افتتحت هذه السورة بالثناء على الله خالق السماوات والأرض على غير مثال ، جاعل الملائكة رسلا إلى عباده ذوي أجنحة عديدة . ما يرسله الله للناس من فضل لا أحد يمنعه ، وما يمسكه لا أحد يرسله ، ويدعو الناس إلى ذكر النعمة ، إذ لا خالق معه يمدهم بالرزق ولا إله معه يصرفون إليه . وكذب القوم دعوتك فلك فيمن سبق من الرسل عبرة ، ولك فيما وعدنا من رجعة إلينا ما يسليك ، وواجب على الناس ألا تغرهم الدنيا بزخارفها ، ولا يغرهم الشيطان ، وأمره مقصور على دعوة متابعيه إلى التهلكة ، ومن تابعه قاده إلى النار ، ولا يستوي من زين له الشيطان سوء عمله ومن تركه ، وإذا كان شأن الناس ذلك فلا تأسف على عدم إيمانهم ، فمن أرسل السحاب وأحيا به الموات يحيي الأموات للحساب والجزاء ، ومن أراد المنعة اعتز بالله ومن اعتز بغيره أذله ، وأعمال العباد تصعد إليه فيقبل عمل المؤمنين ويحبط عمل الكافرين . ودليل قدرته على البعث والنشور : أنه خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم جعلهم أزواجا ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، خلق الماء العذب والملح ، ومن كل تحصل الأرزاق ، وأدخل الليل في النهار وأدخل النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر ، كل يجري إلى أجل مسمى ، هذا القادر هو الإله الحق والذين يدعون من دونه لا يملكون ، وإذا دعوا لا يسمعون ، وإذا سمعوا لا يستجيبون ، ويوم القيامة يكفرون بشرك من أشركوهم مع الله ، وهو عادل يحمل كل نفس عملها ، ويوجه الرسل أن يقصدوا بدعواتهم من يخشون الله ، ووظيفة الرسول إنذار قومه ، وما من أمة إلا خلا فيها نذير .
وتعود السورة إلى دلائل القدرة ، فالماء تخرج به الثمرات المختلفة ، والجبال طرائق بيض وحمر وسود ، والناس دواب مختلف ألوانهم ، كل ذلك يحمل على الخشية منه ، ومن يتلو كتاب الله الذي أورثه من اصطفاه يدخل الجنة يمتع بما فيها ، ومن كفر يدخل النار لا يقضي عليه فيها ولا يخفف عنه من عذابها ، يطلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح من عمله ، وقد أمهل وقتا يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير . وهو سبحانه جعلكم خلائف الأرض ، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا . وقد أقسم المعاندون : لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى ممن سبقوهم ، فلما جاءهم استكبروا ، فحاق بهم مكرهم ، وما قدروا الله حق قدره ، ولو يؤاخذ الله أهل الأرض بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ، ولكن يؤخرهم إلى أجل ، فإذا جاء فإن الله كان بعباده بصيرا .
1- الثناء الجميل حق لله - وحده - موجد السماوات والأرض على غير مثال سبق ، جاعل الملائكة رسلاً إلى خلقه ذوى أجنحة مختلفة العدد ، اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا يزيد في الخلق ما يشاء أن يزيد ، لا يعجزه شيء ، إن الله على كل شيء عظيم القدرة .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يمدح الله تعالى نفسه الكريمة المقدسة ، على خلقه السماوات والأرض ، وما اشتملتا عليه من المخلوقات ، لأن ذلك دليل على كمال قدرته ، وسعة ملكه ، وعموم رحمته ، وبديع حكمته ، وإحاطة علمه .
ولما ذكر الخلق ، ذكر بعده ما يتضمن الأمر ، وهو : أنه { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا } في تدبير أوامره القدرية ، ووسائط بينه وبين خلقه ، في تبليغ أوامره الدينية .
وفي ذكره أنه جعل الملائكة رسلا ، ولم يستثن منهم أحدا ، دليل على كمال طاعتهم لربهم وانقيادهم لأمره ، كما قال تعالى : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
ولما كانت الملائكة مدبرات بإذن اللّه ، ما جعلهم اللّه موكلين فيه ، ذكر قوتهم على ذلك وسرعة سيرهم ، بأن جعلهم { أُولِي أَجْنِحَةٍ } تطير بها ، فتسرع بتنفيذ ما أمرت به . { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي : منهم من له جناحان وثلاثة وأربعة ، بحسب ما اقتضته حكمته .
{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } أي : يزيد بعض مخلوقاته على بعض ، في صفة خلقها ، وفي القوة ، وفي الحسن ، وفي زيادة الأعضاء المعهودة ، وفي حسن الأصوات ، ولذة النغمات .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته تعالى تأتي على ما يشاؤه ، ولا يستعصي عليها شيء ، ومن ذلك ، زيادة مخلوقاته بعضها على بعض .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {[24437]} } .
