14- إن البشر جبلوا على حب الشهوات التي تتمثل في النساء والبنين والكثرة من الذهب والفضة ، والخيل الحسان المعلَّمة ، والأنعام التي منها الإبل والبقر والغنم ، وتتمثل أيضاً في الزرع الكثير . لكن ذلك كله متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية ، وهو لا يُعد شيئاً إذا قيس بإحسان الله إلى عباده الذين يجاهدون في سبيله عند أوبتهم إليه في الآخرة .
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ }
يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية ، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها ، قال تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات ، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم ، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين : قسم : جعلوها هي المقصود ، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها ، فشغلتهم عما خلقوا لأجله ، وصحبوها صحبة البهائم السائمة ، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها ، ولا يبالون على أي : وجه حصلوها ، ولا فيما أنفقوها وصرفوها ، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب ، والقسم الثاني : عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده ، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته ، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودن منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته ، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم ، وعلموا أنها كما قال الله فيها { ذلك متاع الحياة الدنيا } فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة ، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم . وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء ، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها ، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار ، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور ، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية ، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار ، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن ، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم ، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم ، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة ، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما { والله بصير بالعباد } أي : عالم بما فيهم من الأوصاف الحسنة والأوصاف القبيحة ، وما هو اللائق بأحوالهم ، يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء . فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه .
وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف ؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة ؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى ؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى .
إن الاستغراق في شهوات الدنيا ، ورغائب النفوس ، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار ؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة ؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى ؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة ؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض ؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض .
ولما كانت هذه الرغائب والدوافع - مع هذا - طبيعية وفطرية ، ومكلفة من قبل الباريء - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها ، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها ، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها ، وتخفيف حدتها واندفاعها ؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكا لها متصرفا فيها ، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه ؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى .
ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي . . هذه الرغائب والدافع ، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر الوانا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر ، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة ، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة .
وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان : النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام . . وهي خلاصة للرغائب الأرضية . إما بذاتها ، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى . . وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر : جنات تجري من تحتها الأنهار . وأزواج مطهرة . وفوقها رضوان من الله . . وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض ، ويصل قلبه بالله ، على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان :
( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام ، والحرث . . ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب . قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله . والله بصير بالعباد . الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار . . )
( زين للناس ) . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل ؛ فهو محبب ومزين . . وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه . ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه " الشهوات " ، وهو جزء من تكوينه الأصيل ، لا حاجة إلى إنكاره ، ولا إلى استنكاره في ذاته . فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد - كما أسلفنا - ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل ، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده ؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها . هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي ، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه " الشهوات " . الحد الباني للنفس وللحياة ؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذيتهتف إليه النفحة العلوية ، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله . . هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول ، وينقيه من الشوائب ، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة ، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة . . والاتجاه إلى الله ، وتقواه ، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة .
( زين للناس حب الشهوات ) . . فهي شهوات مستحبة مستلذة ؛ وليست مستقذرة ولا كريهة . والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها ؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها ، ووضعها في مكانها لا تتعداه ، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى . والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك " الشهوات " في غير استغراق ولا إغراق !
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها ، ومحاولة تهذيبها ورفعها ، لا كبتها وقمعها . . والذين يتحدثون في هذه الأيام عن " الكبت " واضراره ، وعن " العقد النفسية " التي ينشئها الكبت والقمع ، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو " الكبت " وليس هو " الضبط " . . وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس ، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين : ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلا ، فهي خطيئة ودافع شيطاني ! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة ، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية ، لا تتم إلا بها ، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثا . . وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون " العقد النفسية " . . فحتى إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النظريات النفسية ، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية . بين نوازع الشهوة واللذة ، وأشواق الارتفاع والتسامي . . وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .
( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث . . . ) . .
