتيلاً فله كذا فلما التقوا تسارع إليه الشبان ، وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات ، فلما فتح الله على المسلمين ، جاؤوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الأشياخ : كنا ردءاً لكم ولو انهزمتم لانحرفتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا ، وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال : يا رسول الله إنك وعدت من قتل قتيلاً فله كذا ومن أسر أسيراً فله كذا وإنا قد قتلنا منهم سبعين وأسرنا منهم سبعين ، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال : والله يا رسول الله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء لا زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو ، ولكن كرهنا أن تعرى مصافك فيعطف عليك خيل من المشركين فيصيبونك ، فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال سعيد : يا رسول الله إن الناس كثير والغنيمة دون ذلك ، فإن تعط هؤلاء الذين ذكرت لا يبقى لأصحابك شيء ، فنزلت : { يسألونك عن الأنفال } .
وقال ابن إسحاق : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في العسكر ، فجمع ، فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل كل امرئ ما أصاب . وقال الذين كانوا يقاتلون العدو : لولا نحن ما أصبتموه ، وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأينا أن نقتل العدو ، وأن نأخذ المتاع ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو ، وقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منا .
وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، قال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل . وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا عن بواء . يقول : على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله ، وصلاح ذات البين . وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : { لما كان يوم بدر قتل أخي عمير ، وقتلت سعيد بن العاص ابن أمية ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكثيفة ، فأعجبني ، فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف ، فقال : " ليس هذا لي ولا لك ، اذهب فاطرحه في القبض " ، فطرحته ورجعت ، وبي مالا يعلمه إلا الله ، من قتل أخي ، وأخذ سلاحي ، وقلت : عسى أن يعطى هذا السيف من لم يبل ببلائي ، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أنزل الله عز وجل : { يسألونك عن الأنفال } الآية . فخفت أن يكون قد نزل في شيء ، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي الآن ، فاذهب فخذه فهو لك " .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت المغانم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء ، وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرةً ، أو سلكاً ، فهو غلول . قوله : { يسألونك عن الأنفال } أي : عن حكم الأنفال وعلمها ، وهو سؤال استخبار لا سؤال طلب ، وقيل : هو سؤال طلب ، قاله الضحاك وعكرمة . وقوله : { عن الأنفال } أي : من الأنفال ، عن بمعنى من . وقيل : ( عن ) صلة ، أي : يسألونك الأنفال ، وهكذا قراءة ابن مسعود بحذف عن . والأنفال : الغنائم ، واحدها : نفل ، وأصله الزيادة ، يقال : نفلتك وأنفلتك ، أي : زدتك ، سميت الغنائم أنفالاً : لأنها زيادة من الله تعالى لهذه الأمة على الخصوص . وأكثر المفسرين على أن الآية في غنائم بدر ، وقال عطاء : هي ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال ، من عبد ، أو أمة ، أومتاع ، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما شاء .
قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } يقسمانها كما شاءا . واختلفوا فيه ، فقال مجاهد وعكرمة ، والسدي : هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } الآية . كانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم فنسخها الله عز وجل بالخمس . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي ثابتة غير منسوخة ، ومعنى الآية : قل الأنفال لله مع الدنيا والآخرة وللرسول يضعها حيث أمره الله تعالى ، أي : الحكم فيها لله ولرسوله ، وقد بين الله مصارفها في قوله عز وجل : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول }الآية .
قوله تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ، أي : اتقوا الله بطاعته ، وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة ، وتسليم أمر الغنيمة إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم .
1 - 4 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
الأنفال هي الغنائم التي ينفلها اللّه لهذه الأمة من أموال الكفار ، وكانت هذه الآيات في هذه السورة قد نزلت في قصة بدر أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين ، . فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع ، فسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنها ، فأنزل اللّه يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَال كيف تقسم وعلى من تقسم ؟
قُلْ لهم : الأنفال لله ورسوله يضعانها حيث شاءا ، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله ، . بل عليكم إذا حكم اللّه ورسوله أن ترضوا بحكمهما ، وتسلموا الأمر لهما ، . وذلك داخل في قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . .
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أي : أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر ، بالتوادد والتحاب والتواصل . . فبذلك تجتمع كلمتكم ، ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع -من التخاصم ، والتشاجر والتنازع .
ويدخل في إصلاح ذات البين تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء والتدابر ، . والأمر الجامع لذلك كله قوله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله ، . كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن .
والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه .
وبعد فهذا تفسير لسورة الأنفال أسأل الله –تعالى- أن يجعله خالصاً لوجهه ونافعاً لعباده إنه سميع مجيب .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
1- سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف . فقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية ، ثم جاءت بعد سورة الفاتحة أربع سور مدنية ، هن أطول السور المدنية في القرآن الكريم ، وهن سور : البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، سورتا الأنعام والأعراف . ثم جاءت سورة الأنفال بعد ذلك ، فكانت الثامنة في ترتيب المصحف .
2- وعدد آياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي ، وست وسبعون في الحجازي ، وسبع وسبعون في الشامي .
3- وقد سميت سورة الأنفال بهذا الاسم ، لحديثها عن الأنفال أي الغنائم في أكثر من موضع .
وقط أطلق عليها بعض الصحابة سورة بدر ، فقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عنها فقال : تلك سورة بدر( {[1]} ) .
4- وسورة الأنفال كلها مدنية ، وممن قال بذلك : زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وعطاء بن أبي رباح والحسن ، وعكرمة .
قال صاحب المنار : وقيل إنها مدنية إلا آية " 64 " وهي قوله –تعالى- : [ يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ] فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب ، فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام ، وروى عن مقاتل استثناء قوله –تعالى- [ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك ] . . . " الآية " 30 " ؛ لأن موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة ، بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر بقصد الهجرة وباتا في الغار ، وهذا استنباط من المعنى ، وهو استنباط يرده ما صح عن ابن عباس من أن الآية نفسها نزلت في المدينة .
وزاد بعضهم استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية ، وهي قوله –تعالى- : [ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا ] . . إلى قوله : [ بما كنتم تكفرون ] " الآيات من " 31-35 " ؛ لأن موضوعها حال كفار قريش في مكة ، وهذا لا يقتضي نزولها في مكة ، بل ذكَّر الله بها رسوله بعد الهجرة ، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني " ( {[2]} ) .
والذي ترتاح إليه النفس أن سورة الأنفال جميعها مدنية ، وأن ما في بعض آياتها من أوصافٍ لأحوال المشركين في مكة قبل الهجرة لا يعني كون هذه الآيات مكية ؛ لأن هذه الآيات إنما هي من باب تذكير الرسول وأصحابه بما كان عليه أولئك القوم من عتاد ومكابرة وانحراف عن الطريق القويم ، أدى بهم إلى الهزيمة في بدر وفي غيرها من المعارك التي كان النصر فيها للمؤمنين .
5- وقد ذكر بعض المفسرين –ومنهم الزمخشري- أن سورة الأنفال نزلت بعد سورة البقرة ، ولعل مرادهم بذلك أن نزولها كان بعد نزول بعض الآيات من سورة البقرة ، لأنه من المعروف أن سورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما ابتدأ نزولها بعد الهجرة ، ثم امتد هذا النزول لآياتها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمدة قصيرة .
6- قال الآلوسي : ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن سورة الأعراف فيها [ خذ العفو وأمر بالمعروف . . . ] وفي هذه –أي الأنفال- كثير من أفراد المأمور به ، وفي الأعراف ذكر قصص الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم ، وفي هذه ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه .
وقد فصل –سبحانه- في تلك –قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال : [ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم . . . ] .
وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله –تعالى- [ وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها . . . ] وصرح بذلك هنا إذ يقول . . . [ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا . . . ] إلى غير ذلك من المناسبات .
ثم قال الآلوسي : " والظاهر أن وضعها هنا توقيفي ، وكذا وضع براءة بعدها ، وإلى ذلك ذهب غير واحد . . . " ( {[3]} ) .
