من الأسباب المباشرة لنزول سورة الأنفال معالجة شئون حدثت بين المسلمين في غزوة بدر ، منها : كراهتهم للخروج إلى حين دعاهم الرسول إلى الخروج وكراهتهم للقتال حين وصلوا إلى بدر وتحتم عليهم أن يقاتلوا .
ومنها : اختلافهم بعد تمام النصر في قسمة الغنائم .
ومنها : اختلاف الرأي في معاملة الأسرى أيقبلون منهم الفداء أن يقتلونهم ؟
وفي جو هذه الشئون عرضت السورة لما يجب أن يكون عليه المسلمون في خاصة أنفسهم من جهة امتثال الأمر والإخلاص والحيطة والحذر من الأعداء ، وتذكر نعم الله عليهم ، والآداب التي يجب مراعتها أثناء القتال ، وفيما يتصل به ، من إعداد العدة ، والمحافظة على العهود ، وعلاقة بعضهم ببعض ؛ حتى يكونوا أهلا لما وعدهم الله من النصر والتأييد ، وحتى يفوزوا بدرجات المغفرة والرضا عند الله .
ولا يفهم من ذلك أن كراهة القتال كانت طابعا عاما ، بل كانت رغبة فريق قليل ونفر محدود كان يفضل الغنيمة والحصول على التجارة عن القتال ، لكن بقية الجيش كان على استعداد للتضحية والفداء ، وكان القرآن يوحد الهدف ويرشد الجميع إلى أن القتال أفضل ؛ لأن فيه انتصافا للمؤمنين وإعلاء لكلمة الله ، ودحرا للطغيان وتحطيما لطواغيث الكفر وردعا للمشركين ، وقد استشار النبي المسلمين قبل بدء المعركة هل يقدم على القتال ؟ أم يعود إلى المدينة ؟
فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما ، ثم قام المقدام بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا تقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أشيروا على أيها الناس " i فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار وقال : يا رسول الله ، آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق نبيّا لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غذا ، أنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، وعندئذ أشرق وجه الرسول بالمسرة ، وقال لأصحابه : " سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الحسنيين العير أو النفير ! " وقد فرت العير فلم يبق إلا النفير فسار المسلمون وكلهم أمل في النصر .
نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر ، وهي الموقعة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين ، بل في تاريخ البشرية كلها إلى يوم الدين ، الموقعة التي قدر المسلمون أن تكون غايتها غنيمة أموال المشركين ، وقدر رب المسلمين أن تكون فيصلا بين الحق والباطل ، وأن تكون مفرق الطريق في تاريخ الإسلام ومن ثم تكون مفرق الطريق في خط سير التاريخ الإنساني العام ، والتي ظهرت فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير ، وتدبير رب الشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر .
نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر فتضمنت الكثير من دستور السلم والحرب ، ودستور الغنائم والأسرى ، ودستور المعاهدات والمواثيق ، وتضمنت بعد ذلك الكثير من دستور النصر والهزيمة بتضمنها لأسباب النصر والهزيمة ، ولواجبات المجاهدين في الإعداد والاستعداد ، ثم ترك الأمر بعد ذلك لله وما النصر إلا من عند الله . ثم أنها تضمنت بعد ذلك مشاهد من الموقعة ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدها ، مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها ؛ كأن القارئ يراها . وإلى جوار المعركة استطراد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه في مكة ، حين كانوا قليلا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ، وصور من حياة المشركين قبل هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من بين ظهرانيهم ومن بعدها ، وأمثلة من مصائر الكافرين من قبل – كدأب آل فرعون والذين من قبلهم – والدأب : معناه : الصفة والشأن أي : أن شأن الكافرين واحد في تكذيب الرسل ، واستحقاق العقاب ، وبذلك تقرر السورة سنة الله التي لا تتخلف في نصر المؤمنين وهزيمة المكذبين .
لقد افتتح الله السورة بالحديث عن الأنفال ، وهي الغنائم التي يغنمها المسلمون في جهادهم لإعلاء كلمة الله ، وقد ثار بين أهل بدر جدال حول تقسيمها بعد النصر في المعركة فردهم الله إلى كلمته وحكمه فيها ، ردهم إلى تقواه وطاعته وطاعة رسوله واستجاش فيهم وجدان التقوى والإيمان ، ثم أخذ يذكرهم بما أرادوا هم لأنفسهم من الغنيمة وما أراده الله لهم من النصر ، وكيف سارت المعركة وهم قلة لا عدد لهم ولا عدة وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد ، وكيف ثبتهم الله بمدد من الملائكة ، وبالمطر يستقون منه ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال ؛ وبالنعاس يغشاهم ؛ فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان ويلقى الرعب في قلوب أعدائهم وينزل بهم شديد العقاب . قال تعالى :
{ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } . ( الأنفال : 11 ) .