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية . . وقد قرن اليهما ( القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) . . ونهم المال هو الذي ترسمه ( القناطير المقنطرة ) ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال : والأموال . أو والذهب والفضة . ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود . ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة . ذلك أن التكديس ذاته شهوة . بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى !
ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . . الخيل المسومة . والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة . ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة . وحتى الذين لا يركبونها فروسية ، يعجبهم مشهدها ، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية !
وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث . وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع . . الأنعام والحقول المخصبة . . والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء . وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفتإليه شهوة الملك ، كان الحرث والأنعام شهوة .
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس ، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان . والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه ، ولا تطغى على ما سواه :
( ذلك متاع الحياة الدنيا ) . .
ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة - وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات - متاع الحياة الدنيا . لا الحياة الرفيعة ، ولا الآفاق البعيدة . . متاع هذه الأرض القريب . .
{ زين للناس حب الشهوات } أي المشتهيات سماها شهوات مبالغة وإيماء على أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى : { أحببت حب الخير } والمزين هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي ، ولعله زينة ابتلاء ، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى ، أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع . وقيل الشيطان فإن الآية في معرض الذم . وفرق الجبائي بين المباح والمحرم . { من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } بيان للشهوات ، والقنطار المال الكثير . وقيل مائة ألف دينار . وقيل ملء مسك ثور . واختلف في أنه فعلال أو فنعال ، والمقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة . والمسومة المعلمة من السومة وهي العلامة ، أو المرعية من أسام الدابة وسومها ، أو المطهمة . والأنعام الإبل والبقر والغنم { ذلك متاع الحياة الدنيا } إشارة إلى ما ذكر . { والله عنده حسن المآب } أي المرجع ، وهو تحريض على استبدال ما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية .
استئناف نشأ عن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } [ آل عمران : 10 ] إذ كانت إضافة أموالٍ وأولاد إلى ضمير « هم » دالة على أنّها معلومة للمسلمين . قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة ؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات . وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها ؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس .
والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه ، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً .
الحرب أول ما تكون فتيَّة *** تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول
فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن : التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى : { تريد زينة الحياةِ الدنيا } [ الكهف : 28 ] . وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة :
أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا *** جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا
وفي حديث « سنن أبي داود » : أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه : إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح . قال أبو برزة : « ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد » . فقال عبيد الله : « إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن » .
والشهوات جمع شهوة ، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي ، والشهوة بزنة المَرّة ، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة . وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف . وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبُّها ، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها ؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحبّ بمزيَّن ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها ، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق .
والوجه عندي إمّا أن يجعل { حبّ الشهوات } مصدراً نائباً عن مفعول مطلق ، مبيّناً لنوع التزيين : أي زيّن لهم تزيين حب ، وهو أشدّ التزيين ، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل ، وأصل الكلام : زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً ، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائباً عن الفاعل ، كما جعل مفعولاً في قوله تعالى : { فقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي } [ ص : 32 ] . وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول ، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة . وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبّر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضارّ ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات ، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال .
وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جُهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عُني بكذا ، واضْطُرّ إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عمّا في المزيَّن من المساوي ؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصوداً بحال ، والمزيِّنُ في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهواتتِ ، وذلك أمر جبلِيٌّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى : { وذلّلناها لهم فمنها رَكوبهم ومنها يأكلون } [ يس : 72 ] .
ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة ، كان فاعلُه على الحقيقة هو خالقَ هذه الجبلاّت ، فالمزيِّن هو الله بخَلْقه لا بِدَعوته ، وروى مثل هذا عن عُمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة . كان المزّيِّن هو مَيْلَ النفس إلى المشتهى ، أو ترغيبَ الداعين إلى تناول الشهوات : من الخِلاّن والقُرناء ، وعن الحسن : المزيِّن هو الشيطان ، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ، وقصَرَه على هذا وهو بعيد لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلاّ إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث : « قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوَته ولَهُ فيها أجْر فقال : أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر ، فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجر » وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام ، والمعرَّضة للزوال ، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية ، وتنال النعيم الأبدي العظيم ؛ كما أشار إليه قوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب } .
وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما ، بيان بأصول الشهوات البشرية : التي تجمع مشتهيَات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل ؛ إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة ، وفي الحديث : « ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء » ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع ، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسان .
ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع : إذ جعل الله في الوالدين ، من الرجال والنساء ، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما ، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل ، وببقائه بقاء النوع ، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه ، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع ؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف ، بعد القوة ، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه ، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه ، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه .
والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء ، والنقدان منهما : الدنانيرُ والدراهم ، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها .
{ والقناطير } جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل ، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية ، كما نقله النقّاش عن الكلبي ، وهو الصحيح ؛ فإن أصله في اللاّتينية « كِينْتال » وهو مائة رطل . وقال ابن سيده : هو معرّب عن السريانية . فما في « الكشاف » في سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قنطَرت الشيءَ إذا رفعتَه ، تكلّف . وقد كان القنطار عند العرب ، وزنا ومقداراً ، من الثروة ، يبلغه بعض المثرين : وهو أن يبلغ مالُه مائةَ رطل فضة ، ويقولون : قنطَر الرجلُ إذا بلغ ماله قنطاراً وهو اثنا عشر ألف دينارٍ أي ما يساوي قنطاراً من الفضة ، وقد يقال : هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب .
و{ المقنطرة } أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة ، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوفِ ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفةِ ، يؤذن ذلك الاشتقاقُ بمبالغة في الحاصل به كقولهم : لَيْلٌ ألْيَلُ ، وظِلٌ ظَلِيلٌ ، وداهِيَةٌ دَهْيَاء ، وشِعْرٌ شَاعِر ، وإبِل مُؤَبَّلَة ، وآلاف مُؤَلَّفَة .
{ والخيل } محبوبة مرغوبة ، في العصور الماضية وفيما بعدها ، لم يُنسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّاً وبحراً وجوّاً ، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية ، ومن سَفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار ، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفظ المصفَّى ، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى ، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل ، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس ، والعناية بالمسابقة بين الأفراس .
وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البَذخ على محبّة ركوبها ، قال امرؤ القيس
* كأنِّيَ لَمْ أركَبْ جَوادَا لِلَذّةٍ *
و { المسوّمة } الأظهر فيه ما قيل : إنّه الراعية ، فو مشتق من السَّوْم وهو الرعْي ، يقال : أسام الماشية إذا رعَى بها في المرعى ، فتكون مادة فعَّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مدداً طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم ، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل " فأطال لَها في مَرْج أو روضة " .
وقيل : المسوّمة من السُّومَة بضم السين وهي السِّمة أي العلامة من صوف أو نحوه ، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويهاً بكرمها وحسن بلائها في الحرب ، قال العَتَّابي :
ولَوْلاَهُنّ قد سَوّمْتُ مُهري *** وفي الرحمان للضعفاء كاف
يريد جعلت له سُومة أفراسِ الجهاد أي علامتَها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في سورة [ البقرة : 273 ] .
و { الأنعام } زينة لأهل الوبر قال تعالى : { ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] . وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى : { والأنعامَ خلقها لكم فيها دفء } الآيات في سورة [ النحل : 5 ] ، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها ، ويُعنَون بالارتياح إليها إجمالاً .
{ والحرث } أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس ، وأطلق هذا المصدر على المَحروث فصار يطلق على الجَنّات والحوائطِ وحقول الزرع ، وتقدم عند قوله تعالى : { نساؤكم حَرث لكم } في سورة [ البقرة : 223 ] وعند قوله : { ولا تَسقي الحرث } [ البقرة : 71 ] فيها .
والإشارة بقوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا } إلى جميع ما تقدم ذكره ، وأُفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لغير معيَّن ، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البُعد ، والبُعد هنا بُعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة .
والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة .
ومعنى { والله عنده حسن مئاب } أنّ ثواب الله خير من ذلك . والمآب : المرجع ، وهو هنا مصدرٌ ، مَفْعَل من آب يَؤوب ، وأصله مَأوَب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، وقلبت الواو ألفاً ، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{زُين للناس}: الكفار. {حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة}: المال الكثير {من الذهب والفضة}، {والخيل المسومة}: السائمة، وهي الراعية، {والأنعام}: وهي الإبل والبقر والغنم. {والحرث ذلك}: الذي ذكر في هذه الآية، {متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}: حسن المرجع، وهي الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
زُين للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ. وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثروا الدنيا وحبّ الرياسة فيها على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه. وكان الحسن يقول: من زَيْنها؟ ما أحدٌ أشدّ لها ذما من خالقها.
وأما القناطير: فإنها جمع القنطار.
واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار؛ فقال بعضهم: هو ألف ومائتا أوقية.
وقال آخرون: القنطار: ألف دينار ومائتا دينار. [عن] الضحاك بن مزاحم يقول: القناطير المقنطرة، يعني: المال الكثير من الذهب والفضة، والقنطار: ألف ومائتا دينار، ومن الفضة: ألف ومائتا مثقال.
وقال آخرون: القنطار: اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. وقال آخرون: هو ثمانون ألفا من الدراهم، أو مائة رطل من الذهب. وقال آخرون: القنطار سبعون ألفا. وقال آخرون: هي ملء مَسْك ثور ذهبا. وقال آخرون: هو المال الكثير بعضه على بعض.
وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول: هو قدر ووزن. وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك، لأن ذلك لو كان محدودا قدره عندها لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف.
فالصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير، ولا يحدّ قدر وزنه بحدّ على تعنف، وقد قيل ما قيل مما روينا. "المقنطرة": المضعفة، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة، وهو كما قال الربيع بن أنس: المال الكثير بعضه على بعض. وقال آخرون: معنى المقنطرة: المضروبة دراهم أو دنانير.
{والخَيْلُ المُسَوّمَةِ}: اختلف أهل التأويل في معنى المسوّمة؛ فقال بعضهم: هي الراعية. وقال آخرون: المسوّمة: الحسان، المطهمة.
وقال آخرون: {الخَيْلِ المُسَوّمَةِ}: المعلمة. وقال غيرهم: المسوّمة: المعدّة للجهاد. أولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {والخَيْلِ المُسَوّمَةِ}: المعلمة بالشيات الحسان، الرائعة حسنا من رآها، لأن التسويم في كلام العرب: هو الإعلام؛ فالخيل الحسان معلمة بإعلام إياها بالحسن من ألوانها وشياتها وهيئاتها، وهي المطهمة أيضا.
فمعنى تأويل من تأول ذلك: المطهمة، والمعلمة، والرائعة واحد. وأما قول من تأوّله بمعنى الراعية، فإنه ذهب إلى قول القائل: أسَمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة: إذا رعيتها الكلأ والعشب، كما قال الله عزّ وجلّ: {ومنهُ شجرٌ فِيهِ تسيمونَ} بمعنى ترعون... فإذا كان ذلك كذلك، فتوجيه تأويل المسوّمة إلى أنها المعلمة بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها أصحّ. وأما الذي قال أنها المعدّة في سبيل الله، فتأويل من معنى المسوّمة بمعزل.
{والأنْعامِ والحَرْثِ}: فالأنعام جمع نعم: وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه من الضأن والمعز والبقر والإبل. وأما الحرث: فهو الزرع. وتأويل الكلام: زين للناس حبّ الشهوات من النساء ومن البنين، ومن كذا ومن كذا، ومن الأنعام والحرث.