والحق أنه بمطالعتنا لما يقوله الآلوسي وغيره من المفسرين في بيان وجه مناسبة السورة للتي قبلها ، نرى أن هذه الأقوال لا تخلو من تكلف ، وأن كثيراً مما ذكروه من مناسبات بين سورتين معينتين لا يختص بهما ، بل هو موجود فيهما وفي غيرهما .
فالآلوسي –مثلاً- يجعل من وجوه مناسبة الأنفال للأعراف أن الأعراف فيها [ وأمر بالعرف ] . وأن الأنفال فيها كثير من أفراد المأمور به . .
وهذا المعنى نراه في كثير من السور المتتالية ، فسورة آل عمران –مثلاً- من بين آياتها قوله –تعالى- : [ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . . ]( {[4]} ) .
وسورة النساء –التي بعدها- فيها –أيضاً- كثير من أفراد المأمور به ؛ لأن الأمر بالمعروف من الدعائم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي .
والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي ، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها .
7- وسورة الأنفال عندما نتأمل ما اشتملت عليه من آيات ، نراها تحدثنا –في مجموعها- عن غزوة بدر ، فتعرض أحداثها الظاهرة ، كما تعرض بشارات النصر فيها ، وتكشف عن قدرة الله وتدبيره في وقائع هذه الغزوة الحاسمة ، وتبين كثيراً من الإرشادات والتشريعات الحربية التي يجب على المؤمنين اتباعها حتى ينالوا النجاح والفلاح .
أخرج البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر( {[5]} ) :
( أ ) لقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن قسمة الأنفال أي –الغنائم- مردها إلى الله ورسوله ، وأن على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم صلى الله عليه وسلم ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف ، وبشرتهم بأسمى المنازل ، وأرفع الدرجات .
قال –تعالى- : [ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ] .
( ب ) وبعد هذا الحديث الطيب عن أوصاف المؤمنين الصادقين ، تبدأ السورة في الحديث عن حال بعض الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر ، لأنهم لم يخرجوا من أجله وإنما خرجوا من أجل الحصول على التجارة التي قدم بها مشركو قريش من بلاد الشام لكن الله –تعالى- أراد أن يعلمهم وغيرهم أن الخير فيما قدره ، لا فيما يقدرون ويريدون .
استمع إلى السورة الكريمة بتأمل وتدبر وهي تصور هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فنقول .
[ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ] .
( ج ) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألواناً من البشارات التي تُشعِر المؤمنين بأن الله –تعالى- قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه –سبحانه- سيجعل النصر في هذه المعركة حليفاً لهم .
ومن مظاهر هذه البشارات أن الله –تعالى- أمدهم بألف من الملائكة مردفين ، وأمدهم بالنعاس ليكون مصدر طمأنينة لقلوبهم ، وأمدهم بمياه الأمطار ليتطهروا بها ، ولتثبت الأرض من تحتهم ، وأمدهم قبل ذلك وبعده بعونه الذي جعلهم يقبلون على قتال أعدائهم بقلوب ملؤها الإقدام والشجاعة .
قال –تعالى- : [ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ] .
( د ) ثم وجهت السورة الكريمة خمسة نداءات إلى المؤمنين ، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم .
فقد أمرتهم في النداء الأول بالثبات في وجوه أعدائهم ، ونهتهم عن الفرار منهم ، وهددت من يوليهم دبره بسوء المصير ، وأخبرتهم بأن الله معهم ما داموا معتمدين عليه ، ومستجيبين لما يدعوهم إليه .
وأمرتهم في النداء الثاني بطاعة الله ورسوله ، وحذرتهم من المعصية ، ومن التشبه بالكافرين الذين " قالوا سمعنا وهم لا يسمعون "
وأمرتهم في النداء الثالث بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم ، وخوفتهم من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم ، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا المنكر فلم يعملوا على تغييره .
ونهتهم في النداء الرابع عن خيانة الله ورسوله ، أي : عن ترك فرائض الله وعن هجر سنة رسوله . . وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة الله وعن أداء واجباته .
ثم بشرتهم في النداء الخامس بأنهم إذا ما اتقوا الله حق تقاته ، فإنه –سبحانه- سيرزقهم الهداية والنصر والنجاة من كل مكروه .
تدبر معي –أخي القارئ- هذه النداءات ، وما اشتملت عليه من توجيهات سامية وإرشادات عالية ، حيث يقول –سبحانه- :
[ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ] . .
[ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ] . .
[ يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ] . .
[ يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ] . .
( ه ) ثم أخذت السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ليزدادوا له شكراً ، وفي تصوير ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران .
فحكت ما قالوه في شأن القرآن من كذب ومكابرة .
وحكت استهزاءهم بالدين ، وإمعانهم في الجحود ، وتعجلهم للعذاب . .
وحكت ما كانوا يقومون به من تصفيق ولغو عند قراءة القرآن ، حتى يشغلوا الناس عن سماعه . .
وحكت مسارعتهم إلى إنفاق أموالهم ، لا في وجوه الخير ، ولكن في وجوه الشر التي ستكون عاقبتها الخسران وسوء المصير .
وبعد أن حكت كل هذه الرذائل عن الكافرين ، أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم ، فإن الله –تعالى- سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم . أما إذا استمروا في طغيانهم وجحودهم ، فستدور الدائرة عليهم .
قال –تعالى- : [ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين . وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا ، لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إن هذا إلا أساطير الأولين . وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو اثتنا بعذاب أليم . وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ] .
( و ) وبعد أن افتتحت السورة الكريمة بالحديث المجمل عن الغنائم وساقت في أعقابه ما ساقت من توجيه وإرشاد وترغيب وترهيب .
بعد كل ذلك عادت السورة إلى الحديث عن الغنائم ، ففصلت ما أجملته في مطلعها ، وذكَّرت المؤمنين بنعم أخرى منحهم الله إياها في بدر .
ومن ذلك : أنه –سبحانه- هيأ لهم المكان المناسب لقتال أعدائهم ، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين بدون موعد سابق . . وقلل كل فريق في عين الآخر ليقضي –سبحانه- قضاءه النافذ . .
قال –تعالى- : [ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير . إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ] .
( ز ) ثم يأتي بعد ذلك النداء السادس والأخير للمؤمنين ، فيأمرهم –سبحانه- فيه بالثبات عند لقائهم لأعدائهم ، وبالإكثار من ذركه ، وبالطاعة التامة له ولرسوله ، وبالابتعاد عن التنازع والاختلاف .
ثم ينهاهم عن التشبه بالمرائين ، والمتكبرين ، والمغرورين ، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم –ولكنه عندما تراءى الجمعان نكص على عقبيه- والذين سيكون مصيرهم الهزيمة في الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة بسبب كفرهم بآيات الله ، وإيثارهم الضلالة على الهداية .
قال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون . وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورثاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط . وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ] .
( ح ) ثم تمضي السورة الكريمة في تصوير رذائل الكافرين ، وفي تشجيع المؤمنين على قتالهم ، وإعداد العدة لدحرهم وتشريدهم ما داموا مستمرين على كفرهم وخيانتهم . . ، فإن جنحوا للسلم . ومالوا إلى المصالحة والمهادنة فاقبل منهم ذلك –أيها الرسول الكريم ، واحترس من خداعهم وغدرهم ، وحرض أتباعك على قتالهم بصبر وجلد .
قال –تعالى- : [ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا لا يؤمنون ، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ] .
( ط ) ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن أسرى غزوة بدر من المشركين فبينت ما كان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في شأنهم ، وعاتبتهم لإيثارهم أخذ الفداء على ما عند الله من ثواب عظيم ، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه ، فإنه حلال طيب ، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق ، وأن يخبرهم بأنهم متى آمنوا ظفروا بخير الدنيا والآخرة . .
تأمل معي –أخي القارئ- هذه الآيات الكريمة التي ساقتها السورة في هذا المعنى .
[ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم . يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ] .
( ي ) وإذا كانت السورة قد تحدثت في أوائلها عن صفات المؤمنين . . الصادقين ، وعن حال الذين كرهوا الخروج إلى القتال في بدر . . فإنها قد تحدثت في ختامها –أيضا- عن أصناف المؤمنين . . فمدحت المهاجرين السابقين ، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا ، لأنهم قد اشتركوا جميعاً في بذل أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله . . ثم بينت ما يجب عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا ، بل ظلوا في أرض الشرك . ثم مدحت المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية – وإن كانوا أقل في الدرجات من المهاجرين السابقين .