تضمنت سورة الأنفال دراسة كاشفة وتصويرا ملموسا للمواقف الناجحة والحروب الهادفة ، كما رسمت السورة – مع سور أخرى في القرآن الكريم – أسباب النصر في الميدان ، ومن هذه الأسباب ما يأتي :
1 – إخلاص النية والرغبة في الشهادة وإيثار الآخرة على الدنيا وتحمل تبعات الحرب وآلام القتال .
2 – الثبات في اللقاء وتذكر الله في العسر واليسر وعدم الفرار من الميدان وبذل النفس والنفيس في سبيل الله .
3 – إعداد العدة وتجهيز أدوات القتال والتدريب عليها مع وحدة الصف وتماسك القوى وترابط المقاتلين .
4 – التوكل على الله والالتجاء إليه بعد الأخذ في الأسباب وطاعة القائد وتنفيذ الأوامر والمحافظة على النظام وأخذ الحذر .
5 – البعد عن التنازع والاختلاف في حال القتال وما يتعلق به ؛ فإن النزاع والخلاف من أكبر الأسباب في إذهاب القوة وتمكين الأعداء .
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم .
أي : لا تختلفوا ؛ فإن الخلاف يؤدي إلى الضعف والهزيمة وضياع القوة والدولة .
6 – عدم تصديق الإشاعات والأراجيف ومصاولة اليأس والقنوط والقضاء على أساليب العدو وعلى الحرب النفسية التي يشنها رغبة منه في تثبيط الهمم والتيئيس من النصر .
ومن ثم يأمر الله المؤمنين في سورة الأنفال أن يثبتوا في كل قتال مهما خيّل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم ؛ فإن الله هو الذي يقتل وهو الذي يرمي وهو الذي يدبّر ، وما هم إلا أسباب ظاهرة لتنفيذ إرادة الله . ويسخر القرآن من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون ، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم فيقول :
{ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } .
ويحذر المسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمنافقين الذين يسمعون بآذانهم ولكنهم لا يسمعون بقلوبهم لأنهم لا يستجيبون ولا يهتدون .
ثم تدعو السورة المسلمين إلى الاستجابة لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم ولو خيل إليهم أن فيه القتل والموت ، وتذكرهم كيف كانوا قليلا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس فأعزهم الله ونصرهم ، وأنهم إذا اتقوا الله ؛ جعل لهم فرقانا من النصر الكامل ذلك فوق تكفر السيئات وغفران الذنوب وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه المغانم والأموال .
وكما وضعت سورة الأنفال صفحة في كتاب الإسلام عن الجهاد ، فإنها قابلتها بصفحة أخرى عن السلم لمن يجنح إليه ويختار الهدنة ، ويتضح لنا من السورة أن السلم هو القاعدة في الإسلام ، أما الحرب فطارئة لدفع الباطل وإقرار الحق ، ومن ثم يدعو الإسلام إلى السلم دعوته إلى الجهاد ، ويحافظ على العهد ؛ ما وفى به المعاهدون ويؤمّن المخالفين للإسلام في العقيدة من كل اعتداء غادر ، ويحصر الحروب في أضيق نطاق تقضي به ضرورة تأمين السلم والحق والعدل ، ويعدّ الناقضين للعهود من عالم الحيوان لا من عالم الإنسان .
{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم } . ( الأنفال : 61 ) .
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح تعبير لطيف يلقى ظل الدعة الرقيق فهي حركة جناح يميل إلى السلم ويرخي ريشه في وداعة واطمئنان ؛ فإذا الجو من حوله طمأنينة وسلام .
وهناك حالة استثنائية واحدة هي حالة جزيرة العرب التي سيجيء في سورة براءة نبذ عهود المشركين فيها جميعا وتخليصها من الشرك كافة ؛ لتكون موطنا خالصا للإسلام .
تعرضت سورة الأنفال لبيان صفات المؤمنين كما ورد تحديد هذه الصفات في أول سورة البقرة وأول سورة المؤمنون ، وفي سورة الفرقان ، وفي كثير من السور .
وإذا استوعبنا هذه الآيات وجدناها تدور حول تحديد المؤمن – الذي يريده الله – بمن يجمع بين سلامة العقيدة وسلامة الخلق ، وصلاح العمل ، وبمن يكون في ذلك كله مثالا صادقا وصورة صحيحة لأوامر الله وإرشاداته .
وقد وصف الله المؤمنين في سورة الأنفال بخمس صفات هي : وجل القلوب عند ذكر الله ، وزيادة الإيمان عند تلاوة آياته ، والتوكل على الله وحده ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق مما رزق الله . ثم بين أنهم بهذه الصفات يكونون أهل الإيمان حقا وأن لهم عند الله درجات عالية في الجنة .