{ذَلِكَ مَتاعُ الحَيَاةِ الدّنْيا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ}: جميع ما ذكر في هذه الآية من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسوّمة، والأنعام والحرث، فكنى بقوله «ذلك» عن جميعهن، وهذا يدلّ على أن «ذلك» يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني، ويكنى به عن جميع ذلك. {مَتاعُ الحَيَاةِ الدّنْيا}: خبر من الله عن أن ذلك كله مما يستمتع به في الدنيا أهلها أحياء، فيتبلغون به فيها، ويجعلونه وصلة في معايشهم، وسببا لقضاء شهواتهم، التي زين لهم حبها، في عاجل دنياهم، دون أن يكون عدّة لمعادهم، وقربة لهم إلى ربهم، إلا ما أسلك في سبيله، وأنفق منه فيما أمر به. {وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ}: وعند الله حسن المآب، يعني حسن المرجع... حسن المنقلب، وهي الجنة. من قول القائل: آب الرجل إلينا: إذا رجع. فإن قال قائل: وكيف قيل: {وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ} وقد علمت ما عنده يومئذٍ من أليم العذاب وشديد العقاب؟ قيل: إن ذلك معنيّ به خاصّ من الناس، ومعنى ذلك: والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم، وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها. فإن قال: وما حسن المآب؟ قيل: هو ما وصفه به جلّ ثناؤه، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مخلدا فيها، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{زين للناس حب الشهوات} أي الشهيات من النساء والبنين وما ذكر إلى آخره. قال الحسن: والله ما زينها إلا الشيطان، إذ لا أحد أذم لها ولا مثلها من الله تعالى. لكن الأصل في هذا وفي أمثاله أن الله جل وعلا زين هذه الأشياء، والتزيين من الله سبحانه يقع لوجهين، وكذلك الكراهة تقع لوجهين: تزيين في الطباع، والطبع يرغب في ما يتلذذ، ويشتهى، وإن لم يكن في نفسه حسنا. وتزيين في العقل إلا في ما ثبت حسنه بنفسه أو الأمر أو حمد العاقبة ونحو ذلك. ثم جعل العقل مانعا له رادا عما يرغب إليه الطبع ويميل، لأن الطبع أبدا يميل ويرغب إلى ما هو ألذ وأشهى وأخف عليه، أو ينفر عما يضره، ويؤلمه. والعقل لا ينفر إلا عما القبيح في نفسه، ويرغب في ما هو الحسن في نفسه. وعلى ذلك يخرج قوله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات) [مسلم 2822] ليس على كراهة العقل ولا على شهوة العقل، لكن على كراهة الطبع وشهوته، وكذلك قوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] ليس على كراهة الاختيار ولكن كراهة الطبع؛ لأن كراهة العقل كراهة الاختيار، وكذلك رغبة الاختيار، وفيها تجري الكلفة، أعني على اختيار العقل لا اختيار الطبع لما يميل، ويرغب في الألذ، وينفر عن المضار؛ دليله قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] اخبر أنهم لا يؤمنون ما وجدوا في قضائه حرجا. فدلت الآية أن الخطاب والكلفة إنما تكون على اختيار العقل وكراهيته لا على اختيار الطبع. لذلك قلنا: إنه يجوز التزيين في الطبع من الله تعالى. فأما قولهم: إن الشيطان هو الذي زينها؛ فإن عنوا أنه يزينها لهم، ويدعوهم إليها، ويريهم زينتها، فنعم، وإن عنوا أنه يزينها بحيث نفسها لهم فلا؛ لأن الله تعالى وصف الشيطان بالضعف، ونفي عنه هذه القدرة، بقوله: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} [النساء: 76]. فلو جعلنا له التزيين لهم على ما قالوا لم يكن كيده على ما وصفه جل وعلا بالضعف، ولكن كان قويا، ولكنه يدعوهم إليها، ويرغبهم فيها، ويريهم المزين لهم. ثم دعاؤه إياهم، وحجته في ذلك، وقوته من حيث ما لا يطلع عليه قوله: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27]، فالعدو الذي يرى هو من يعاديه، ولا يرى هو كان يجب أن يكون أحذر منه، وأخوف ممن يرى. ووجه آخر: أن الشهوات التي أضاف التزيين إليها لا خلاف بينهم في أنها مخلوقة الله تعالى، فما بقي للشيطان إلا الدعاء إليها والترغيب فيها. وفيه وجه آخر أنه لو لم يجعل هذا مزينا من الله تعالى لزال موضع استدلال الشاهد على الغائب وبالدنيا على الآخرة؛ قد جعل ما في الدنيا نوعين مستحسنا ومستقبحا، وجعل ذلك عيارا لما