قال –تعالى- : [ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ، والذين آمنوا ولم يهاجر ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعلمون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم ] .
8- هذا عرض مجمل لما اشتملت عليه سورة الأنفال من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وتشريعات حكيمة . . .
ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي :
( 1 ) تربية المؤمنين على العقيدة السليمة ، وعلى الطاعة لله ولرسوله . وإصلاح ذات بينهم ، والثبات في وجه أعدائهم ، والإكثار من التقرب إلى خالقهم ، والمداومة على مراقبته وخشيته وشكره ، فهو الذي هداهم للإيمان ، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات . . بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض .
ولقد أفاضت السورة في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا –في أعقاب اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم- فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في القلوب حتى تستمر على طاعة الله ورسوله ، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم والخير الباقي . .
( ب ) تذكير المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد ، وبما كان منهم من مكر برسولهم صلى الله عليه وسلم ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله ، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلاً لاستحواذ الشيطان عليهم . . .
وهذا التذكير قد تكرر كثيراً في سورتنا هذه ، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم ، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء ، وما يبيتونه لهم من سوء وشر .
( ج ) إرشاد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم ، لأنه متى ساروا عليه حالفهم النصر ، وصاحبهم التوفيق .
ففي حالة الحرب : أمرتهم السورة الكريمة بأن يعدوا لأعدائهم كل ما يستطيعون من قوة . وأن يبذلوا أموالهم بسخاء من أجل نصرة الحق . . وأن يقاتلوا خصومهم بشجاعة وإقدام ، وأن يكثروا من التقرب إلى الله بصالح الأقوال والأعمال –خصوصاً في مواطن القتال- . . وأن يجعلوا غايتهم في قتالهم إحقاق الحق وإبطال الباطل [ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . . ] .
وأن يؤثروا السلم على الحرب متى وجد السبيل إليه ، فإن السلم هو الأصل أما الحرب فهي أمر لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها . . أما في حالة سلمهم : فقد أمرتهم السورة الكريمة بالتآخي والتناصر والتواد والتراحم والتصالح . . ونبذ التنازع والتخاصم والاختلاف والبطر .
كما أمرتهم بتقوى الله وبإيثار ما عنده من ثواب وأجر على الأموال والأولاد .
قال –تعالى- : [ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ] .
وهناك موضوعات أخرى تعرضت لها السورة :
كحديثها عن الغنائم ، وعن الأسرى ، وعن المعاهدات ، وعن أحداث غزوة بدر ، وعن الشاعر التي تحركت في نفوس بعض المشتركين فيها قبل أن تبدأ المعركة وخلالها وبعدها .
وقد ساقت السورة الكريمة كل ذلك بأسلوب يهدي القلوب ، ويشرح الصدور ، ويرشد الناس إلى مواطن عزهم وسعادتهم .
هذا ، ونرى من المناسب –أخي القارئ- أن نختم هذا العرض المجمل لسورة بدر –كما سماها ابن عباس- بتلخيص لقصة هذه الغزوة لنتنسم الجو الذي نزلت فيه هذه السورة ، ولندرك مرامي النصوص فيها . . لأننا نعتقد أن ما يعين على فهم الآيات القرآنية فهماً قويماً مستتيراً ، أن يكون القارئ أو المفسر لها ملماً بأسباب نزولها وبالجو التاريخي الذي نزلت فيه ، وبالأحداث التي لابست نزولها . . بجانب إلمامه بمدلولاتها اللغوية والبيانية . .
قال الإمام ابن هشام عند حديثه عن " غزوة بدر الكبرى " ( {[6]} ) .
قال ابن إسحاق : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة . . ندب المسلمين إليها وقال : " هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها " فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً .
وكان أبو سفيان –حين دنا من الحجاز- يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان : تخوفاً على أمر الناس –أي : على أموالهم التي معه في القافلة حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمر الغفاري فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة .
فلما وصلها أخذ يصرخ ببطن الوادي . . ويقول يا معشر قريش : اللطيمة اللطيمة –أي : العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب . . - أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها . الغوث الغوث .
فتجهز الناس سراعاً وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً ، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد .
- خرجوا بالقيان والدفوف يغنين في كل منهل ، وينحرون الجزر ، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً ، وقادوا مائة فرس ، عليها مائة درع سوى درع المشاة ، وكان إبلهم سبعمائة بعير .
قال ابن إسحاق : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه : واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس ، واستعمل على المدينة أبا لبابة . . ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير .
وكان إبل المسلمين يومئذ سبعين بعيراً ، فاعتقبوها –أي كانوا يركبونها بالتعاقب- وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ .
وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة ، ثم على العقيق ، ثم على ذي الحليفة . . ثم نزل قريباً من بدر . . وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال وأحسن . ثم قام عمر بن الخطب فقال وأحسن . ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : [ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك لأنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا .
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله : لقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، وإنا لصُبُر في الحرب صُدُق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله .
ففرح –رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد . .
ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله –تعالى- قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم .
قال ابن إسحاق : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر فسارا حتى وقفا على شيخ من العرب . فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم ، فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك . قال : أذاك بذاك ؟ قال : نعم ، قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون .
وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرني صدقني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي فيه قريش .
فلما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء ، ثم انصرف عنه .
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فلما أمسى أرسل بعضهم إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له . . فأصابوا ساقيين لقريش فأتوا بهما . . فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أخبراني عن قريش .
قالا : هم والله وراء الكثيب الذي نرى بالعدوة القصوى .
فقال لهما : كم القوم ؟ قالا كثير قال : ما عددهم ؟ قالا لا ندري قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً . فقال : القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، وأمية بن خلف . . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها . .
قال ابن إسحاق : ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله فارجعوا . فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، فنقيم عليه ثلاثة ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها .
وقال الأخنس بن شريق لبني زهرة ، يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم فارجعوا فرجعوا فلم يشهد غزوة بدر زهري واحد .
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي : وبعث الله السماء بالماء فأصاب المسلمون منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشاً منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء ماء نزل به . .
فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله ؟ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والمكيدة والحرب ؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل هو الرأي والمكيدة والحرب .
فقال الحباب يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ، ثم نغور ما وراءه من القُلُب –أي : ثم نغطي ما خلفه من الآبار- ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أشرت بالرأي " ثم نهض ومعه الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء . ثم قال سعد بن معاذ يا رسول الله ، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا . كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا . فقد تخلف عنك أقوام –يا نبي الله- ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك .
فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير ، ثم بنى لرسول الله عريش فكان فيه .
ثم ارتحل قريش حين أصبحت ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمة من الكثيب إلى الوادي قال : " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني . اللهم احثهم الغداة " .
ثم أرسلت قريش عمير بن وهب الجمحي فقالوا له : احزر لنا أصحاب محمد ، فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً . .
ولقد رأيت –يا معشر قريش- البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت النافع . قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم . والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ، فرَوْا رأيكم .
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها ، فهل لك إلى أن تفعل شيئاً تذكر به بخير إلى آخر الدهر ؟ فقال عتبة : وما ذاك يا حكيم ؟
قال : ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي . . .
قال عتبة : قد فعلت . . قم قام عتبة خطيباً في الناس فقال :
يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه . قتل ابن عمه أو ابن خاله . . فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ؛ فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون . .
وبلغ كلام عتبة أبا جهل فسبه . . ثم بعث أبو جهل إلى ابن الحضرمي فقال له : هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك –أي : فقم فاطلب من الناس الوفاء بالعهد والأخذ بثأر أخيك . .
فقام ابن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ : واعمراه ، واعمراه ، فحميت الحرب ، واشتد أمر الناس ، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد أبو جهل الرأي الذي دعا عتبة الناس إليه . .
قال ابن إسحاق : ثم خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي –وكان شرساً سيئ الخلق- فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه فلما دنا منه خرج إليه حمزة بن عبد المطلب . فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه –أي أطارها- وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه . ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، فضربه حمزة حتى قتله في الحوض . .
