السورة مدنية عدد آياتها خمس وسبعون ، نزلت بعد البقرة ، وهي السورة الثامنة في القرآن الكريم ، وقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية ، وجاء بعد الفاتحة أربع سور مدنية متتالية ، هن أطول السور المدنية في القرآن وهي : البقرة ، آل عمران ، النساء والمائدة . ثم تلت هذه الأربع سورتان مكيتان هما : الأنعام والأعراف ، وهما أطول السور المكية في القرآن . ثم جاءت سورة الأنفال والتي بعدها سورة التوبة وهما مدنيتان .
ومن المعلوم أن المكي قبل الهجرة ، ويتضمن أصول الدعوة ، وهي قضايا التوحيد ، والوحي ، والبعث ، كما يتضمن الإرشاد إلى أمهات الأخلاق الفاضلة . وقد عني في سبيل ذلك بتوجيه الأنظار إلى أدلة القضايا الثلاث المذكورة ، ومناقشة حجج المشركين فيها . كذلك فهو يعرض كثيرا لقصص الأولين ونتائج تكذيبهم لرسلهم كيما يتعظ الناس بتلك القصص ، وهذا واضح في سورتي الأنعام والأعراف وسائر السور المكية .
أما السور المدنية فإنها قد عنيت –فيما يتصل بالمخالفين- بمجادلة أهل الكتاب الذين يجاورون " المدينة " ، ويثيرون الشكوك والشبه فيما يختص برسالة محمد صلى الله عليه وسلم . أما فيما يختص بالمؤمنين فقد عنيت بتفصيل كثيرا من الأحكام التي ينظمون بها شئونهم الداخلية والخارجية . ونرى ذلك في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وسائر المدني من القرآن الكريم .
ولقد نزلت سورة الأنفال بمناسبة معركة بدر ، ولذلك أطلق عليها بعض الصحابة اسم " سورة بدر " . وكانت معركة بدر في يوم الجمعة ، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة . وهي الجولة الأولى من جولات الحق في إزهاق الباطل ، وإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، الذين قعد بهم الضعف في مكة وأخذوا في الضراعة إلى الله { ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا } النساء ، الآية 75 .
وقد استجاب الله ضراعتهم فهيأ لهم ظروف تلك المعركة التي تم فيها النصر للمؤمنين ، على قلة عددهم وعددهم . وبها عرف المشركون أنه مهما طال أمد باطلهم وامتد سلطانه ، فلا بد له أن يخر يوما صريعا أمام روعة الحق وقوة الإيمان . وإذا كانت بدر ، نصرا للمؤمنين وهزيمة للمشركين ، فهي في الوقت نفسه جاءت حافزة للقلوب المؤمنة كي يجدّ سيرها في طريق الهدى والرشاد .
وقد كان للمسلمين في تلك الغزوة شؤون ، أولها حينما طلب إليهم الرسول أن يخرجوا لمصادرة عير قريش فتساءلوا : أيخرجون إطاعة للرسول الكريم ؟ أم لا يخرجون ، حرصا منهم على أموالهم وأشغالهم في المدينة ؟ ثم إنهم خرجوا ، لكنهم وجدوا العير قد مرت ، وفاتهم أن يحصلوا عليها ، فتساءلوا من جديد : أيستجيبون للرسول الكريم ويقاتلون قوى الشرك التي تكتلت وخرجت من مكة لقتالهم ، أم يرجعون لأنهم لم يخرجوا للقتال ، ولم يستعدوا له ؟ وقد قاتلوا بعد أن أمدهم الله بروح من عنده ، وأمكنهم من عدوهم بالقتل والأسر والغنيمة ، فكان لهم شأن ثالث : أيقتلون الأسرى أو يطلقون سراحهم بالفداء ؟ وفي الغنائم التي حصلوا عليها : أيختص بها الشبان المحاربون أم يشاركهم فيها الحراس وأصحاب الرأي ؟
كانت هذه الشؤون هي الجو الذي نزلت فيه سورة الأنفال فعنيت ببيان الحلول فيها ، وقد بدأت بمسألة الأنفال ، وهي الغنائم ، ليكون مطلع الحديث تسجيلا لنعمة النصر التي ساقت إليهم تلك الأنفال ، وإيحاء إلى أن حصولهم عليها يقتضي أن يكون من بواعث الطاعة لا من بواعث المخالفة . وهكذا بدأت السورة بحل مشكلة الأنفال { يسألونك عن الأنفال } . . . وقد أرشدتهم السورة إلى أن الشأن في توزيعها لا يرجع إلى آرائهم ، وإنما هو لله ولرسوله { قل الأنفال لله والرسول } . وقد جاء الحكم بعد في قوله تعالى من السورة نفسها { واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } .
ثم جاء إرشاد المؤمنين إلى ما يجب أن يتحلوا به حتى يحصلوا على الظفر الدائم والنصر المستمر ، وهو القوة المعنوية التي بين الله عناصرها بقوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقا ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } الآيات 2 ، 3 ، 4 .
ثم يعود الحديث في السورة إلى موقفهم الأول حينما أمروا بالخروج ، وأن الذين كرهوا وتلكّأوا فيه أخذوا يتعللون مرة بالأموال ، وأخرى بعدم الاستعداد ، وبذلك انحرفوا عما يوجبه الإيمان عليهم من الطاعة والامتثال ، وعما يجب على المؤمنين الصادقين أن يلبوا دعوته وهي دعوة القوة إلى ذات الشوكة : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } الآيات 5 ، 6 ، 7 .
وفي شأن الأسرى وفدائهم أو قتلهم يقول تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . . . . الآية } .
وهكذا حلت سورة الأنفال المشاكل التي اعترضت المسلمين في غزوة بدر ، كما ذكرتهم بنعمة الله عليهم في تلك الغزوة من الإمداد بقوى النصر واستجابة الدعاء : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } الآية 9 . وذكرهم بسابق نعمه عليهم قبلها حينما آواهم بنصره ورزقهم من الطيبات ، بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض . كذلك أرشد الله تعالى المسلمين في هذه السورة إلى جملة من المبادئ إذا تمسكوا بها وحافظوا عليها حالفهم النصر والتوفيق . وفي هذا الجانب بين لهم السبب الذي يبيح الحرب ، والغاية التي تنتهي عندها ، { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين كله لله ، فإن الله بما تعملون بصير . ( 39 ) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم ، نعم المولى ونعم النصير( 40 ) } .
وأمر الله تعالى بإعداد العدة ضمانا للسلم ، وإرهابا للأعداء : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ، الله يعلمهم ، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون( 60 ) } .
ثم يقرر إيثار السلم على الحرب متى أمكن ووجد السبيل إليه : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم( 61 ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره للمؤمنين( 62 ) } .
ثم أمر الله تعالى بالمحافظة على العهود ، كما أمر بطاعة الرؤساء والتعاون والاحتفاظ بأسرار الدولة والثبات في الحرب ، وذلك في الآيات من 45 إلى 59 { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا . . . إلى قوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } .
وأخيرا بين الله تعالى في السورة أن المؤمنين في ظل هذه المبادئ وتلك الإرشادات ، المهاجرين منهم والأنصار ، بعضهم أولياء بعض ، وأن عليهم نصر الذين يستنصرونهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا ، وأنه لا ولاية بينهم وبين الكافرين ، فالذين كفروا بعضهم أولياء بعض ، والذين آمنوا من هاجر منهم ومن نصر بعضهم أولياء بعض : الآيتان : 74 و75 .
وهكذا بدأت السورة وختمت بأوصاف المؤمنين حقا . وفي هذا ، وما ذكر من نعم الله على المؤمنين يتضح لنا مدد النصر الذي يعده الله لعباده المخلصين . وهو مدد دائم يتبع الإيمان والإخلاص أينما وجدا ، فجدير بالمؤمنين وهم الآن في محنة كبرى من شر اليهود وحلفائهم الطغاة المستبدين ، جدير بنا –أن نعمل ما في وسعنا للحصول على هذا المدد بتقوية الإيمان بالله في نفوسنا ، وتوحيد صفوفنا ، والسير على هدف واحد وقلب مؤمن واحد لنسترد ما اغتصب من بلادنا ، ونستعيد المسجد الأقصى المبارك وما حوله إلى حظيرة الإسلام .
الأنفال : جمع نَفَل بالتحريك وهي الغنيمة .
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة بسبب مكر المشركين وتدبيرِهم أمر قتله ، وليكون للمسلمين دولة . وقد استقر بالمدينة ومن حوله المؤمنون من المهاجرين والأنصار ، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء ، لكيلا يُفتَن أهلُ الإيمان . فكانت غزوة بدر ، وكان فيها النصر المبين والغنائم . وكان وراء الغنائم بعض الاختلاف في قسمتها وسؤال المؤمنين عنها ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات يعالج فيها نفوس بعض المسلمين لتطهيرها من الاختلاف الذي نشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة ، وهو من أكبر أسباب الفشل .
فكان من مقتضيات الحكمة الإلهية أن يتلقى المؤمنون في مبدأ حياتهم هذا الدرس القوي الذي يقتلع بذور الشح والطمع وحب المادة من قلوبهم .
يسألونك أيها الرسول ، عن الغنائم لمن هي ؟ وكيف تقسم ، أللشُبّان أم للشيوخ ؟ أم للمهاجرين هي ، أم للأنصار ؟ أم لهم جميعا ؟ .
إنها لله والرسول ، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها ، فاتركوا الاختلاف بشأنها ، واتقوا الله واجعلوا خوف الله وطاعته شِعاركم ، وأصلحوا ما بينكم فاجعلوا الصلات بينكم محبة وعدلا . هذه صفةُ أهل الإيمان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.