أوعد، ووعد. فلما لم يكونا منه لا يصح موضع التعبير لأنه جل وعلا بلطفه سخر كل مرغوب في الدنيا ومدعوا إليه من جوهره في الآخرة، وحسنه ليرغب الناس عن هذا إلى ما في الجنة بحسنه ولطفه وزينته، ويدعوهم إلى ترك ما في الدنيا من الفاني إلى نعيم دائم أبدا. فلو جعل هذا من تزيين الشيطان، لعنه الله، ومصنوعه لهم لذهب عظيم الاستدلال الذي ذكرنا. فدل أنه مزين منه جل وعلا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ثم امتحنهم الله جل وعلا بترك ما زين لهم في الطباع بما ركب لهم من العقول الوافرة ليختاروا ما حسن في العقول وتزين على ما ذلك جرت الكلمة والخطاب لا بما مالت إليه الطباع، ونفرت عنه العقول، وبالله التوفيق. ثم في الآية دلالة وجوب الحق في كل ما ذكر في الآية من المال وكذلك الخيل. وأما في النساء والبنين فما متعوا بهم أوجب عليهم النفقة، وكذلك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة؛ أوجب في النساء عليهم النفقة وكذلك البنين، وأوجب في الذهب والفضة حقا. ثم ذكر الخيل المسومة، إن كان المراد منه جعلها سائمة. لذلك قال أبو حنيفة رضي الله عنه: (إن في الخيل صدقة)... ثم أخبر أن ما ذكر في الآية متاع الدنيا، أمرهم بترك ذلك، أخبر أن لهم {عنده حسن المآب} إن هم تركوا ما امتحنوا...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في المُزّيِّن لحب الشهوات... أن الله زين من حبها ما حَسُن، وزين الشيطان من حبها ما قَبُح... القناطير المذكورة مأخوذة من قنطرة الوادي، إما لأنها بتركها مُعَدَّة كالقناطر المعبورة، وإما لأنها معدة لوقت الحاجة، والقناطير مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه كالقنطرة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ذلك متاع الحياة الدنيا": فالمتاع: ما يستنفع به مدة ثم يفنى...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"والله عنده حسن المآب": فيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا قد جمعها الله تعالى في قوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} وهذا من الإنس {والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} وهذا من الجواهر والمعادن، وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ واليواقيت وغيرها {والخيل المسومة والأنعام} وهي البهائم والحيوانات {والحرث} وهو النبات والزرع فهذه هي أعيان الدنيا. [الإحياء: 3/238]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{زُيّنَ لِلنَّاسِ} المزين هو الله سبحانه وتعالى للابتلاء، كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف: 7]... {حُبُّ الشهوات} جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها. والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، وقال: {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} ثم جاء التفسير، ليقرر أوّلا في النفوس أن المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس، فيكون أقوى لتخسيسها، وأدلّ على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
إذا قيل زين الله؛ فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء. وإذا قيل زين الشيطان؛ فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر، وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توضح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم، و {الشهوات} ذميمة واتباعها مردٍ وطاعتها مهلكة، وقد قال عليه السلام: «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره» فحسبك أن النار حفت بها، فمن واقعها خلص إلى النار، و {والقناطير} جمع قنطار، وهو العقدة الكبيرة من المال... واختلف الناس في معنى قوله: {المقنطرة}... والذي أقول: إنها إشارة إلى حضور المال وكونه عتيداً، فذلك أشهى في أمره وذلك أنك تقول في رجل غني من الحيوان والأملاك: فلان صاحب قناطير مال أي لو قومت أملاكه لاجتمع من ذلك ما يعدل قناطير، وتقول في صاحب المال الحاضر العتيد هو صاحب قناطير مقنطرة أي قد حصلت كذلك بالفعل بها، أي قنطرت فهي مقنطرة، وذلك أشهى للنفوس وأقرب للانتفاع وبلوغ الآمال...
فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة، وفي قوله: {زين للناس} تحسر ما على نحو ما في قول النبي عليه السلام: تتزوج المرأة لأربع -الحديث -وقوله تعالى: {قل أؤنبئكم} [آل عمران: 15] بمثابة قول النبي عليه السلام: «فاظفر بذات الدين»...
الأول: ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه، وأيضا روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح، فبين الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى.
القول الثاني: وهو على التأويل العام؛ أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار} ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بين أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية، واللذات الدنيوية، ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها، وتبقى تبعاتها، ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم} [آل عمران: 15] ثم بين طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية...
اعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أمورا سبعة:
أولها: النساء، وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى: {خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21] ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة.
المرتبة الثانية: حب الولد: ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى، لا جرم خصه الله تعالى بالذكر، ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك. واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل.
المرتبة الثالثة والرابعة: {القناطير المقنطرة من الذهب والفضة}... الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء، وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب، لا جرم كانا محبوبين.
المرتبة الخامسة: {الخيل المسومة}؛ وسميت الأفراس خيلا لخيلائها في مشيها، وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا، وسمي الخيال خيالا، والتخيل تخيلا، لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة،
ثم إنه تعالى لما عدد هذه السبعة قال: {ذلك متاع الحياة الدنيا}: ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى، ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه: منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموما ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضا مذموما. ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة، وذلك لا ممدوح ولا مذموم. ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح. {والله عنده حسن المآب}: اعلم أن المآب في اللغة المرجع... والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته، ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن. فإن قيل: المآب قسمان: الجنة وهي في غاية الحسن، والنار وهي خالية عن الحسن، فكيف وصف المآب المطلق بالحسن. قلنا: المآب المقصود بالذات هو الجنة، فأما النار فهي المقصود بالعرض، لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، كما قال: سبقت رحمتي غضبي، وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علم بهذا أن الذي وقف بهم عن الإيمان من الأموال والأولاد وسائر المتاع إنما هو شهوات وعرض زائل، لا يؤثره على اتباع ما شرعه الملك إلا من انسلخ من صفات البشر إلى طور البهائم التي لا تعرف إلا الشهوات، وختم ذلك بذكر آية الفئتين كان كأنه قيل: الآية العلامة، ومن شأنها الظهور، فما حجبها عنهم؟ فقيل: تزيين الشهوات لمن دنت همته. وقال الحرالي: لما أظهر سبحانه وتعالى في هذه السورة ما أظهره بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول، وإنزال الكتب الثلاثة: إنزال التوراة بما أنشأ عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا، و من مجبول على ما هو من نحو ذلك في أمر الآخرة، ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف ورهبة في موجود الدنيا، وكان كتاب الإنجيل كتاب دعوة إلى ملكوت الآخرة، وكانا متقابلين، بينهما ملابسة، لم يفصل أمرهما فرقان واضح، فكثر فيهما الاشتباه، فأنزل الله تعالى الفرقان لرفع لبس ما فيهما فأبان فيه المحكم والمتشابه من منزل الوحي، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضاً فرقان الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة وما التبس على أهل الدنيا من أمر الخلق بلوائح آيات الحق