ثم خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة . . فنادى يا محمد : أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يا عبيدة وقم يا حمزة وقم يا علي . . أما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه –أي : جرحه جرحاً شديداً لا يملك معه الحركة- وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه ، واحتملا عبيدة فحازاه إلى أصحابه .
قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله الناس أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : " إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل " . . .
ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش فدخله –ومعه أبو بكر الصديق . . وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويقول فيما يقول : " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، وأبو بكر يقول : يا رسول الله بعض مناشدتك ربك ، فإن ا لله منجز لك ما وعدك " .
ثم خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فقال : " أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله . هذا جبريل آخذ بعنان فرس . . يقوده على ثناياه النقع " –أي الغبار .
وكان قد رمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل ، فكان أول قتيل . . من المسلمين .
ثم رمى حارثة بن سراقة وهو يشرب من الحوض بسهم فقتل .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال : " والذي نفس محمد بيده . لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسباً ، مقبلاً غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة " . .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشاً بها ، ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال : " شدوا " فكانت الهزيمة فقتل الله –تعالى- من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم . .
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ! " .
فقال سعد : أجل والله يا رسول الله ؟ كانت هذه أول موقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال . .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يومئذ : " إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً ، ولا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البحتري فلا يقتله . .
قال ابن إسحاق : -وبعد انتهاء المعركة- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن يطرحوا في القليب فلما طرحوا وقف عليهم فقال : " بئس العشيرة كنتم لنبيكم- يا أهل القليب- لقد كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس " .
ثم قال : " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً " فقال المسلمون : يا رسول الله ! أتنادي قوماً قد جَيَّفوا ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني " .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع ، فاختلف فيه المسلمون ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو . . : والله لولا نحن ما أصبتموه . .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشر أهل المدينة بنصر الله لهم على المشركين .
ثم فرق الرسول صلى الله عليه وسلم الأسرى من المشركين بين أصحابه وقال لهم :
قال ابن إسحاق : وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له : ما وراءك ؟ فقال ، قتل عتبة ، وشيبة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف . . فلما جعل يعدد أشراف قريش الذين قتلوا ، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر : والله إن يعقل هذا فاسألوه عني ! ! فقالوا له : ما فعل صفوان بن أمية ؟ فقال : ها هو ذاك في الحجر ، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا . .
ولما قدم أبو سفيان بن الحارث قال له أبو لهب : هلم إلى ، فعندك لعمري الخير ! ! فجلس إليه الناس قيام عليه فقال له أبو لهب : يا بن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ؟
فقال أبو سفيان : والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا . ويأسروننا كيف شاءوا . .
أما بعد : فهذا ملخص لغزوة بدر سقناه قبل البدء في التفسير التحليلي لسورة الأنفال ، وقصدنا من ذكر هذا الملخص لهذه الغزوة الحاسمة : أن نتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة –كما سبق وأشرنا- وأن نستعين به على فهم الآيات فهما واضحاً مستنيراً . .
لأن سورة الأنفال هي سورة بدر كما سماها ابن عباس –رضي الله عنه- وفي ختام هذا التعريف بسورة الأنفال ، نسأل الله –تعالى- أن يوفقنا لتفسير آياتها تفسيرا واضحاً مقبولاً ، بعيداً عن الانحراف . محرراً من لغو القول وباطله . .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
لعل من الخير قبل أن نتكلم في تفسير هذه الآيات الكريمة أن نذكر بعض الروايات التي وردت في سبب نزولها . فإن معرفة سبب النزول يعين على الفهم السليم .
قال الإِمام ابن كثير - ما ملخصه - روى الإِمام أحمد بن عبادة بن الصامت قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرا فالتقى الناس . فهزم الله - تعالى - العدو ، فانطلقت طائفة في آثام يهزمون ويقتلون . وأقبلت طائفة على العسكر يجوزونه ويجمعونه . وأحدثت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكى لا يصيب العدو منه غرة . حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لستم أحق بها منا . نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم مخافة أن صيب منه غرة فاشتغلنا به - فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } . . فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين .
وروى أبو داود والنسائى وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - عن ابن عباس قال : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقى الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم . فقال الشيوخ : لا تسأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم ، لو انكشفتم لبثتم إينا . فتنازعوا ، فأنزل الله - تعالى - : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } " .
وقال الثورى ، عن الكلبى ، عن أبى صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " ، فجاء أبو اليسر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليك - أنت وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شئ ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك . فتشاجروا ، ونزل القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } " .
وقال الإِمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبى أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدنا وجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقسمه بين المسلمين عن بواء - أى : على السواء .
هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، ومنها يتبين لنا أن نزاعاً حدث بين بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، حول الغنائم التي ظفروا بها من هذه الغزوة ، فأنزل الله - تعالى - في هذه الآيات بيان حكمه فيها .
والضمير في قوله { يَسْأَلُونَكَ } يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأن السورة نزلت في هذه الغزوة ، ولأن هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها ، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها .
قال الإِمام الرازى - ما ملخصه - : فإن قيل من هم الذين سألوا ؟ فالجواب : إن قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } إخبار عمن لم يسبق ذكرهم ، وحسن ذلك ههنا ، لأنه في حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً فانصرف اللفظ إليهم . ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال ، وهم أقوام من الصحابة اشتركوا في غزوة بدر .
والأنفال جمع نفل - بفتح النون والفاء - كسبب وأسباب - وهو في أصل اللغة من النفل - بفتح فسكون - أى : الزيادة ، ولذا قيل للتطوع نافلة ، لأنه زيادة عن الأصل وهو الفرض وقيل لولد الولد نافلة ، لأنه زيادة على الولد . قال - تعالى - : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قال الآلوسى : ثم صار النفل حقيقة في العطية ، لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كان زيادة ، ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإِمام للغازى زيادة على سهمه لرأى يراه سواء أكان لشخص معين أو لغير معين ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإِمام لمن صدر منه اثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام ، وغيرهما .
وإطلاقه على الغنيمة ، باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله ، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة ، أو باعتبار أنها منحة من الله - تعالى - من غير وجوب .
ثم قال : ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص . فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء أكان بتعب أو بغير تعب ، قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما كان قبل الظفر ، أو ما كان بغير قتال وهو " الفئ " .
والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما ورى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وطائفة من الصحابة وغيرهم .
هذا ، وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأنفال - أي الغنائم - إنما هو حكمها وعن المستحق لها ، فيكون المعنى :
يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ؟ ومن المستحق لها ؟ قل لهم : الأنفال يحكم فيها بحكمه - سبحانه - وللرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها .
وفى هذه الإِجابة على سؤالهم تريبة حكيمة لهم - وهم في أول لقاء لهم مع أعداءهم حتى يجعلوا جهادهم من أجل إعلاء كملة الله . أما الغنائم والأسلوب وأعراض الدنيا التي تأتيهم من وراء جهاده فعليهم ألا يجعلوها ضمن غايتهم السامية من جهادهم ، وأن يفوضوا الأمر فيها لله ورسوله عن إذعان وتسليم .
وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء ، وأن المراد بالأنفعال ما شرط للغازى زيادة على سهمه ، وأن حرف " عن " زائدة ، أو هو بمعنى من ، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفعال التي وعدتهم بها زايدة على سهامهم فيها . قل لهم : الأنفال لله ولرسوله .
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح وذلك لأمور منها :
1- بعض الروايات التي وردت في أسباب نزول هذه الآية تؤيده تأييداً صريحاً ، ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن عبادة بن الصامت أنه قال : " فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا . فجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء " .
2- ولأن غزوة بدر كانت أول غزوة لها شأنها وأثرها بين المسلمين والكافرين ، وكانت غنائهما الضخمة التي ظفر بها المؤمنون من المشركين ، حافزاً لسؤال بعض المؤمنين رسولهم - صلى الله عليه وسلم -عن حكمها وعن المستحق لها .
3- ولأن الجواب عن السؤال بقوله - تعالى - : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } يؤيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن مصرفها ، إذ أن هذا الجواب يفيد أن اختصاص أمرها وحكمها مرجعه إلى الله ورسوله دون تدخل أحد سواهما .