فالمؤمن حقا يراقب مولاه ، ويرجو رحمته ، ويخشى عقابه ، ويخشع عند تذكر آياته ، وهو في خشوعه وخضوعه وعبادته مخلص القلب ، ثابت اليقين .
ومن صفة المؤمن زيادة إيمانه ورسوخ عقيدته عند تلاوة القرآن وتدبر آياته ، ومعرفة أحكامه وأسراره ، كما أن إقامته للصلاة وأداءه للزكاة ، وعمه بمقتضى هذه الإيمان سلوكا وتطبيقا ، مما يزين الإيمان في القلب ويزيده ثقة ويقينا .
فالصلاة في حقيقتها مناجاة ومناداة وخشوع وخضوع وقراءة ودعاء . ومن ثمرتها : طهارة المؤمن من الفحشاء والمنكر وتهذيب الغرائز وتقويم السلوك وتربية الضمير . والزكاة فيها تكافل المجتمع وترابط الأغنياء والفقراء .
وفي سورة الأنفال حث على الإنفاق من كل ما رزق الله وهو يشمل – كما فصّل الفقهاء – زكاة الأموال وزكاة الزروع والثمار وزكاة الماشية الركاز وكل ما يستخرج من باطن الأرض ، وزكاة التجارة ، ولا نكاد نجد آية عرضت للصلاة إلا وتذكر الإنفاق في سبيل الله ، كما أنا لا نكاد نجد آية تعرضت لأوصاف المؤمنين وتهملهما أو تهمل أحدهما .
فقد جعل الله إقامة الصلاة مثالا لبذل النفس في سبيله وجعل الإنفاق مثالا لبذل المال في سبيله .
وبذلك يتسم الإيمان بطابع تهذيب النفس وطهارة القلب ، كما يتسم بأنه دافع عملي إلى السلوك النافع والعمل الصالح الذي يؤدى إلى إصلاح المجتمع وتماسك الأمة وتقوية روابط المودة والرحمة والألفة بين الناس .
أخذت سورة الأنفال تنادي المؤمنين ست مرات بوصف الإيمان ، في النداء الأول : تأمرهم بالثبات في الميدان والشجاعة في القتال ، وتنهاهم عن الفرار من المعركة وتتوعد الفارّ من ميدان القتال بعذاب السعير وغضب الله العلي القدير ، والنداء الثاني : يشتمل على الأمر بطاعة الله ورسوله ، وقد امتثل المسلمون لذلك الأمر فانقادوا لأحكام الله وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله ، وهذا الطريق هو طريق النصر للسابقين واللاحقين :
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله } . ( الأنفال : 20 ) .
والنداء الثالث : الاستجابة لله وللرسول وتغليب أمرهما على كل ما سواهما من أوامر وفي الحديث الشريف : " ثلاث من كن فيه ؛ وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المر لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار " ii .
النداء الرابع : دعوة إلى ترك الخيانة والبعد عن إفشاء أسرار الأمة :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } . ( الأنفال : 27 ) .
النداء الخامس : دعوة إلى تقوى الله في أحكامه وسننه وبيان أن التقوى شجرة مثمرة ، وأعظم ثمارها النور الذي يبصر صاحبه بالحق والعدل وطريق الصلاح والهدى .
النداء السادس : يأمر بذكر الله وتلاوة كتابه وينهى عن الفرقة والتنازع والاختلاف ويحث على الصبر والتمسك بالوحدة والجماعة ، حيث يقول سبحانه وتعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } . ( الأنفال : 45 ) .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفَالِ قُلِ الأنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( 1 ) إنمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زَادَتْهُمْ إيمانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 2 ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 3 ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 4 ) }
الأنفال : هي الغنائم واحدها : نفل بتحريك الفاء ، وقد تطلق على ما يعطى زيادة على السهم من المغنم .
فاتقوا الله : فاجعلوا لأنفسكم وقاية من عقوبة الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح .
وأصلحوا ذات بينكم : وأصلحوا الأحوال التي بينكم بالمساواة والمساعدة ، وقال الزجاج : معنى ذات بينكم حقيقة وصلكم ، والدين : الوصل أي : فاتقوا الله وكونوا مجمعين على ما أمر الله ورسوله .
1 – { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفَالِ قُلِ الأنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُول . . . . } الآية .
روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال :
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت بدرا فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لكي لا يصيب العدو منه غرّة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم :
نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به ؛ فنزلت : { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول . . . } فقسمها رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بين المسلمينiii .
وهناك روايات أخرى تفيد أن نزاعا ما ، قد ظهر بين المسلمين حول توزيع الغنائم فأنزل الله هذه الآيات لبيان حكمه فيها .
والأنفال : جمع نفل وهو الزيادة ، ولذا قيل للتطوع : نافلة ؛ لأنه زيادة على الأصل ، وقيل لولد الولد : نافلة ، لأنه زيادة على الولد . قال تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } . ( الأنبياء : 72 ) .
