التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمال للسورة

هذه السورة مدنية وآياتها خمس وسبعون . وهي تتضمن فيضا حافلا زخيرا من الأحكام والمواعظ والمشاهد . أولها الكلام عن الأنفال ، وهو عنوان السورة . ويراد بالأنفال الغنائم . ونعرض لبيان ذلك من حيث أنواعه وأحكامه وأقوال العلماء فيه .

وتتضمن السورة ذكر المؤمنين الذين توجل قلوبهم بذكر الله ، وسماع آياته البينات ، والذين يقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة .

وتتضمن كذلك بيانا بحال المؤمنين لما اختلفوا فيما يفعلونه في المشركين ذوي الشوكة ، هل يقاتلونهم في بدر أو يكفون عن قتالهم ويكتفون بأخذ العير الموقرة بأموال قريش . ثم كتب الله التوفيق للمؤمنين الراغبين في الجهاد ؛ إذ قاتلوهم وانتصروا عليهم بعون الله وتعزيزه لهم . وفي ذلك ما يؤكد للمسلمين طيلة الدهر أن النصر بيد الله وحده يؤتيه من يشاء من عباده العاملين المخلصين { وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } .

ويأمر الله في السورة عباده المؤمنين أن يثبتوا في ساحة الجهاد وهم يواجهون أعداء الله فلا يولون الأدبار ؛ فإنه لا يولي الكافرين دبره عند اللقاء إلا من باب بالغضب من الله وكان مأواه جهنم . ولما أظهر الله المؤمنين في بدر وأظفرهم على المشركين بين لهم أن ما تحصل لهم من النصر على عدوهم لم يكن بقوتهم واقتدارهم بل كان بمشيئة الله وفضله وامتنانه ؛ إذ كتب النصر لعباده المؤمنين الصابرين ، على ضعف عدتهم وقلة عددهم .

ويحذر الله في السورة عباده المؤمنين من كل فتنة لا تقتصر في الإصابة والإضرار على الظالمين وحدهم . ولكنها تصيب الظالمين والمؤمنين على السواء فما ينجو منها أحد . وثمة تفصيل في السورة لهذا المعنى نعرض له في حينه إن شاء الله .

وفي السورة تذكير من الله لعباده المؤمنين بحالهم في مكة ؛ إذ كانوا قلة وكانوا مستضعفين ، ثم أيدهم الله بتكثيرهم وجعلهم آمنين بعد أن كانوا خائفين . إلى غير ذلك من وجوه النعمة والرزق الذي من الله به على المؤمنين الصابرين . فعليهم بذلك أن يذكروا تلك النعم ولا ينسوها ، ويبادروا دائما بطاعة الله وشكره على مننه وإفضاله .

وفي السورة بيان لمكر الكافرين وكيدهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتمالئهم عليه وتشاورهم فيما بينهم بشأنه ، هل يحبسونه فلا يخرج ، أو يقتلونه ، أو يخرجونه خارج مكة . ثم وقع رأيهم وكيدهم على ابتغاء قتله عليه السلام ، لكنهم خابوا وخسروا وباءوا بالفشل والخزي ، فقد نجي الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم في حدث إعجازي جلل ومذهل . حدث ينطق في صدع وجهار أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } .

وتكشف السورة عن تواطؤ الكافرين جميعا على النيل من الإسلام والمسلمين ؛ فهم يتمالئون في كل زمان ليكيدوا للإسلام كيدا ، وينفقون في سبيل هذه الغاية الخبيثة الأموال الهائلة . لكنهم سوف يبرءون في النهاية بالخزي والفشل في هذه الدنيا ثم يفضون في الآخرة إلى جهنم وبئس المصير .

ويأمر الله المؤمنين بقتال المشركين حتى تكون كلمة الإسلام هي العليا ، ويكون منهج الله هو المسيطر والنافذ في العالم دون غيره من الملل والمذاهب الفاسدة الضالة . وإذ ذاك تنتهي ويعم الأمن ويشيع الرخاء في العالم كله ، وهو قوله : { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } .

وفي السورة تشريع للغنية بتخميسها . وهو أن يكون خمسها لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . وأربعة الأخماس الأخرى للمقاتلين .

وفي السورة وصف للظروف النفسية والواقعية التي سبقت غزوة بدر الكبرى . وبذلك فإن الله يأمر عباده المؤمنين بالثبات عند لقاء العدو ، وليذكروا الله ذكرا كثيرا ليكونوا من المفلحين . ويحذرهم دائما من التنازع والشقاق والخصام فيما بينهم لما في ذلك من مدعاة لزوال شوكتهم وبأسهم وانهيارهم بالكلية .

وفي السورة تنديد بالخيانة ونقض العهود إلا أن يخاف المسلمون من غدر المعتدين الظالمين . فإن خافوا خيانتهم وغدرهم نبذوا إليهم عهدهم وميثاقهم ، بإعلامهم جهارا وعلانية أنهم نقضوا العهد معهم .

ويأمر الله المسلمين بإعداد القوة لمقاتلة المشركين المعتدين ما استطاعوا إلى الإعداد سبيلا .

وتبين تفضيلا تأويل قوله : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } كيلا يكون بعد ذلك مجال لمتحذلق متأول كذوب ، أو مفتر مغرض منافق ، أو منتفع دجال مريب ، يحمل هذه الآية غير ما تحتمل .

ويأمر الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يحرض المؤمنين على قتال المشركين الظالمين المتربصين ، الذين يعتدون على المسلمين في دينهم بالفتنة ، وفي أموالهم وثرواتهم بالنهب والسلب ، وفي أوطانهم وبلادهم وبالاغتصاب والاحتلال ، وفي كراماتهم وشرفهم بالامتهان والإذلال .

وفي السورة تشريع لمسألة الأسرى نعرض لها بالتبيين إن شاء الله .

بيان تفصيلي للسورة

بسم الله الرحمان الرحيم

قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين 1 إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته إيمانا وعلى ربهم يتوكلون 2 الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون 3 أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } .

في سبب نزل هذه الآية روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم اله تعالى العدو فانطلقت طائفة في أثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب . وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به ، فزلت : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } الآية .

وروي الإمام احمد أيضا عن أبي أمامة قال : سألت عبادة عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء ؛ أي عن سواء{[1616]} .

إذ تبين ذلك ، فإنه رب سائل يسأل عن مثل هذا الاختصام على المال والغنيمة بين الرعيل الأول ، أو الصفوة الأولى من المسلمين وهم الصحابة . ولا داعي للاستغراب أو العجب ، وإذا تذكرنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر من البشر وإن كانوا كراما عظاما مميزين في عطائهم وإخلاصهم وجزيل فضلهم وصنيعهم . فهم بشر تسري فهن طبائع الأناسي المخاليق . لا عجب ولا الحالة هذه أن تتجلى فيهم ظواهر الآدمية الأساسية كالرغبة في الامتلاك ، والخصام من أجل تحصيله . ومثل هذه الظواهر والخصال الخليقة لا ينجو منها كائن عاقل إلا أن يكون مميزا بنبوة أو وحي ، أو كان من جنس الملائكة النورانيين . أما غير هؤلاء من بن آدم ؛ فإنهم قد جيء بهم على هذه الطبيعة ذات الاستعداد المزدوج من السمو في مدارج الكمال وجنوح النفس لأخذ بحظها من الدنيا كالمال ونحوه . ومع ذلك كله فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظيم فضلهم وروعة صنيعهم وهائل تضحياتهم وكامل إيثارهم يظلون الصفوة المفضلة التي تأتي في المقدمة من سلم البشرية .

وإذا ما قورنت بالصحابة بقية الناس من سائر البشر ، كان البون بين الفريقين كالبون بين المشرقين . فلا مجال بعد ذلك لمتعثر أفاك أن يفتري الكذب والغمر على خير طائفة أقلتها هذه الأرض . لا جرم أن طائفة الصحابة نجوم الدنيا/ فيستضاء بنورهم وعلمهم طوال هذا الزمان بالرغم من افتراء الكاذبين والحاقدين والحاسدين .

أما الأنفال ، فهي جمع نفل بالتحريك ، ومعناه الغنية والهبة . والنفل : الزيادة على الواجب ، وهو التطوع . والنافلة معناها الغنيمة والعطية{[1617]} . ومعنى الآية : يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي اغتنمتها أنت وأصحابك يوم بدر لمن هي ، فقل هي لله ولرسوله . أي أن حكمها مختص بالله ورسوله ، فيأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته . والرسول صلى الله عليه وسلم من جهته يمتثل أمر الله فيها . فليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأي أحد منكم .

ولا ينبغي التساؤل في هذا الصدد –كما يتساءل كثير من خصوم الإسلام والمارقين- عن طبيعة المنطق الذي يجوز بمقتضاه اغتنام أموال الكافرين في الحرب . وجواب ذلك أن الكافرين أهل الفساد وباطل ، وهم بكفرهم وتمردهم على منهج الله الحق ، سادرون في غيهم وظلمهم في هذه الدنيا . وهم بأموالهم يتقوون على الإفساد وإشاعة الخراب والشر ، ويزدادون به قدرة على الإيذاء والإضرار بالعباد ؛ لأنهم عاتون ظالمون لا تأخذهم في البشرية رحمة ولا عدل ولا لين . فلزم بذلك أن يجردوا من الأسباب التي تمكنهم من إشاعة الفتن والمصائب والمخاوف والفوضى بين الشعوب . وأبزر سبب في هاتيك الأسباب ، الأموال وهي سبيل التعزيز والتقوية للظالمين المفسدين في الأرض . وعلى هذا لا غرابة في تقدير المنطق السليم ان تنتزع أموال هؤلاء الذين يؤذون البشر ويعتدون على الناس بقوتهم وكل طاقاتهم العقلية والمادية ، وفي طليعتها المال الذي يوطئ لهم سبيل الظلم والعدوان ؛ فلا غضاضة بذلك في انتزاع هذه الوسيلة إذهابا لكيد الظالمين المعتدين ، وإخمادا لمكرهم أن يمس العالمين .

قوله : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } أي خافوا الله بطاعة أوامره واجتناب معاصيه { وأصلحوا ذات بينكم } أي أصلحوا حال ما بينكم . أو أصلحوا ما بينكم من الحال حتى تكون حال ألفة وحبة واتفاق وليس حال ما تخاصم واستياب وتشاح . { وأطيعوا الله ورسوله } أي انتهوا أيها الذين طلبتهم الأنفال ، إلى أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أفاءه عليكم ؛ فقد بين الله لكم وجوه ما أفاءه عليكم وكيفية تقسيمه ؛ فأطيعوا والتزموا { إن كنتم مؤمنين } أي إن كنتم مصدقين رسول الله فيما أتاكم به من عند الله ؛ فسلموا لله ولرسوله فيما حكم في الأنفال .


[1616]:تفسير ابم كثير جـ 2 ص 283 وأسباب النزول للنيسابوري ص 155.
[1617]:القاموس المحيط جـ 4 ص 60.