قال سفيان الثوري ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما [ لصاحبه ] : أنا فطرتها ، أنا بدأتها . فقال ابن عباس أيضًا : { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } بديع السموات والأرض . {[24438]}
وقال الضحاك : كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض فهو : خالق السموات والأرض .
وقوله : { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا } أي : بينه وبين أنبيائه ، { أُولِي أَجْنِحَةٍ } أي : يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعًا { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } أي : منهم مَنْ له جناحان ، ومنهم مَنْ له ثلاثة{[24439]} ومنهم مَنْ له أربعة ، ومنهم مَنْ له أكثر من ذلك ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمَائة جناح ، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ؛ ولهذا قال : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قال السدي : يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء .
وقال الزهري ، وابن جُرَيْج{[24440]} في قوله : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } يعني : حسن الصوت . رواه عن الزهري البخاري في الأدب ، وابن أبي حاتم في تفسيره .
وقرئ في الشاذ : " يَزِيدُ في الحلق " ، بالحاء المهملة ، والله أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم { الحمد لله فاطر السماوات والأرض } مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه ، والإضافة محضة لأنه بمعنى الماضي . { جاعل الملائكة رسلا } وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة ، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه . { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } ذوي أجنحة متعددة متفاوة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ، أو يسرعون بها نحو ما وكلهم الله عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به ، ولعله لم يرد به خصوصية الإعداد ونفي ما زال عليها ، لما وري أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح { يزيد في الخلق ما يشاء } استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم ، لأن اختلاف الأصناف ، والأنواع بالخواص والفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال ، والآية متناولة زيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وحصافة العقل وسماحة النفس . { إن الله على كل شيء قدير } وتخصيص بعض ، الأشياء بالتحصيل دون بعض ، إنما هو من جهة الإرادة .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
هذه السورة مكية{[1]}
الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس على أتم عموم ، لأن { الحمد } بالإطلاق على الأفعال الشريفة والكمال هو لله تعالى والشكر مستغرق فيه لأنه فصل من فصوله ، و { فاطر } معناه خالق لكن يزيد في المعنى الانفراد بالابتداء لخلقها ، ومنه قول الأعرابي المتخاصم في البئر عند ابن عباس : أنا فرطتها ، أراد بدأت حفرها . قتال ابن عباس ما كنت أفهم معنى { فاطر } حتى سمعت قول الأعرابي{[9686]} ، وقرأ الجمهور «الحمد لله فطر » ، وقرأ جمهور الناس «جاعلِ » بالخفض ، وقرأت فرقة «جاعلُ » بالرفع على قطع الصفة ، وقرأ خليد بن نشيط «جعل » على صيغة الماضي «الملائكة » نصباً ، فأما على هذه القراءة الأخيرة فنصب قوله { رسلاً } على المفعول الثاني ، وأما على القراءتين المتقدمتين فقيل أراد ب «جاعل » الاستقبال لأن القضاء في الأزل وحذف التنوين تخفيفاً وعمل عمل المستقبل في { رسلاً } ، وقالت فرقة { جاعل } بمعنى المضي و { رسلاً } نصب بإضمار فعل ، و { رسلاً } معناه بالوحي وغير ذلك من أوامره ، فجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل رسل ، والملائكة المتعاقبون رسل ، والمسددون لحكام العدل رسل وغير ذلك ، وقرأ الحسن «رسْلاً » بسكون السين ، و { أولي } جمع واحده ذو ، تقول ذو نهية والقوم أولو نهي ، وروي عن الحسن أنه قال في تفسير قول مريم { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً }{[9687]} [ مريم : 18 ] قال علمت مريم أن التقي ذو نهية .
وقوله { مثنى وثلاث ورباع } ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل للعدل والصفة ، وفائدة العدل الدلالة على التكرار لأن { مثنى } بمنزلة قولك اثنين اثنين ، وقال قتادة : إن أنواع الملائكة هي هكذا منها ما له جناحان ، ومنها ما له ثلاثة ، ومنها ما له أربعة ، ويشذ منها ما له أكثر من ذلك ، وروي أن لجبريل ستمائة جناح منهِا اثنان تبلغ من المشرق إلى المغرب ، وقالت فرقة المعنى أن في كل جانب من الملك جناحين ، ولبعضهم ثلاثة في كل جانب ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لكل واحد لما اعتدلت في معتاد ما رأيناه نحن من الأجنحة ، وقيل بل هي ثلاثة لكل واحد كالحوت والله أعلم بذلك ، وقوله تعالى : { يزيد في الخلق ما يشاء } تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عن الخبر بالملائكة أولي الأجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا المزيد هو حسن لصوت قال الهيثم الفارسي : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيراً ، وقيل الزيادة الخط الحسن ، وقال النبي عليه السلام :
«الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً »{[9688]} ، وقال قتادة الزيادة ملاحة العينين .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا وهذه الإشارة إنما ذكرها من ذكرها على جهة المثال لا أن المقصود هي فقط ، وإنما مثل بأشياء هي زيادات خارجة عن الغالب الموجود كثيراً وباقي الآية بين .