وإطلاق الأنفال على الغنائم باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له ، وهو إعلاء كلمة الله ، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة .
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لنبي قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأعطيت الشفاعة ، وأرسل كل نبي إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " iv .
وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم – أي : الغنائم – إنما هو عن حكمها وعن المستحق لها .
فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ومن المستحق لها ؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ، ولرسوله يقسها بحسب حكم الله فيها ، فهو سبحانه العليم بمصالح عباده ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله .
وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء ، وأن حرف " عن " زائد ، أو هو بمعنى من ، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفال ، ويطلبون منك توزيع الغنائم عليهم .
وقد رجح جمهور العلماء أن السؤال هنا للاستفهام عن حكم الأنفال وعن طريقة توزيعها ، وذكر الآلوسي في تفسيره طائفة من الأمور ترجح رأى جمهور العلماء .
وقد ورد في أسباب النزول روايات تفيد أن الشباب سارعوا إلى قتال الكفار ، وأن الشيوخ وكبار السن وقفوا تحت الرايات ردءا وعونا أشبه بالخط الثاني للمقاتلين .
وأن الشباب كانوا يرون أنهم أولى بالغنائم ؛ لأنهم باشروا القتال ، والشيوخ يرون أن لهم حقا يماثل حق الشباب ؛ لأن الشباب لو انهزموا لانحازوا للشيوخ وصار الشيوخ حماية وعونا للشباب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : " من قتل قتيلا فله سبله " أي : أن الشاب المقاتل يستحق أن يغنم غنيمته من الكافر الذي قتله ، فظن الشباب أن هذا يجعلهم يستولون على الغنائم وحدهم .
ثم بين الله تعالى حكمة توزيع الغنائم على جميع جيش المسلمين سواء الشباب الذين باشروا القتال ، أو الشيوخ الذين كانوا عونا وردءا ، أو المجموعة التي تجصنت لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه ، فكل فئة كان لها ضلع في نجاح المعركة .
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : { قل الأنفال لله والرسول } .
قلت : معناه : أن حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها فوضا إلى رأى أحد ، والمراد : أن الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله ، أو يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي . . .
{ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
أي : إذا كان أمر الغنائم لله تعالى ورسوله ، فاتقوه تعالى واجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لسخط الله تعالى ، أو فاتقوه تعالى في كل ما تأتون وتذرون من النيات والعقائد والأعمال .
{ وأصلحوا ذات بينكم } . أي : وأصلحوا ما بينكم من الأحوال والصلات التي تربط بعضكم ببعض وإصلاحها بالوفاق والتعاون والمساواة وترك الأثرة ؛ لأن إصلاح ذات البين واجب ، يتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها ، وتحفظ به وحدتها .
{ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } . أي : الزموا طاعة الله ورسوله طاعة مطلقة وتسليما مطلقا فذلك هو شأن المؤمنين ؛ إذ لا إيمان بغير طاعة وتسليم .
وفي التعبير بقوله : { إن كنتم مؤمنين } . تنشيط للمخاطبين وحث لهم على المسارعة إلى الامتثال .
عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : " فينا معشر أصحاب بدر ، نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه عن بواء – يقول على السواء " v .
وعن عطاء : كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل .
ولا يفهم من ذلك أن الاختلاف على الغنائم كان أمرا عاما شمل جميع المسلمين ، بل كان بين فئات منهم ، وكانت هذه أول غزوة ولم يكن قد نزل حكم بشأن الغنائم ، فأنزل الله كتابة الكريم ليبين لهم أن الغنائم لله سبحانه يحكم فيها بما يشاء ، ورسوله مبلغ عن الله ، وعلى المسلمين أن يراقبوا ربهم وأن يعودوا إلى طريق المودة والمحبة والصلح ؛ فإن كمال الإيمان يدور على امتثال هذه الأوامر .
وقد عاد المسلمون فعلا إلى الإيمان والتسليم ، ووزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين جميع من شهد بدرا من الشباب والشيوخ ، ومن جمع الغنائم ومن انشغل بأي أمر آخر ، فالكل كان يؤدي اجبه بطريقة ما ، ولا غنى لأحد فيهم عن الآخر .
وقد أتم الله التشريع في شأن الغنائم ، بالآية 41 من سورة الأنفال ، وفيها بين الله تعالى أن الغنائم تقسم إلى خمسة أخماس ، خمس لليتامى والمساكين وابن السبيل ، والأربعة أخماس الباقية من الغنيمة تقسم على الغانمين الذين حضروا المعركة .
قال تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير } .
قال الشافعي : إن الخمس يقسم على خمسة ، وإن وسهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين ، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية .
وقال أبو حنيفة : إنه يقسم الخمس على ثلاثة : لليتامى والمساكين وابن السبيل ، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه .