سورة الأنفال نزلت بالمدينة ، وهي تشتمل على خمس وسبعين آية ، وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة بعض أحكام القتال ، والبواعث عليه ، وأسباب النصر ، ومقام القوة المعنوية في الانتصار ، وأحكام غنائم الحرب ، ومتى يكون الأسر ، واجتمع فيها الحكم الشرعي بحكمته ، وهي تذكر قصة غزوة بدر ، وبعض ما كان قبلها ، وما جاء في أعقابها من الإشارة إلى سببها ؛ وهو إخراج المشركين للنبي من مكة . ويذكر سبحانه فيها الاستعداد للحرب ، ووجوب السلم إن جنحوا لها . وتختم السورة الكريمة ببيان ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ، ووجوب هجرة المؤمنين من أرض يستذلون فيها ليجاهدوا مع أوليائهم من المؤمنين في سبيل عزة الإسلام وعزتهم .
1- أُخرج النبي من مكة مهاجراً بسبب مكر المشركين وتدبيرهم أمر قتله ، وليكون للمسلمين دولة ، واستقر بالمدينة حيث النصرة ، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء ، لكيلا يُفتَنَ أهل الإيمان ، فكانت غزوة بدر الكبرى ، وكان فيها النصر المبين والغنائم ، وكان وراء الغنائم بعض الاختلاف والتساؤل في توزيعها . يسألونك عن الغنائم : ما مآلها ؟ ولمن تكون ؟ وكيف تقسم ؟ فقل لهم - أيها النبي - : إنها لله والرسول ابتداء ، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها ، فاتركوا الاختلاف بشأنها ، واجعلوا خوف الله وطاعته شعاركم ، وأصْلحوا ما بينكم ، فاجعلوا الصِّلاتِ بينكم محبة وعدلا ، فإن هذه صفة أهل الإيمان .
مدنية ، وهي خمس وسبعون آية . قيل : إلا سبع آيات من قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } إلى آخر سبع آيات ، فإنها نزلت بمكة . والأصح أنها نزلت بالمدينة ، وإن كانت الواقعة بمكة .
قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال }الآية .
قال أهل التفسير : سبب نزول هذه الآية ، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر من أتى مكان كذا فله من النفل كذا ، ومن قتل قتيلاً فله كذا فلما التقوا تسارع إليه الشبان ، وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات ، فلما فتح الله على المسلمين ، جاؤوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الأشياخ : كنا ردءاً لكم ولو انهزمتم لانحرفتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا ، وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال : يا رسول الله إنك وعدت من قتل قتيلاً فله كذا ومن أسر أسيراً فله كذا وإنا قد قتلنا منهم سبعين وأسرنا منهم سبعين ، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال : والله يا رسول الله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء لا زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو ، ولكن كرهنا أن تعرى مصافك فيعطف عليك خيل من المشركين فيصيبونك ، فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال سعيد : يا رسول الله إن الناس كثير والغنيمة دون ذلك ، فإن تعط هؤلاء الذين ذكرت لا يبقى لأصحابك شيء ، فنزلت : { يسألونك عن الأنفال } .
وقال ابن إسحاق : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في العسكر ، فجمع ، فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل كل امرئ ما أصاب . وقال الذين كانوا يقاتلون العدو : لولا نحن ما أصبتموه ، وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأينا أن نقتل العدو ، وأن نأخذ المتاع ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو ، وقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منا .
وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، قال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل . وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا عن بواء . يقول : على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله ، وصلاح ذات البين . وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : { لما كان يوم بدر قتل أخي عمير ، وقتلت سعيد بن العاص ابن أمية ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكثيفة ، فأعجبني ، فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف ، فقال : " ليس هذا لي ولا لك ، اذهب فاطرحه في القبض " ، فطرحته ورجعت ، وبي مالا يعلمه إلا الله ، من قتل أخي ، وأخذ سلاحي ، وقلت : عسى أن يعطى هذا السيف من لم يبل ببلائي ، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أنزل الله عز وجل : { يسألونك عن الأنفال } الآية . فخفت أن يكون قد نزل في شيء ، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي الآن ، فاذهب فخذه فهو لك " .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت المغانم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء ، وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرةً ، أو سلكاً ، فهو غلول . قوله : { يسألونك عن الأنفال } أي : عن حكم الأنفال وعلمها ، وهو سؤال استخبار لا سؤال طلب ، وقيل : هو سؤال طلب ، قاله الضحاك وعكرمة . وقوله : { عن الأنفال } أي : من الأنفال ، عن بمعنى من . وقيل : ( عن ) صلة ، أي : يسألونك الأنفال ، وهكذا قراءة ابن مسعود بحذف عن . والأنفال : الغنائم ، واحدها : نفل ، وأصله الزيادة ، يقال : نفلتك وأنفلتك ، أي : زدتك ، سميت الغنائم أنفالاً : لأنها زيادة من الله تعالى لهذه الأمة على الخصوص . وأكثر المفسرين على أن الآية في غنائم بدر ، وقال عطاء : هي ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال ، من عبد ، أو أمة ، أومتاع ، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما شاء .
قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } يقسمانها كما شاءا . واختلفوا فيه ، فقال مجاهد وعكرمة ، والسدي : هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } الآية . كانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم فنسخها الله عز وجل بالخمس . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي ثابتة غير منسوخة ، ومعنى الآية : قل الأنفال لله مع الدنيا والآخرة وللرسول يضعها حيث أمره الله تعالى ، أي : الحكم فيها لله ولرسوله ، وقد بين الله مصارفها في قوله عز وجل : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول }الآية .
قوله تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ، أي : اتقوا الله بطاعته ، وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة ، وتسليم أمر الغنيمة إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم .
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنفال
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في معنى الأنفال التي ذكرها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هي الغنائم ، وقالوا : معنى الكلام : يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر لمن هي ، فقل هي لله ولرسوله . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن عكرمة : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأنفال : المغنم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الغنائم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الأنْفال قال : يعني الغنائم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ الأنفال : الغنائم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الأنفال : الغنائم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الغنائم .
وقال آخرون : هي أنفال السرايا . ذكر من قال ذلك .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عليّ بن صالح بن حيّ ، قال : بلغني في قوله : يَسأَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : السرايا .
وقال آخرون : الأنفال ما شذّ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابّة وما أشبه ذلك . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال دابّة أو عبد أو متاع ، ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن عبد الملك ، عن عطاء : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : هي ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة أو متاع أو نفل ، فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء .
قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، أن ابن عباس سئل عن الأنفال ، فقال : السلَب والفرس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ويقال : الأنفال : ما أخذ مما سقط من المتاع بعدما تقسم الغنائم ، فهي نفل لله ولرسوله .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عثمان بن أبي سليمان ، عن محمد بن شهاب أن رجلاً قال لابن عباس : ما الأنفال ؟ قال : الفرس والدرع والرمح .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : قال ابن جريج ، قال عطاء : الأنفال : الفرس الشاذّ ، والدرع ، والثوب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن ابن عباس ، قال : كان ينفّل الرجل فرس الرجل وسلبه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد ، قال : سمعت رجلاً سأل ابن عباس عن الأنفال ، فقال ابن عباس : الفرس من النفل ، والسّلب من النفل . ثم عاد لمسألته ، فقال ابن عباس ذلك أيضا ، ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم : فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن القاسم بن محمد ، قال : قال ابن عباس : كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال : لا آمرك ولا أنهاك . ثم قال ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلاّ زاجرا آمرا محللاً محرّما . قال القاسم : فسلط على ابن عباس رجل يسأله عن الأنفال ، فقال ابن عباس : كان الرجل ينفّل فرس الرجل وسلاحه . فأعاد عليه الرجل ، فقال له مثل ذلك ، ثم أعاد عليه حتى أغضبه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه ، أو على رجليه ، فقال الرجل : أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الملك ، عن عطاء : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك فيما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابّة أو عبد ، فهو نفل للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : النفل : الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس . ذكر من قال ذلك .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : هو الخمس . قال المهاجرون : لم يرفع عنا هذا الخمس ؟ لم يخرج منا ؟ فقال الله : هو لله والرسول .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنهم سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس ، فنزلت : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى الأنفال قول من قال : هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم إما من سلبه على حقوقهم من القسمة ، وإما مما وصل إليه بالنفل ، أو ببعض أسبابه ، ترغيبا له وتحريضا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين ، أو صلاح أحد الفريقين . وقد يدخل في ذلك ما قال ابن عباس من أنه الفرس والدرع ونحو ذلك ، ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس لأن ذلك أمره إلى الإمام إذا لم يكن ما وصلوا إليه لغلبة وقهر ، يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام ، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقهر .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، لأن النّفَل في كلام العرب إنما هو الزيادة على الشيء ، يقال منه : نفلتك كذا ، وأنفلتك : إذا زدتك ، والأنفال : جمع نَفَل ومنه قول لبيد بن ربيعة :
إنّ تَقْوَى رَبّنا خَيْرُ نَفَلْ ***وَباذْنِ اللّهِ رَيْثي وَعَجَلْ
فإذ كان معناه ما ذكرنا ، فكلّ من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة ، إن كان ذلك لبلاء أبلاه أو لغناء كان منه عن المسلمين ، بتنفيل الوالي ذلك إياه ، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل ، فهو منفل ما زيد من ذلك لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحقّ ، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة ، وكذلك كلّ ما رضخ لمن لا سهم له في الغنيمة فهو نفل ، لأنه وإن كان مغلوبا عليه فليس مما وقعت عليه القسمة . فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين الغنيمة والنفل ، أن الغنيمة هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر نفل منه منفل أو لم ينفل والنفَل : هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغناء عن الجيش على غير قسمة . وإذ كان ذلك معنى النفل ، فتأويل الكلام : يسألك أصحابك يا محمد عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر لمن هو قل لهم يا محمد : هو لله ولرسوله دونكم ، يجعله حيث شاء .
واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في غنائم بدر لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان نفّل أقواما على بلاء ، فأبلى أقوام وتخلّف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب ، فأنزل الله هذه الاَية على رسوله ، يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فماض جائز . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود بن أبي هند يحدث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أتَى مَكانَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا ، أوْ فَعَلَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا » . فتسارع إليه الشبان ، وبقي الشيوخ عند الرايات . فلما فتح الله عليهم ، جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الأشياخ : لا تذهبوا به دوننا فأنزل الله عليه الاَية : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ صَنَعَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا » قال : فتسارع في ذلك شبان الرجال ، وبقيت الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنائم ، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقالت الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم ، وكنا تحت الرايات ، ولو انكشفتم لفئتم إلينا فتنازعوا ، فأنزل الله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا وكَذَا مِنَ النّفَلِ » قال : فتقدّم الفتيان ولزم المشيخة الرايات ، فلم يبرحوا ، فلما فتح عليهم ، قالت المشيخة : كنا ردءا لكم ، فلو انهزمتم انحزتم إلينا ، لا تذهبوا بالمغنم دوننا فأبى الفتيان وقالوا : جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا فأنزل الله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : فكان ذلك خيرا لهم ، وكذلك أيضا : أطيعوني فإني أعلم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة في هذه الاَية : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَنَعَ كَذَا فَلَهُ مِنَ النّفَلِ كَذَا » فخرج شبان من الرجال فجعلوا يصنعونه ، فلما كان عند القسمة ، قال الشيوخ : نحن أصحاب الرايات ، وقد كنا ردءا لكم فأنزل الله في ذلك : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب الزبيري ، قال : ثني المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن سليمان بن موسى ، عن مكحول مولى هذيل ، عن أبي سلام ، عن أبي أُمامة الباهلي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : أنزل الله حين اختلف القوم في الغنائم يوم بدر : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ . . . إلى قوله : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم عن سواء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، قال : ثني عبد الرحمن بن الحرث وغيره من أصحابنا ، عن سليمان بن موسى الأسدي ، عن مكحول ، عن أبي أمامة الباهلي ، قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن سواء ، يقول : على السواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين .
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الاَية لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئا قبل قسمتها ، فلم يعطه إياه ، إذ كان شركا بين الجيش ، فجعل الله جميع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك .
حدثني إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن عاصم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف ، فقلت : يا رسول الله هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فسألته إياه ، فقال : «لَيْسَ هذا لي ولا لَكَ » . قال : فلما وليت ، قلت : أخاف أن يعطيه من لم يبل بلائي . فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي ، قال : فقلت : أخاف أن يكون نزل فيّ شيء قال : «إنّ السّيْفَ قد صَارَ لي » . قال : فأعطانيه ، ونزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا عاصم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن مالك ، قال : لما كان يوم بدر ، جئت بسيف ، قال : فقلت : يا رسول الله ، إن الله قد شفي صدري من المشركين أو نحو هذا ، فهب لي هذا السيف فقال لي : «هَذَا لَيْسَ لي وَلا لَكَ » . فرجعت فقلت : عسى أن يعطى هذا من لم يبل بلائي فجاءني الرسول ، فقلت : حدث فيّ حدث : فلما انتهيت ، قال : «يا سَعْدُ إنّكَ سألْتَنِي السّيْفَ وَلَيْسَ لي ، وَإنّهُ قَدْ صَارَ لي فَهُوَ لَكَ » . ونزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : أصبت سيفا يوم بدر ، فأعجبني ، فقلت : يا رسول الله هبه لي فأنزل الله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .
حدثنا ابن المثنى وابن وكيع ، قال ابن المثنى ، ثني معاوية ، وقال ابن وكيع : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الشيباني ، عن محمد بن عبيد الله ، عن سعيد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكُتيفة ، فجئت به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اذْهَبْ فاطْرَحَهُ في القبَض » فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلاّ الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال : فما جاوزت إلاّ قريبا حتى نزلت عليه سورة الأنفال ، فقال : «اذْهَبْ فَخُذُ سَيْفَكَ » . ولفظ الحديث لابن المثنى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة جميعا ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي بكر ، عن قيس بن ساعدة ، قال : سمعت أبا أسيد بن مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان السيف يدعى المرَزُبان فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل ، أقبلت به فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يُسأله ، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاه إياه .
حدثني يحيى بن جعفر ، قال : حدثنا أحمد بن أبي بكر ، عن يحيى بن عمران ، عن جده عثمان بن الأرقم ، عن عمه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : «رُدّوا ما كانَ مِنَ الأنْفالِ » فوضع أبو أسيد الساعدي سيف بن عائد المرزبان ، فعرفه الأرقم فقال : هبه لي يا رسول الله قال : فأعطاه إياه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شبعة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : أصبت سيفا . قال : فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله نفلنيه فقال : «ضَعْهُ » ثم قام فقال : يا رسول الله نفلنيه قال : «ضَعْهُ » قال : ثم قام فقال : يا رسول الله نفلنيه اجُعل كمن لا غناء له ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أخَذْتَهُ » فنزلت هذه الاَية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أخذت سيفا من المغنم ، فقلت : يا رسول الله هب لي هذا فنزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، في قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : قال سعد : كنت أخذت سيف سعيد بن العاص بن أمية ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : أعطني هذا السيف يا رسول الله فسكت ، فنزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ . . . إلى قوله : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال : فأعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل نزلت لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر فأعلمهم الله أن ذلك لله ولرسوله دونهم ليس لهم فيه شيء . وقالوا : معنى «عن » في هذا الموضع «من » وإنما معنى الكلام : يسألونك من الأنفال ، وقالوا : قد كان ابن مسعود يقرؤه : «يَسْألُونَكَ الأنْفالَ » على هذا التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، قال : كان أصحاب عبد الله يقرءونها : «يَسألُونَكَ الأنْفالَ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هي في قراءة ابن مسعود «يَسألُونَكَ الأنْفالَ » . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : الأنفال : المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ، ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول . فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها ، قال الله : يَسألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفَالُ لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، ثم أنزل الله : واعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن سمي في الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا . قال : واختلفوا فكانوا أثلاثا . قال : فنزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرسُولِ وملكه الله رسوله ، فقسمه كما أراه الله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أن الناس سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر ، فنزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .
قال : حدثنا عباد بن العوام ، عن جويبر ، عن الضحاك : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك أن تُنَفّلهُمْ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك الأنفال .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى أخبر في هذه الاَية عن قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يعطيهموها ، فأخبرهم الله أنها لله وأنه جعلها لرسوله . وإذا كان ذلك معناه جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه ، وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش .
واختلفوا فيها ، أمنسوخة هي أم غير منسوخة ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة ، وقالوا : نسخها قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، قالا : كانت الأنفال لله وللرسول فنسختها : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمَسَهُ وللرّسُولِ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفا ، فاختصم فيه وناس معه ، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم ، فقال الله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ والرّسُولِ . . . الاَية ، فكانت الغنائم يومئذٍ للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، فنسخها الله بالخمس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني سليم مولى أم محمد ، عن مجاهد ، في قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : نسختها : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، أو عكرمة وعامر ، قالا : نسخت الأنفال : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ .
وقال آخرون : هي محكمة وليست منسوخة . وإنما معنى ذلك : قل الأنفال لله ، وهي لا شكّ لله مع الدنيا بما فيها والاَخرة ، وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه . ذكر من قال ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ فقرأ حتى بلغ : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فسلموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاء ويضعانها حيث أرادا ، فقالوا : نعم . ثم جاء بعد الأربعين : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية ، ولكم أربعة أخماس ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خَيبر : «وَهَذا الخُمُسُ مَرْدُودٌ على فُقَرائِكُمْ يَصْنَعُ اللّهُ وَرَسُولَهُ فِي ذلكَ الخُمْسَ ما أحَبّا ، وَيَضَعانِهِ حَيْثُ أحَبّا ، ثم أخبرنا الله الذي يجب من ذلك » ثم قرأ الاَية : لِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْلا يَكونَ دُولَةً بينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم ينفل من شاء ، فنفل القاتل السلب ، وجعل للجيش في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث بعد الخمس ، ونفل قوما بعد سهمانهم بعيرا بعيرا في بعض المغازي . فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ينفل على ما يرى مما فيه صلاح المسلمين ، وعلى من بعده من الأئمة أن يستنوا بسنته في ذلك ، وليس في الاَية دليل على أن حكمها منسوخ لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت ، وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ إلاّ بحجة يجب التسليم لها ، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلاّ ما أبطل حكمه حادث حكم بخلافه ينفيه من كلّ معانيه ، أو يأتي خبر يوجب الحجة أن أحدهما ناسخ الاَخر . وقد ذُكر عن سعيد بن المسيب أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلاً منه لقول الله تعالى : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، قال : أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شيء ، فقال : إنكم أرسلتم إليّ تسألوني عن الأنفال ، فلا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد بيّنا أن للأئمة أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم بفعله ، فينفلوا على نحو ما كان ينفل ، إذا كان التنفيل صلاحا للمسلمين .
القول في تأويل قوله تعالى : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
يقول تعالى ذكره : فخافوا الله أيها القوم ، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه ، وأصلحوا الحال بينكم .
واختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله : وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فقال بعضهم : هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا في الغنيمة أن يردّوا ما أصابوا منها بعضهم على بعض . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ قال : كان نبيّ الله ينفّل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفار إذا قتله ، ثم أنزل الله : فاتّقوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أمرهم أن يردّ بعضُهم على بعض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفل الرجل على قدر جِدّه وغَنائه على ما رأى ، حتى إذا كان يوم بدر وملأ الناس أيديهم غنائم ، قال أهل الضعف من الناس : ذهب أهل القوّة بالغنائم فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ ليردّ أهل القوّة على أهل الضعف .
وقال آخرون : هذا تحريج من الله على القوم ، ونهي لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا خالد بن يزيد ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قالا : حدثنا أبو إسرائيل ، عن فضيل ، عن مجاهد ، في قول الله : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ قال : حرّج عليهم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن سفيان بن حسين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ قال هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم . قال عباد ، قال سفيان : هذا حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ : أي لا تستبوا .
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث البين ، فقال بعض نحويي البصرة : أضاف ذات إلى البين وجعله ذاتا ، لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث ، وبعضا يذكر نحو الدار ، والحائط أنث الدار وذكر الحائط . وقال بعضهم : إنما أراد بقوله : ذَاتَ بَيْنِكُمْ : الحال التي للبين فقال : وكذلك «ذات العشاء » يريد الساعة التي فيها العشاء . قال : ولم يضعوا مذكرا لمؤنث ولا مؤنثا لمذكر إلاّ لمعنى .
قال أبو جعفر : هذا القول أولى القولين بالصواب للعلة التي ذكرتها له .
وأما قوله : وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ فإن معناه : وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم ، فقد بين لكم وجوهه وسبُله . إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقول : إن كنتم مصدّقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فسلموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا ، ويضعانها حيث أرادا .