سميت { سورة فاطر } في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير . وسميت في صحيح البخاري وفي سنن الترمذي وفي كثير من المصاحف والتفاسير { سورة الملائكة } لا غير . وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب الإتقان .
فوجه تسميتها { سورة فاطر } أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى . ووجه تسميته { سورة الملائكة } أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى .
وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين : آية { أن الذين يتلون كتاب الله } الآية ، وآية { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } الآية ، ولم أر هذا لغيره .
وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سورة القرآن . نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم .
وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستا وأربعين ، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين .
اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية .
وعلى إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله . وإثبات البعث والدار الآخرة .
وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه .
وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم .
وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم .
والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين .
وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا .
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم ، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده .
افتتاحها ب { الحمد لله } مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها ، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة مِن خلقِهِ السماوات والأرض وأفضللِ ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإِثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذان { الحمد لله } باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة .
والفاطر : فاعل الفَطْر ، وهو الخلق ، وفيه معنى التكون سريعاً لأنه مشتق من الفطر وهو الشق ، ومنه { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } [ الشورى : 5 ] { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] . وعن ابن عباس « كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض ( أي لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتُها . وأحسب أن وصف الله ب { فاطر السماوات والأرض } مما سبق به القرآن ، وقد تقدم عند قوله تعالى { فاطر السماوات والأرض } في سورة الأنعام ( 14 ) ، وقوله : { وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض } في آخر سورة يوسف ( 101 ) فضُمَّه إلى ما هنا .
وأما { جاعل } فيطلق بمعنى مكوِّن ، وبمعنى مُصَيِّر ، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله : { رسلاً } بين أن يكون مفعولاً ثانياً ل { جاعل } أي جعل الله من الملائكة ، أي ليكونوا رسلاً منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية ، وبين أن يكون حالاً من { الملائكة } ، أي يجعل من أحوالهم أن يُرسَلوا . ولصلاحية المعنيين أُوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول { فاطر } .
وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم .
وأجري عليهم صفة أنهم رُسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة ، أي جاعلهم رسلاً منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس .
وقوله { أولي أجنحة } يجوز أن يكون حالاً من { الملائكة } ، فتكون الأجنحة ذاتيةً لهم من مقومات خلقتهم ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { رسلاً } فيكون خاصة بحالة مَرسوليتهم .
و { أجنحة } جمع جَناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإِنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعوداً ونزولاً لا يعلم كنهها إلا الله تعالى .
و { مثنى } وأخواتُه كلمات دالّة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مَثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثُلاث ورُباع . والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة ، وقيل : يجوز إلى العشرة . والمعنى : اثنين اثنين الخ . وتقدم قوله : { أن تقوموا لله مثنى وفرادى } في سورة سبأ ( 46 ) .
والمعنى : أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف ، وبعضها ثلاثةً ثلاثة ، وبعضها أربعةً أربعةً ، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح » .
ويجوز أن تكون أعداد الأجنحة متغيرة لكل ملك في أوقات متغيرة على حسب المسافات التي يؤمرون باختراقها من السماوات والأرضين . والأظهر أن الأجنحة للملائكة من أحوال التشكل الذي يتشكلون به . وفي رواية الزهري أن جبريل قال للنبيء صلى الله عليه وسلم « لو رأيت إسرافيل إنّ له لاَثنَيْ عشرَ ألفَ جناح وإن العرش لعلى كاهله » .
واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب « المقاصد » « إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة ، شأنهم الخير والطاعة ، والعلم ، والقدرة على الأعمال الشاقة ، ومسكنُهم السماوات ، وقال : هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة » . اهـ . ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات .
وعندي : أن تعريف صاحب « المقاصد » لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليطٍ في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات .
والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال : أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة ، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة ، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم ، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض .
وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورانيتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم . دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [ الأنفال : 12 ] ، وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية الكلبي ، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة في صورة « رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفَر ، ولا يَعرفه منا أحد ( أي من أهل المدينة ) حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه » الحديث ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقهم الرجل " هل تدرون من السائل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " كما في « الصحيحين » عن عمر بن الخطاب .
وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي ، وظهورهُ للنبيء صلى الله عليه وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها في غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر ، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ناساً لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم .
وجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما ذكر من صفات الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة ، فأجيب بهذا الاستئناف بأن مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا تُوقَّت .
ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه . فالمراد بالخلق : المخلوقات كُلّها ، أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خَلققٍ آخر . فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض ، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام . ويجوز أن تكون جملة { يزيد في الخلق ما يشاء } صفة ثانية للملائكة ، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل : مثنى وثلاث ورباع وأكثر ، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى { يزيد في الخلق ما يشاء } . وعليه فالمراد بالخلق ما خُلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على من لبعض آخر .
وجملة { إن الله على كل شيء قدير } تعليل لجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } ، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } [ إبراهيم : 10 ] ، فأجيبوا بقول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على ما يشاء من عباده } [ إبراهيم : 11 ] .