المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

هي مدنية ، وعدد آياتها عشرون ومائة ، وهي من أواخر سور القرآن نزولا ، وقد اشتملت على بيان وجوب الوفاء بالعقود عامة ، سواء أكانت بين العبد وربه ، أم بين الناس بعضهم مع بعض ، وبينت بعض المحرمات من الأطعمة ، كما بينت الحلال منها ، وحل نساء أهل الكتاب . وذكر أركان الوضوء ، والتيمم ، وفيها بيان طلب العدالة مع العدو . وقد تضمنت الإشارة إلى نعم الله على المسلمين ، ووجوب المحافظة على كتابهم ، وبينت أن اليهود حرفوا الكلم عن مواضعه ، وأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به ، وأنهم كفروا بقولهم إن المسيح ابن الله . وتكذيب اليهود والنصارى في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه . ثم تضمنت بعض أخبار اليهود ، كما تضمنت قصة ولدي آدم التي تثبت أن الاعتداء في طبيعة ابن آدم ، ثم وجوب القصاص تهذيبا لهذه الطبيعة . واشتملت على عقوبة البغاء وعقوبة السرقة . ثم عادت إلى بيان تحريف اليهود للأحكام التشريعية التي اشتملت عليها التوراة ، وبيان أن التوراة والإنجيل كان فيهما الحق قبل التحريف ، وقررت وجوب الحكم بما أنزل الله ، وأشارت إلى عداوة اليهود والنصارى الحاليين للمؤمنين ، ووجوب عدم الخضوع لهم ، وعدم الرضا بما يفعلون نحوهم وضرورة مقاومتهم ، وقررت كفر النصارى الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، ثم أنصف القرآن في هذه السورة بعض النصارى الذين أذعنوا للحق وآمنوا به . ثم اشتملت على منع المؤمن من أن يحرم بعض الطيبات عليه ، وبينت كفارة الأيمان إذا حنث ، ثم حرمت الخمر تحريما قاطعا ، ثم بينت بعض مناسك الحج ومكانة الكعبة والأشهر الحرم ، وبطلان بعض ما حرمه العرب على أنفسهم من غير حجة ولا دليل ، كما بينت حكم الوصية في السفر ، وختمت السورة بالمعجزات التي جرت على يد عيسى عليه السلام ومع ذلك كفر به بنو إسرائيل ، وذكرت تبرؤ عيسى عليه السلام من الذين عبدوه ، وبيان ملك الله سبحانه للسماوات والأرض وكمال قدرته .

1- يا أيها المؤمنون : التزموا الوفاء بجميع العهود التي بينكم وبين الله ، والعهود المشروعة التي بينكم وبين الناس . وقد أحل الله لكم أكل لحوم الأنعام من الإبل والبقر والغنم ، إلا ما ينص لكم على تحريمه . ولا يجوز لكم صيد البر إذا كنتم مُحْرِمين ، أو كنتم في أرض الحرم . إن الله يقضى بحكمته ما يريد من أحكام ، وأن هذا من عهود الله عليكم{[47]} .


[47]:الوفاء بالعقود يدخل فيه ما يتعاقده الناس فيما بينهم، والعقد أصلا يكون بين طرفين، وفيه معنى الاستيثاق والشد بخلاف عقد يكون من طرف واحد، ويدخل في الأخير الالتزام بالإرادة المنفردة، وبهذا سبق القرآن الكريم القوانين الوضعية، والآية عامة في الوفاء بالعقود وجامعة لأن العقد في الإسلام شريعة المتعاقدين وأي مشرع وضعي لا يمكن أن يأتي بأتم وأشمل وأدق وأوضح من هذه الآية بما يماثلها في ضرورة الوفاء بالعقود واحترامها.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المائدة وهي مدنية

{ 1 ْ } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ }

هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود ، أي : بإكمالها ، وإتمامها ، وعدم نقضها ونقصها . وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه ، من التزام عبوديته ، والقيام بها أتم قيام ، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا ، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه ، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب ، ببرهم وصلتهم ، وعدم قطيعتهم .

والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر ، واليسر والعسر ، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات ، كالبيع والإجارة ، ونحوهما ، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها ، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ْ } بالتناصر على الحق ، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع .

فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه ، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها{[251]}

ثم قال ممتنا على عباده : { أُحِلَّتْ لَكُمْ ْ } أي : لأجلكم ، رحمة بكم { بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ْ } من الإبل والبقر والغنم ، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها ، والظباء وحمر الوحش ، ونحوها من الصيود .

واستدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح .

{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ } تحريمه منها في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ ْ } إلى آخر الآية . فإن هذه المذكورات وإن كانت من بهيمة الأنعام فإنها محرمة .

ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات ، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ْ } أي : أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال ، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ، أي : متجرئون على قتله في حال الإحرام ، وفي الحرم ، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا ، كالظباء ونحوه .

والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش .

{ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ } أي : فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته ، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم .

وأحل لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم ، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض ، من الميتة ونحوها ، صونا لكم واحتراما ، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام وإعظاما .


[251]:- في هامش أ ما نصه: (ويستدل بهذه الآية أن الأصل في العقود والشروط الإباحة، وأنها تنعقد بما دل عليها من قول أو فعل لإطلاقها) وليس هناك علامة تدل على موضع الزيادة. ويبدو أن موضعها هنا-والله أعلم-
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

[ وهي مدنية ]{[1]}

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النَّضر ، حدثنا أبو معاوية شَيْبان ، عن لَيْث ، عن شَهر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة{[2]} بزِمَام العَضْباء ناقةِ رسول الله{[3]} صلى الله عليه وسلم ، إذ نزلت{[4]} عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تَدُقّ عَضُد الناقةَ{[5]} .

وروى ابن مَرْدُويه من حديث صالح{[6]} بنِ سُهَيْل ، عن عاصم الأحول قال : حدثتني أم عمرو ، عن عمها ؛ أنه كان في مَسِير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه سورة المائدة ، فاندَقَّ عُنُق الراحلة من ثقلها{[7]} .

وقال أحمد أيضًا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثني حُيَيُّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي{[8]} عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها .

تفرد به أحمد{[9]} وقد روى الترمذي عن قُتَيْبَة ، عن عبد الله بن وَهْب ، عن حُيَيٍّ ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة أنزلت : سورة المائدة والفتح ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب حسن . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة أنزلت : " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " [ سورة النصر : 1 ] .

وقد روى الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الله بن وهب بإسناده{[10]} نحو رواية الترمذي ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[11]} .

وقال الحاكم أيضا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا بحر{[12]} بن نصر قال : قُرئ على عبد الله بن وَهْب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نُفَيْر قال : حججت فدخلت على عائشة ، فقالت لي : يا جبير ، تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم . فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت{[13]} فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

ورواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، وزاد : وسألتها{[14]} عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : القرآن . وراوه النسائي من حديث ابن مهدي{[15]} .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيْم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مِسْعَر ، حدثني مَعْن وعَوْف - أو : أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]{[8853]} فقال : اعهد إليَّ . فقال : إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فارْعِها سَمْعَك ، فإنه خَيْر يأمر به ، أو شَر ينهى عنه .

وقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم - دُحيم - حدثنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري قال : إذا قال الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } افعلوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم .

وحدثنا أحمد بن سنَان ، حدثنا محمد بن عُبيد{[8854]} حدثنا الأعمش ، عن خَيْثَمَة قال : كل شيء في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فهو في التوراة : " يأ يها المساكين " .

فأما{[8855]} ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي ، حدثنا معاوية - يعني : ابن هشام - عن عيسى بن راشد ، عن علي بن بُذَيْمَة ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إلا أن عليًا سيدها وشريفها وأميرها ، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب ، فإنه لم يعاتبْ في شيء منه . فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة ، وفي إسناده نظر .

قال البخاري : عيسى بن راشد هذا مجهول ، وخبره منكر . قلت : وعلي بن بذيمة - وإن كان ثقة - إلا أنه شيعي غالٍ ، وخبره في مثل هذا فيه تُهمة فلا يقبل . وقوله : " ولم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا عليًا " إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوي ، فإنه قد ذَكَر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا عليٌّ ، ونزل قوله : { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ{[8856]} فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ } الآية [ سورة المجادلة : 13 ] وفي كون هذا عتابًا نظر ؛ فإنه قد قيل : إن الأمر كان ندبا لا إيجابا ، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل ، فلم ير{[8857]} من أحد منهم خلافه . وقوله عن علي : " إنه لم يعاتب في شيء من القرآن " فيه نظر أيضًا ؛ فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفِداء عَمَّت جميع من أشار بأخذه ، ولم يسلم منها إلا عُمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فعلم بهذا ، وبما تقدم ضَعفُ هذا الأثر ، والله أعلم .

وقال{[8858]} ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا اللَّيْث ، حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كُتب لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى نَجْران ، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فكتب الآيات منها حتى بلغ : { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }{[8859]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال : هذا كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ، الذي كتبه لعمرو بن حَزْم ، حين بعثه إلى اليمن يُفَقه أهلها ويعلمهم السنة ، ويأخذ صدقاتهم . فكتب{[8860]} له كتابا وعهدا ، وأمره فيه بأمره ، فكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله ورسوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } عَهْدٌ من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " {[8861]} .

قوله تعالى { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني بالعقود : العهود . وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك{[8862]} قال : والعهود ما كانوا يتعاهدون{[8863]} عليه من الحلف وغيره . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } يعني بالعهود : يعني ما أحل الله وما حرم ، وما فرض وما حَد في القرآن كله ، فلا{[8864]} تغدروا ولا تنكثوا ، ثم شدد في ذلك فقال : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } إلى قوله : { سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ] .

وقال الضحاك : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : ما أحل الله وما حرم{[8865]} وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[8866]} والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام .

وقال زيد بن أسلم : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : هي ستة :{[8867]} عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين .

وقال محمد بن كعب : هي خمسة منها : حلف الجاهلية ، وشركة المفاوضة .

وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته ، فيقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، ومالك . وخالفهما الشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور ، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البَيِّعان بالخيار ما لم يَتَفرَّقا " {[8868]} وفي لفْظ للبخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " {[8869]} وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع ، وليس هذا منافيًا للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعا ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد .

وقوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ } هي : الإبل والبقر ، والغنم . قاله الحسن وقتادة وغير واحد . قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب . وقد استدل ابن عمر ، وابن عباس ، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت ، وقد ورد في ذلك حديث في السنن ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من طريق مُجالد ، عن أبي الودَّاك جبر بن نَوْف ، عن أبي سعيد ، قال : قلنا : يا رسول الله ، ننحر الناقة ، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : " كلوه إن شئتم ؛ فإن ذكاته ذكاة أمه " . وقال الترمذي : حديث حسن{[8870]} .

[ و ]{[8871]} قال أبو داود : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عَتَّاب بن بشير ، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " . تفرد به أبو داود{[8872]} .

وقوله : { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير .

وقال قتادة : يعني بذلك الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .

والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض ؛ ولهذا قال : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } يعني : منها . فإنه حرام لا يمكن استدراكه ، وتلاحقُه ؛ ولهذا قال تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي : إلا ما سيتلى{[8873]} عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال .

وقوله : { غَيْرَ{[8874]} مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قال بعضهم : هذا منصوب على الحال . والمراد من الأنعام : ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر ، فاستثنى من الإنسي ما تقدم ، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام .

وقيل : المراد [ أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام ، كقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد ، أي : كما ]{[8875]} أحللنا{[8876]} الأنعام لكم في جميع الأحوال ، فحرموا الصيد في حال الإحرام ، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
[8]:في د: "أن يعذب".
[9]:في د: "اللهم إني أعوذ بك".
[10]:في د: "لا يحتسبون".
[11]:في د: "وجلس".
[12]:في د: "فإذا هو بسمكة".
[13]:في د: "الغالبة".
[14]:في د: "وضربوهما".
[15]:في ف، أ: "زاكية".
[8853]:زيادة من أ.
[8854]:في أ: "محمد بن سنان".
[8855]:في ر: "فإنه".
[8856]:في ر، أ: "صدقة".
[8857]:في أ: "فلم يصدر".
[8858]:بداية تفسير الآيات من المخطوطة د.
[8859]:تفسير الطبري (9/454).
[8860]:في د: "كتب".
[8861]:ورواه البيهقي في دلائل النبوة (5/413) من طريق أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير به.
[8862]:في د: "عليه".
[8863]:في د، أ: "والعقود ما كانوا يتعاقدون".
[8864]:في د، ر، أ: "ولا".
[8865]:في د: "ما أحل الله وحرم"، وفي ر: "ما أحل وحرم".
[8866]:زيادة من أ.
[8867]:في ر، أ: "سنة".
[8868]:صحيح البخاري برقم (2109) وصحيح مسلم برقم (1531).
[8869]:اللفظ في صحيح البخاري برقم (2112) وصحيح مسلم برقم (1531).
[8870]:سنن أبي داود برقم (2827) وسنن الترمذي برقم (1476) وسنن ابن ماجة برقم (3199).
[8871]:زيادة من ر.
[8872]:سنن أبي داود برقم (2828).
[8873]:في د: "يتلى".
[8874]:في د، ر، أ: "بالأنعام".
[8875]:زيادة من د.
[8876]:في د: "حللنا".