ولو كان السؤال للاستعطاء لما كان هذا جواباً له ، فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله والرسول لا ينافى إعطاءه إياهم بل يحققه ، لأنهم إنما يسألونه بموجب شطره لهم الصادر عنه بإذن الله - تعالى - لا بحكم سبق أيديهم إليهم أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور .
4- ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ . . } إلخ يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال ومصرفها بعد أن تنازعوا في شأنها ، فهو - سبحانه - ينهاهم عن هذا التنازع ، وبأمرهم بأن يصونوا أنفهسم عن كل ما يغضب الله . . . ولو كان السؤال للاستعطاء - بناء على ما شرطه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض زيادة على سهامهم - لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه ، لأنهم لم يطلبوا من الرسول إلا ما وعدهم به وهذا لا محظور فيه .
5- ولأن الآية الكريمة بمطوقها الواضح ، وبتركيبها البليغ ، وبتوجيهها السامى ، تفيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن المستحق لها . . أما القول بأن السؤال سؤال استعطاء وأن عن زائدة أو بمعنى من فهو تكلف لا ضرورة إليه .
والمعنى الواضح الجلى للآية الكريمة - كما سبق أن بينا - : يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ، ومن المستحق لها ؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ، ولرسوله يقسمها بحسب حكم الله فيها ، فهو - سبحانه - العليم بمصالح عباده ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وحه الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } ؟
قلت : معناه أن حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، و يمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأى أحد ، والمراد : " أن الذي اقتضته حكمته الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافى " .
وقوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حض لهم على تقوى الله وامتثال أمره ، وإصلاح ذات بينهم ، وتحذير لهم من الوقوع في المعاصى والنزاع والخلاف .
وكلمة { ذَاتَ } بمعنى حقيقة الشئ ونفسه . ، ولا تستعمل إلا مضافة إلى الظاهر ، كذات الصدور ، وذات الشوكة .
وكلمة { بِيْنِكُمْ } ، من البين ، وهو مصدر بان يبين بيناً ، متى بعد ، ويطلق على الاتصال والفراق ، أى : على الضدين ، ومنه قول الشاعر :
فوالله لولا البين لم يكن الهوى . . . ولولا الهوى ما حس للبين آلف
أى : فاتقوا الله - أيها المؤمنون - ، واصلحوا نفس ما بينكم وهى الحال والصفة التي بينكم والتى تربط بعضكم ببضع وهى رابطة الإِسلام . وإصلاحها يكون بما يقتضيه كمال الإِيمان من الموادة والمصافاة ، وترك الاختلاف والتنازع ، والتمسك بفضيلة الإِيثار .
وكلمة { ذَاتَ } على هذا المعنى مفعول به .
ومنهم من يرى أن كلمة " ذات " بمعنى صاحبة ، وأنها صفة لمفعول محذوف ، فيكون المعنى : فاتقوا الله وأصلحوا أحوالا ذات بينكم .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " فإن قلت : ما حقيقة قوله : { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } " .
قلت : أحوال بينكم ، يعنى ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومودة واتفاق .
كقوله : { بِذَاتِ الصدور } وهى مضمراتها .
ولما كانت أحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : استقنى ذا إنائك ، يريدون ما في الإِناء من الشراب . .
وقوله { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } معطوف على ما قبله ، وهو قوله : { فاتقوا الله } .
أى : فاتقوا الله - أيها المؤمنون - في كل أقوالكم وأفعالكم ، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال التي تكون أحوال ألفة ومحبة ومودة ، وأطيعوا الله ورسوله في حكمه الذي قضاه في الأنفال وفى غيرها ، من كل أمر ونهى ، وقضاء وحكم . .
وقد كر - سبحانه - الاسم الجليل في هذه الآية ثلاث مرات ، لتربية المهابة في القلوب ، وتعليل الحكم حتى تقبله النفوس بإذعان وتسليم .
وذكر - سبحانه - رسوله معه مرتين في هذه الآية ، لتعظيم شأنه ، وإظهار شرفه ، والإِذيان بأن طاعته - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله - تعالى - ، ومخالفته مخالفة لأمر الله - تعالى ؟ قال - سبحانه - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } ووسَّط - سبحانه - الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة ، لإِظهار كمال العناية بالإِصلاح ، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة .
وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالأوامر الثلاثة السابقة ، وهى : التقوى ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله ورسوله .
وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أى : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة السابقة .
قال الآلوسى : قوله { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه ، أو المذكور هو الجواب على الخلاف المشهور . وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم ، وهو يكفى التعليق بالشرط .
والمراد بالإِيمان : التصديق . ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر ، على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة .
وقد يراد بالإِيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر ، فالمعنى : إن كنتم كاملى الإِيمان ، فإن كمال الإِيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة : الاتقاء ، والإِصلاح ، وإطاعة الله - تعالى - .
ويؤيد إرادة الكمال قوله - سبحانه - بعد ذلك { إِنَّمَا المؤمنون } إذ المراد به قطعا الكاملون في الإِيمان وإلا لم يصح الحصر . .
وعلى أية حال ففى هذا التذييل تنشيط للمخاطبين ، وحث لهم على الامتثال والطاعة ، ودعوة لهم إلى أن يكون إيمانهم إيمانا عميقا راسخا ، متفقا مع كل ما جاءهم به رسولهم - صلى الله عليه وسلم - من هدايات وإرشادات ، ومتساميا عن كل ما يخدش صفاءه ونقاءه من متع وشهوات .
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنفال
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في معنى الأنفال التي ذكرها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هي الغنائم ، وقالوا : معنى الكلام : يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر لمن هي ، فقل هي لله ولرسوله . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن عكرمة : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأنفال : المغنم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الغنائم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الأنْفال قال : يعني الغنائم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ الأنفال : الغنائم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الأنفال : الغنائم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الغنائم .
وقال آخرون : هي أنفال السرايا . ذكر من قال ذلك .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عليّ بن صالح بن حيّ ، قال : بلغني في قوله : يَسأَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : السرايا .
وقال آخرون : الأنفال ما شذّ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابّة وما أشبه ذلك . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال دابّة أو عبد أو متاع ، ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن عبد الملك ، عن عطاء : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : هي ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة أو متاع أو نفل ، فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء .
قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، أن ابن عباس سئل عن الأنفال ، فقال : السلَب والفرس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ويقال : الأنفال : ما أخذ مما سقط من المتاع بعدما تقسم الغنائم ، فهي نفل لله ولرسوله .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عثمان بن أبي سليمان ، عن محمد بن شهاب أن رجلاً قال لابن عباس : ما الأنفال ؟ قال : الفرس والدرع والرمح .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : قال ابن جريج ، قال عطاء : الأنفال : الفرس الشاذّ ، والدرع ، والثوب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن ابن عباس ، قال : كان ينفّل الرجل فرس الرجل وسلبه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد ، قال : سمعت رجلاً سأل ابن عباس عن الأنفال ، فقال ابن عباس : الفرس من النفل ، والسّلب من النفل . ثم عاد لمسألته ، فقال ابن عباس ذلك أيضا ، ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم : فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن القاسم بن محمد ، قال : قال ابن عباس : كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال : لا آمرك ولا أنهاك . ثم قال ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلاّ زاجرا آمرا محللاً محرّما . قال القاسم : فسلط على ابن عباس رجل يسأله عن الأنفال ، فقال ابن عباس : كان الرجل ينفّل فرس الرجل وسلاحه . فأعاد عليه الرجل ، فقال له مثل ذلك ، ثم أعاد عليه حتى أغضبه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه ، أو على رجليه ، فقال الرجل : أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الملك ، عن عطاء : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك فيما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابّة أو عبد ، فهو نفل للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : النفل : الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس . ذكر من قال ذلك .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : هو الخمس . قال المهاجرون : لم يرفع عنا هذا الخمس ؟ لم يخرج منا ؟ فقال الله : هو لله والرسول .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنهم سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس ، فنزلت : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى الأنفال قول من قال : هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم إما من سلبه على حقوقهم من القسمة ، وإما مما وصل إليه بالنفل ، أو ببعض أسبابه ، ترغيبا له وتحريضا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين ، أو صلاح أحد الفريقين . وقد يدخل في ذلك ما قال ابن عباس من أنه الفرس والدرع ونحو ذلك ، ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس لأن ذلك أمره إلى الإمام إذا لم يكن ما وصلوا إليه لغلبة وقهر ، يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام ، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقهر .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، لأن النّفَل في كلام العرب إنما هو الزيادة على الشيء ، يقال منه : نفلتك كذا ، وأنفلتك : إذا زدتك ، والأنفال : جمع نَفَل ومنه قول لبيد بن ربيعة :
إنّ تَقْوَى رَبّنا خَيْرُ نَفَلْ ***وَباذْنِ اللّهِ رَيْثي وَعَجَلْ
فإذ كان معناه ما ذكرنا ، فكلّ من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة ، إن كان ذلك لبلاء أبلاه أو لغناء كان منه عن المسلمين ، بتنفيل الوالي ذلك إياه ، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل ، فهو منفل ما زيد من ذلك لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحقّ ، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة ، وكذلك كلّ ما رضخ لمن لا سهم له في الغنيمة فهو نفل ، لأنه وإن كان مغلوبا عليه فليس مما وقعت عليه القسمة . فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين الغنيمة والنفل ، أن الغنيمة هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر نفل منه منفل أو لم ينفل والنفَل : هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغناء عن الجيش على غير قسمة . وإذ كان ذلك معنى النفل ، فتأويل الكلام : يسألك أصحابك يا محمد عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر لمن هو قل لهم يا محمد : هو لله ولرسوله دونكم ، يجعله حيث شاء .
واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في غنائم بدر لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان نفّل أقواما على بلاء ، فأبلى أقوام وتخلّف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب ، فأنزل الله هذه الاَية على رسوله ، يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فماض جائز . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود بن أبي هند يحدث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أتَى مَكانَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا ، أوْ فَعَلَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا » . فتسارع إليه الشبان ، وبقي الشيوخ عند الرايات . فلما فتح الله عليهم ، جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الأشياخ : لا تذهبوا به دوننا فأنزل الله عليه الاَية : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ صَنَعَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا » قال : فتسارع في ذلك شبان الرجال ، وبقيت الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنائم ، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقالت الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم ، وكنا تحت الرايات ، ولو انكشفتم لفئتم إلينا فتنازعوا ، فأنزل الله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا وكَذَا مِنَ النّفَلِ » قال : فتقدّم الفتيان ولزم المشيخة الرايات ، فلم يبرحوا ، فلما فتح عليهم ، قالت المشيخة : كنا ردءا لكم ، فلو انهزمتم انحزتم إلينا ، لا تذهبوا بالمغنم دوننا فأبى الفتيان وقالوا : جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا فأنزل الله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : فكان ذلك خيرا لهم ، وكذلك أيضا : أطيعوني فإني أعلم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة في هذه الاَية : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَنَعَ كَذَا فَلَهُ مِنَ النّفَلِ كَذَا » فخرج شبان من الرجال فجعلوا يصنعونه ، فلما كان عند القسمة ، قال الشيوخ : نحن أصحاب الرايات ، وقد كنا ردءا لكم فأنزل الله في ذلك : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب الزبيري ، قال : ثني المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن سليمان بن موسى ، عن مكحول مولى هذيل ، عن أبي سلام ، عن أبي أُمامة الباهلي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : أنزل الله حين اختلف القوم في الغنائم يوم بدر : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ . . . إلى قوله : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم عن سواء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، قال : ثني عبد الرحمن بن الحرث وغيره من أصحابنا ، عن سليمان بن موسى الأسدي ، عن مكحول ، عن أبي أمامة الباهلي ، قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن سواء ، يقول : على السواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين .
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الاَية لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئا قبل قسمتها ، فلم يعطه إياه ، إذ كان شركا بين الجيش ، فجعل الله جميع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك .
حدثني إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن عاصم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف ، فقلت : يا رسول الله هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فسألته إياه ، فقال : «لَيْسَ هذا لي ولا لَكَ » . قال : فلما وليت ، قلت : أخاف أن يعطيه من لم يبل بلائي . فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي ، قال : فقلت : أخاف أن يكون نزل فيّ شيء قال : «إنّ السّيْفَ قد صَارَ لي » . قال : فأعطانيه ، ونزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا عاصم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن مالك ، قال : لما كان يوم بدر ، جئت بسيف ، قال : فقلت : يا رسول الله ، إن الله قد شفي صدري من المشركين أو نحو هذا ، فهب لي هذا السيف فقال لي : «هَذَا لَيْسَ لي وَلا لَكَ » . فرجعت فقلت : عسى أن يعطى هذا من لم يبل بلائي فجاءني الرسول ، فقلت : حدث فيّ حدث : فلما انتهيت ، قال : «يا سَعْدُ إنّكَ سألْتَنِي السّيْفَ وَلَيْسَ لي ، وَإنّهُ قَدْ صَارَ لي فَهُوَ لَكَ » . ونزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : أصبت سيفا يوم بدر ، فأعجبني ، فقلت : يا رسول الله هبه لي فأنزل الله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .
حدثنا ابن المثنى وابن وكيع ، قال ابن المثنى ، ثني معاوية ، وقال ابن وكيع : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الشيباني ، عن محمد بن عبيد الله ، عن سعيد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكُتيفة ، فجئت به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اذْهَبْ فاطْرَحَهُ في القبَض » فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلاّ الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال : فما جاوزت إلاّ قريبا حتى نزلت عليه سورة الأنفال ، فقال : «اذْهَبْ فَخُذُ سَيْفَكَ » . ولفظ الحديث لابن المثنى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة جميعا ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي بكر ، عن قيس بن ساعدة ، قال : سمعت أبا أسيد بن مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان السيف يدعى المرَزُبان فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل ، أقبلت به فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يُسأله ، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاه إياه .
حدثني يحيى بن جعفر ، قال : حدثنا أحمد بن أبي بكر ، عن يحيى بن عمران ، عن جده عثمان بن الأرقم ، عن عمه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : «رُدّوا ما كانَ مِنَ الأنْفالِ » فوضع أبو أسيد الساعدي سيف بن عائد المرزبان ، فعرفه الأرقم فقال : هبه لي يا رسول الله قال : فأعطاه إياه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شبعة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : أصبت سيفا . قال : فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله نفلنيه فقال : «ضَعْهُ » ثم قام فقال : يا رسول الله نفلنيه قال : «ضَعْهُ » قال : ثم قام فقال : يا رسول الله نفلنيه اجُعل كمن لا غناء له ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أخَذْتَهُ » فنزلت هذه الاَية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أخذت سيفا من المغنم ، فقلت : يا رسول الله هب لي هذا فنزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، في قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : قال سعد : كنت أخذت سيف سعيد بن العاص بن أمية ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : أعطني هذا السيف يا رسول الله فسكت ، فنزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ . . . إلى قوله : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال : فأعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل نزلت لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر فأعلمهم الله أن ذلك لله ولرسوله دونهم ليس لهم فيه شيء . وقالوا : معنى «عن » في هذا الموضع «من » وإنما معنى الكلام : يسألونك من الأنفال ، وقالوا : قد كان ابن مسعود يقرؤه : «يَسْألُونَكَ الأنْفالَ » على هذا التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، قال : كان أصحاب عبد الله يقرءونها : «يَسألُونَكَ الأنْفالَ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هي في قراءة ابن مسعود «يَسألُونَكَ الأنْفالَ » . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : الأنفال : المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ، ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول . فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها ، قال الله : يَسألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفَالُ لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، ثم أنزل الله : واعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن سمي في الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا . قال : واختلفوا فكانوا أثلاثا . قال : فنزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرسُولِ وملكه الله رسوله ، فقسمه كما أراه الله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أن الناس سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر ، فنزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .
قال : حدثنا عباد بن العوام ، عن جويبر ، عن الضحاك : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك أن تُنَفّلهُمْ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك الأنفال .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى أخبر في هذه الاَية عن قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يعطيهموها ، فأخبرهم الله أنها لله وأنه جعلها لرسوله . وإذا كان ذلك معناه جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه ، وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش .
واختلفوا فيها ، أمنسوخة هي أم غير منسوخة ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة ، وقالوا : نسخها قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، قالا : كانت الأنفال لله وللرسول فنسختها : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمَسَهُ وللرّسُولِ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفا ، فاختصم فيه وناس معه ، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم ، فقال الله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ والرّسُولِ . . . الاَية ، فكانت الغنائم يومئذٍ للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، فنسخها الله بالخمس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني سليم مولى أم محمد ، عن مجاهد ، في قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : نسختها : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، أو عكرمة وعامر ، قالا : نسخت الأنفال : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ .
وقال آخرون : هي محكمة وليست منسوخة . وإنما معنى ذلك : قل الأنفال لله ، وهي لا شكّ لله مع الدنيا بما فيها والاَخرة ، وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه . ذكر من قال ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ فقرأ حتى بلغ : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فسلموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاء ويضعانها حيث أرادا ، فقالوا : نعم . ثم جاء بعد الأربعين : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية ، ولكم أربعة أخماس ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خَيبر : «وَهَذا الخُمُسُ مَرْدُودٌ على فُقَرائِكُمْ يَصْنَعُ اللّهُ وَرَسُولَهُ فِي ذلكَ الخُمْسَ ما أحَبّا ، وَيَضَعانِهِ حَيْثُ أحَبّا ، ثم أخبرنا الله الذي يجب من ذلك » ثم قرأ الاَية : لِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْلا يَكونَ دُولَةً بينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم ينفل من شاء ، فنفل القاتل السلب ، وجعل للجيش في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث بعد الخمس ، ونفل قوما بعد سهمانهم بعيرا بعيرا في بعض المغازي . فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ينفل على ما يرى مما فيه صلاح المسلمين ، وعلى من بعده من الأئمة أن يستنوا بسنته في ذلك ، وليس في الاَية دليل على أن حكمها منسوخ لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت ، وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ إلاّ بحجة يجب التسليم لها ، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلاّ ما أبطل حكمه حادث حكم بخلافه ينفيه من كلّ معانيه ، أو يأتي خبر يوجب الحجة أن أحدهما ناسخ الاَخر . وقد ذُكر عن سعيد بن المسيب أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلاً منه لقول الله تعالى : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، قال : أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شيء ، فقال : إنكم أرسلتم إليّ تسألوني عن الأنفال ، فلا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد بيّنا أن للأئمة أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم بفعله ، فينفلوا على نحو ما كان ينفل ، إذا كان التنفيل صلاحا للمسلمين .
القول في تأويل قوله تعالى : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
يقول تعالى ذكره : فخافوا الله أيها القوم ، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه ، وأصلحوا الحال بينكم .
واختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله : وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فقال بعضهم : هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا في الغنيمة أن يردّوا ما أصابوا منها بعضهم على بعض . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ قال : كان نبيّ الله ينفّل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفار إذا قتله ، ثم أنزل الله : فاتّقوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أمرهم أن يردّ بعضُهم على بعض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفل الرجل على قدر جِدّه وغَنائه على ما رأى ، حتى إذا كان يوم بدر وملأ الناس أيديهم غنائم ، قال أهل الضعف من الناس : ذهب أهل القوّة بالغنائم فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ ليردّ أهل القوّة على أهل الضعف .
وقال آخرون : هذا تحريج من الله على القوم ، ونهي لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا خالد بن يزيد ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قالا : حدثنا أبو إسرائيل ، عن فضيل ، عن مجاهد ، في قول الله : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ قال : حرّج عليهم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن سفيان بن حسين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ قال هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم . قال عباد ، قال سفيان : هذا حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ : أي لا تستبوا .
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث البين ، فقال بعض نحويي البصرة : أضاف ذات إلى البين وجعله ذاتا ، لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث ، وبعضا يذكر نحو الدار ، والحائط أنث الدار وذكر الحائط . وقال بعضهم : إنما أراد بقوله : ذَاتَ بَيْنِكُمْ : الحال التي للبين فقال : وكذلك «ذات العشاء » يريد الساعة التي فيها العشاء . قال : ولم يضعوا مذكرا لمؤنث ولا مؤنثا لمذكر إلاّ لمعنى .
قال أبو جعفر : هذا القول أولى القولين بالصواب للعلة التي ذكرتها له .
وأما قوله : وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ فإن معناه : وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم ، فقد بين لكم وجوهه وسبُله . إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقول : إن كنتم مصدّقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فسلموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا ، ويضعانها حيث أرادا .
{ يسألونك عن الأنفال } أي الغنائم يعني حكمها ، وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الأمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه . { قل الأنفال لله والرسول } أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به . وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار . وقيل شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم -وكان المال قليلا- فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء ، ولهذا قيل : لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه . وقرئ " ويسألونك علنفال " بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ، ويسألونك الأنفال أي يسألك الشبان ما شرطت لهم . { فاتقوا الله } في الاختلاف والمشاجرة . { وأصلحوا ذات بينكم } الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول . { وأطيعوا الله ورسوله } فيه . { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك ، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ، والاتقاء عن المعاصي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان .
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى الواحدي في أسباب النزول عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب القبض بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال » .
وأخرج البخاري ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج ، ولم يثبت في تسميتها حديث ، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال ، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي .
وتسمى أيضا سورة بدر ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال قال تلك سورة بدر .
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر : قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها ، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة ، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين ، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها ، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر .
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } إلى { مع الصابرين } نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة ، كما روي عن ابن عباس ، وسيأتي تحقيقه هنالك .
وقال جماعة من المفسرين إن آيات { يا أيها النبي حسبك الله } إلى { لا يفقهون } نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال ، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة .
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة ، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة ، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الانفال ، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة .
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها ، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل ، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة ، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال ، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة : من أحكام المعاملات الاجتماعية ، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران ، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال ، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } من هذه السورة قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله { وما كان الله ليعذبهم } بمكة إثر قولهم { أو ائتنا بعذاب أليم } ونزل قوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله { وما لهم أن لا يعذبهم الله } بعد بدر .
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس ، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب .
وعدد آيها ، في عد أهل المدينة . وأهل مكة وأهل البصرة : ست وسبعون ، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون ، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون .
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله ، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال ، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها .
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها .
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره .
والأمر بطاعة الله ورسوله ، في أمر الغنائم وغيرها .
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم ، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل .
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر . وتأييد من الله ولطفه بهم .
وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء .
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو ، والصبر .
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء .
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع .
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم .
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر .
وذكر مواقع الجيشين ، وصفات ما جرى من القتال .
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم ، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام .
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال .
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله .
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد ، ومتى يحسن السلم .
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة . وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية .
افتتاح السورة ب { يسألونك عن الأنفال } مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم { الأنفال } وكان ذلك يومَ بدر ، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك ، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال ، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهْماً في هذا الشأن ، وقد تكررت الحوادث يومئذ : ففي « صحيح مسلم » ، و« جامع الترمذي » عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر أصبت سيفاً لسعيد بن العاصي فأتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلْنيهِ ، فقال : ضعه ( في القَبَض ) ، ثم قلت : نفلنيه فقال ضعْه حيثُ أخذته ، ثم قلت : نفلنيه فقال : ضعه من حيث أخذته ، فنزلت { يسألونك عن الأنفال } » وفي « أسباب النزول » للواحدي ، و« سيرة ابن إسحاق » عن عبادة بن الصامت ، أنه سئل عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلتْ حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقُنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء ، وروى أبو داود ، عن ابن عباس ، قال : « لما كان يومُ بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ : لا تستأثرون علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو أنهزمتم لكنا ردءاً لكم ، واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } .
والسؤال حقيقته الطلب ، فإذا عدّي ب ( عن ) فهو طلب معرفة المجرور ب ( عن ) وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء ، فالمعنى ، هنا : يسألونك معرفة الأنفال ، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات ، والمراد حالها بحسب القرينة مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمناً في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها .
ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال ، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين ، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد .
ولذلك كان قوله { يسألونك } موذناً بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال ، وقد كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا ، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية .
و ( الأنفال ) جمع نفل بالتحريك والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء ، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لأن المقصود الأهممِ من الحرب هو إبادة الأعداء ، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة :
يخبرك من شَهد الوقيعة أنني *** أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأقوالهم في هذا كثيرة ، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائِم مشهور قال عنترة :
إنا إذا احمرا الوغى نُرْوي القنا *** ونعف عند مقاسم الأنفال
فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حَجر الأسدي وهو جاهلي :
نكصتم على أعقابكم ثم جئتمو *** تُرجون أنفال الخميس العرمرم
ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني ، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغِناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله ، وهذا صنف من المغانم .
فالمغانم ، إذن ، تنقسم إلى : ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم ، ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل ، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يُعرف قاتله ، فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقاً ، وأن تكون بمعنى ما يُزاد للمقاتل على حقه من المغنم ، فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالاً عن تنفيل بمعنى زيادة ، وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل ، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل ، فيبقى النفل في معنى الزيادة . ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعنى من الأنفال في هذه الآية ، وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال « الفرس من النفل والدرع من النفل » كما في « الموطأ » ، وروي عنه أنه قال : « والسلب من النفل » كما في « كتاب أبي عبيد » وغيره .
وقد أطلقوا النفل أيضاً على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يُعرف من غنمه ، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله ، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة [ الحشر : 6 ، 7 ] بقوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركابٍ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } إلى قوله { بين الأغنياء منكم } وذلك مثل أموال بني النضير التي سلّموها قبل القتال وفروا .
وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء : المغنم ، والفيء ، وهما نوعان ، والنفل . وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة ، فلما استقرّ أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر ، ولكن عُرفَ الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين ( أي لمعنيين مختلفين ) غنيمة وفيئاً يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم .
والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخُمس لمن يرى إعطاءه إياه ، ممن لم يغنم ذلك بقتال .
فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور : المراد بها ما كان زائداً على المغنم . فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين ، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل ، أو لخصلة عظيمة يأتي بها ، أو للتحريض على النكاية في العدو . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين : " من قتل قتيلاً فله سَلَبُه " وقد جعلها القرآن لله وللرسول ، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم قال مالك في « الموطأ » « ولم يبلغنا أن رسول الله قال : من قتل قتيلاً فله سَلَبه إلا يومَ حنين ، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده » ( يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين ) .
فالآية محكمة غير منسوخة بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما ، قال القرطبي : وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا .
وعن ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة وعطاء : أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنائِم مطلقاً . وجعلوا حكمها هنا أنها جُعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما يراه ، بلا تحديد ولا اطراد ، وأن ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس ، ثم نسخ ذلك بآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش ، فجعل لله وللرسول الخمس ، وجعل أربعة الأخماس حقاً للمجاهدين . يعني وبقي حكم الفيء المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ ، فلذلك قال مالك والجمهور : لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك : « إعطاء السَلَب من التنفيل » ، وقال مجاهد : الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى .
واللام في قوله { للَّه } على القول الأول في معنى الأنفال : لام الملك ، لأن النفل لا يحسب من الغنائِم ، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزله مال لا يعرف مستحقه ، فيقال هو ملك لله ولرسوله ، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده ، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في « الترمذي » إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك » .
وأما على القول الثاني ، الجامع لجميع المغانم ، فاللام للاختصاص ، أي : الأنفال تختص بالله والرسول ، أي حكمُها وصرفها ، فهي بمنزلة ( إلى ) .
تقول : هذا لك أي : إلى حكمك مردود ، وأن أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم خُمّست بآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية .
وعطف « وللرسول » على اسم الله لأن المقصود : الأنفالُ للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقاً للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين : أولاهما : أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفاً أو تفويضاً . والثانية : لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقاً لله كان التصرف فيه لخلفائه .
واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافاً ناشئاً عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية ، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الاطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب : النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم ، فإنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسول صلى الله عليه وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعاً بين هذه الآية وبين قوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحَنْ في نفوس الجيش ، وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير ، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنفيل بعض الجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه ، كما سيأتي في آية المغانم ، لذلك قال مالك : لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين من قوله : " من قتل قتيلاً فله سَلَبه " خصوصيه للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر ، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله ، قال مالك في « الموطأ » : ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما .
وإنما اختلفت الفقهاء : في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس ، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه ، وقال سعيد بن المسيب ، وأبو حنيفة والشافعي : النفل من خمس الخمس . والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سمّاه القرآن أم مختلط ، وسيجيء ذلك في آية المغانم . والحجة لمالك حديث ابن عمر في « الموطأ » أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً ونُفلوا بعيراً بعيراً فأعطي النفلُ جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس ، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية { واعلموا أنما غنمتم } [ الأنفال : 41 ] بآية { قل الأنفال لله والرسول } أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل ، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة ، والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية .
وتفريع { فاتقوا الله } على جملة { الأنفال لله والرسول } لأن في تلك الجملة رفعاً للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال ، أو في طلب التنفيل ، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله ، فقد وقع ذلك على كراهة كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها ، تبعاً لعوائِدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها ، وهذا كله من المقول .
وقدم الأمر بالتقوى ، لأنها جامع الطاعات .
وعُطف الأمر بإصلاح ذات البين ، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت : « اختلفْنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا » فأمرهم الله بالتصافح ، وختم بالأمر بالطاعة ، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت } [ النساء : 65 ] .
والإصلاح : جعل الشيء صالحاً ، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح ، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم ، وهو فساد التنازع والتظالم .
و { ذات } يجوز أن تكون مؤنث ( ذو ) الذي هو بمعنى صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو . ووقع في كلامهم مضافاً إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما ، يجرونه مُجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى : { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } في سورة [ الكهف : 18 ] ، على تأويل جهة ، وتقول : لقيته ذات ليلة ، ولقيته ذات صباح ، على تأويل المقدر ساعة أو وقت ، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال ، ويجوز أن تكون ( ذات ) أصلية الألف كما يقال : أنا أعرف ذات فلان ، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته ، كذا فسرها الزجاج والزمخشري ، فهو كقول ابن رواحة :
وذلك في ذاتِ الإله وإن يَشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
فتكون كلمةً مقحمةً لتحقيق الحقيقة ، جُعلت مُقدمة ، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم : جاءني بذاته ، ومنه يقولون : ذات اليمين وذات الشمال ، قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور } .
فالمعنى : أصلحوا بينكم ، ولذا ف ( ذات ) مفعول به على أن ( بَين ) في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية ، وجعل اسماً منتصرفاً ، كما قُرىء { لقد تقطع بينُكم } [ الأنعام : 94 ] برفع بينُكم في قراءة جماعة . فأضيفت إليه ( ذات ) فصار المعنى : أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحاً غير فاسد ، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل { أصلحوا } منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصداً للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد ، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير : وأوجدوا الصلاح بينكم ، كما قرأنا
{ لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم .
وأعلم أني لم أقف على استعمال ( ذاتَ بين ) في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن .
وجواب شرط { إنْ كنتم مؤمنين } دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله : { فاتقوا الله } إلى آخرها ، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعاً إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال ، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية : إنا أمرناكم بما ذكر إنْ كنتم مؤمنين ، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين ، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال ، لظهور أن ليس المراد : فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله ، ولا تصلحوا ذات بينكم ، ولا تطيعوا الله ورسوله ، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال .
وليس الإتيان في الشرط ب { بأنْ } تعريضاً بضُعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورُهم ، بناء على أن شأن ( إنْ ) عدمُ الجرم بوقوع الشرط بخلاف ( إذا ) على ما تقرر في المعاني ، ولكن اجتلاب ( إنْ ) في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي : التقوى الجامعة لخصال الدين ، وإصلاح ذات بينهم ، والرضى بما فعله الرسول ، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره ، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] كما سيأتي .