{ يسألونك عن الأنفال } أي الغنائم يعني حكمها ، وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الأمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه . { قل الأنفال لله والرسول } أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به . وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار . وقيل شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم -وكان المال قليلا- فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء ، ولهذا قيل : لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه . وقرئ " ويسألونك علنفال " بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ، ويسألونك الأنفال أي يسألك الشبان ما شرطت لهم . { فاتقوا الله } في الاختلاف والمشاجرة . { وأصلحوا ذات بينكم } الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول . { وأطيعوا الله ورسوله } فيه . { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك ، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ، والاتقاء عن المعاصي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
تفسير سورة الأنفال{[1]} على بركة الله
هي مدنية كلها كذا قال أكثر الناس ، وقال مقاتل هي مدنية غير آية واحدة وهي قوله تعالى ' { وإذ يمكر بك الذين كفروا } ' الآية كلها وهذه الآية نزلت في قصة وقعت بمكة ويمكن أن تنزل الآية في ذلك بالمدينة ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه{[2]} .
النْفل والنَفل والنافلة في كلام العرب : الزيادة على الواجب ، وسميت الغنيمة نفلاً لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل ، ومنه قول لبيد : [ الرمل ]
إنَّ تَقْوى ربِّنا خَيْرُ نَفَلْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5189]}
إنَّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا*** ونعفُّ عند مقاسم الأنفالِ{[5190]}
والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسؤول ، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه ، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم «الأنفال » فهو من الضرب الأول ، وقالت فرقة إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها ، واحتجوا في ذلك بقراءة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرف وعكرمة والضحاك وعطاء «يسألونك الأنفال » ، وقالوا في قراءة من قرأ عن أنها بمعنى «من » ، فهذا الضرب الثاني من السؤال واختلف الناس في المراد ب { الأنفال } في هذه الآية ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد هي الغنائم مجملة ، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الذي صنع له وحمته وآنسته ، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا ، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا .
وقال ابن عباس في كتاب الطبري : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرض الناس قبل ذلك فقال : من قتل قتيلاً أو أسر أسيراً فله كذا وله كذا ، فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات ، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها ، وقالت نحن أولى بالمغنم ، وساءت أخلاقهم في ذلك ، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا ، فقسمه حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السواء{[5191]} .
وأسند الطبري وغيره عن أبي أمامة الباهلي{[5192]} ، قال : سألت عبادة بن الصامت{[5193]} عن «الأنفال » فقال فينا أهل بدر نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه عليه السلام عن بواء{[5194]} .
قال القاضي أبو محمد : يريد عن سواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين ، مما جرى أيضاً يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه ، فقال : ليس هذا لي ولا لك ، فاطرحه في القبض فطرحته فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال فما جاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال ، فقال : اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي فهو لك .
قال القاضي أبو محمد : وفي بعض طرق هذا الحديث ، قال سعد : فقلت لما قال لي ضعه في القبض أني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي ، قال : فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلفي ، قال فقلت أخاف أن يكون نزلت فيّ شيء ، فقال : إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت { يسألونك عن الأنفال }{[5195]} وأسند الطبري أيضاً عن أبي أسيد مالك بن ربيعة{[5196]} قال : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان يسمى المرزبان ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به ، فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله ، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه{[5197]} .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة ، لا سيما من أبلى ، فأنزل الله عز وجل الآية ، فرضي المسلمون وسلموا ، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليه غنائمهم ، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد : كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب ، ثم نسخ بقوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء }{[5198]} وقال ابن زيد : لم يقع في الآية نسخ ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس ، وحكم القسمة نازل خلال ذلك ، ولا شك في أن الغنائم وغيرها ، والدنيا بأسرها هي لله وللرسول .
قال القاضي أبو محمد : وقال ابن عباس أيضاً { الأنفال } في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه ، وهذا أيضاً يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر . وقال علي بن صالح بن جني{[5199]} والحسن فيما حكى المهدوي : { الأنفال } في الآية ما تجيء به السرايا خاصة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة ، بل يجيء خارجاً عن يوم بدر ، وقال مجاهد : { الأنفال } في الآية : الخمس ، قال المهاجرون : لم يخرج منا هذا الخمس ، فقال الله تعالى هو لله وللرسول ، وهذا أيضاً قول قليل التناسب مع الآية ، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً : { الأنفال } في الآية : ما شذ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس العائر والعبد الآبق{[5200]} وهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء ، وقال ابن عباس أيضاً : { الأنفال } في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا ، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف ، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه ، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال : { الأنفال } : الأسارى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم ، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئاً من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء{[5201]} وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب{[5202]} من الاختلاف ، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الجمهور : النفل باق إلى يوم القيامة ، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب ، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة : إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة ، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده ، وقالت فرقة : إنما ينفل الإمام قبل القتال ، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا ، وقال الشافعي وابن حنبل : لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس ، وقال إبراهيم النخعي : ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس ، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم : الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي : لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس : وقال ابن المسيب : إنما ينفل الإمام من خمس الخمس ، وقال مالك رحمه الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا ، ولا أحب لأحد أن يسفك دماً على مثل هذا ، قال سحنون : فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة .
وقال مالك رحمه الله : لا يجوز أن يقول الإمام لسرية : ما أخذتم فلكم ثلثه ، قال سحنون : يريد ابتداء ، فإن نزل مضى ولهم انصباؤهم في الباقي ، وقال سحنون : إذا قال الإمام لسرية : ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه ، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى ، ويستحب على مذهب مالك إن نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف ، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهباً أو فضة أو لؤلؤاً أو نحو هذا ، وقال بعضهم : النفل جائز من كل شيء ، وأما السلب فقال مالك رحمه الله : الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره : وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر : السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر : السلب حق للقاتل بحكم النبي صيلى الله عليه وسلم ، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر : قاله الإمام أو لم يقله وقال مالك : إذ قال الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه فذلك لازم ، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد ، وقال الشافعي وابن حنبل : تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة ، وقال إسحاق بن راهويه : إن كان السلب يسيراً فهو للقاتل وإن كان كثيراً خمس ، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك{[5203]} حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفاً ، فخمس ذلك ، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود ، وقال مكحول : السلب مغنم وفيه الخمس ، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : يريد يخمس على القاتل وحده وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم : ويجزىء شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة ، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه .
قال القاصي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال الشافعي : لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلاً مشيحاً مبارزاً ، وأما من قتل منهزماً فلا ، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف : للقاتل السلب منهزماً كان القتيل أو غير منهزم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع{[5204]} في اتباعه ربيئة{[5205]} الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه{[5206]} ، وقال ابن حنبل : لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط ، واختلفوا في السلب ، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافاً أنه من السلب ، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه ، وقال أحمد بن حنبل في الفرس : ليس من السلب ، وكذلك إن كان في هميانه{[5207]} أو منطقته دناينر أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافاً أنه ليس من السلب واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب ، وقالت : فرقة : ليس من السلب ، وهذا مروي عن سحنون رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب ، قال ابن حبيب في الواضحة : والسواران من السلب ، وتردد الشافعي هل هذه كلها من السلب أم لا ؟
قال القاضي أبو محمد : وإذا قال الإمام : من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل ذمي قتيلاً فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ{[5208]} لأهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب ، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلاً فله سلبه .
قال القاضي أبو محمد : وأما الصفي{[5209]} فكان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل : { فاتقوا الله } معناها في الكلام ، اجعل بينك وبين المحذور وقاية ، وقوله { وأصلحوا ذات بينكم } تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح ، و { ذات } في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته ، والذي يفهم من { بينكم } هو معنى يعم جميع الوصل{[5210]} والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه ، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم ، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه ، وذلك في قوله : { عليم بذات الصدور }{[5211]} و { ذات الشوكة }{[5212]} فإنها هاهنا مؤنثة قولهم : الذئب مغبوط بذي بطنه{[5213]} ، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه ، وقد تقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا ، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة*** ذات العشاء ولا تسري أفاعيها{[5214]}
وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال : { ذات بينكم } الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء .
قال القاضي أبو محمد : ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض ، وقال الزجاج البين ها هنا الوصل ، ومثله قوله عز وجل : { لقد تقطع بينكم }{[5215]} .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا كله نظر ، وقوله { وأطيعوا الله ورسوله } لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم ، وقوله : { إن كنتم مؤمنين } أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم { وأطيعوا } هذا عند سيبويه ، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا ، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط{[5216]} .