عليهم، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه، ومحكم الخلق من متشابهه وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بنى عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعداً ووعيداً، لتكون هذه الآية توطئة لتحقيق صرف النهي عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها، فأنبأ تعالى أن متاع الدنيا أمر مزين، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفه فقال: {زين للناس} فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو، وفي إناطة التزيين بالناس دون الذين آمنوا ومن فوقهم إيضاح لنزول سنهم في أسنان القلوب وأنهم ملوك الدنيا وأتباعهم ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين هم أهل الدنيا {حب الشهوات} جمع شهوة، وهي نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه -انتهى. وفي هذا الكلام إعلام بأن الذي وقع عليه التزين الحب، لا الشيء المحبوب، فصار اللازم لأهل الدنيا إنما هو محبة الأمر الكلي من هذه المسميات وربما إذا تشخص في الجزئيات لم تكن تلك الجزئيات محبوبة لهم، وفيه تحريك لهمم أهل الفرقان إلى العلو عن رتبة الناس الذين أكثرهم لا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون، ثم بين ذلك بما هو محط القصد كله، وآخر العمل من حيث إن الأعلق بالنفس حب أنثاها التي هي منها {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} [النساء: 1] فقال: {من النساء} أي المبتدئة منهن، وأتبعه ما هو منه أيضاً وهو بينه وبين الأنثى فقال: {والبنين} قال الحرالي: وأخفى فتنة النساء بالرجال ستراً لهن، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم حيث قال: {وعصى آدم ربه} [طه:121] فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم، والله سبحانه وتعالى حي كريم- انتهى. ثم أتبع ذلك ما يكمل به أمره فقال: {والقناطير}... ثم بينها بقوله: {من الذهب والفضة} ثم أتبعها الزينة الظاهرة التي هي أكبر الأسباب في تحصيل الأموال فقال: {والخيل} قال الحرالي: اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذا الاختيال لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه الذي منه سمي واحدة فرساً {المسومة} أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي تشتهر بها جودتها، من السومة -بضم السين، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها، وأصل السوم بالفتح الإرسال للرعي مكتفي في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها من الخاص والعام، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها {والأنعام} وهي جمع نعم، وهي الماشية فيها إبل، والإبل واحدها، فإذا خلت منها الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم- انتهى...
ولما ذكر هذه الأعيان التي زين حبها في نفسها أتبعها ما يطلب لأجل تحصيلها أو تنميتها وتكثيرها فقال: {والحرث}. ولما فصلها وختمها بما هو مثل الدنيا في البداية والنهاية والإعادة أجمل الخبر عن ثمرتها وبيان حقيقتها فقال: {ذلك} أي ما ذكر من الشهوات المفسر بهذه الأعيان تأكيداً لتخسيسه البعيد من إخلاد ذوي الهمم إليه ليقطعهم عن الدار الباقية. وقال الحرالي: الإشارة إلى بعده عن حد التقريب إلى حضرة الجنة انتهى. {متاع الحياة الدنيا} أي التي هي مع دناءتها إلى فناء. قال الحرالي: جعل سبحانه وتعالى ما أحاط به حس النظر العاجل من موجود العادل أدنى، فافهم أن ما أنبأ به على سبيل السمع أعلى، فجعل تعالى من أمر اشتباه كتاب الكون المرئي به وذكر المشهود أن عجل محسوس العين وحمل على تركه وقبض اليد بالورع والقلب بالحب عنه، وأخر مشهود مسموع الأذن من الآخرة وأنبأ بالصدق عنه ونبه بالآيات عليه ليؤثر المؤمن مسمعه على منظره، كما آثر الناس منظرهم على مسمعهم، حرض لسان الشرع على ترك الدنيا والرغبة في الأخرى، فأبت الأنفس وقبلت قلوب وهيم لسان الشعر في زينة الدنيا فقبلته الأنفس ولم تسلم القلوب منه إلا بالعصمة، فلسان الحق يصرف إلى حق الآخرة ولسان الخلق يصرفه إلى زينة الدنيا، فأنبأ سبحانه وتعالى أن ما في الدنيا متاع، والمتاع ما ليس له بقاء، و هو في نفسه خسيس خساسة الجيفة انتهى. ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى حالاً من فاعل معنى الإشارة فقال: {والله} الذي بيده كل شيء، ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره: وهو سوء المبدأ في هذا الذهاب إلى غاية الحياة، والله {عنده حسن المآب} قال الحرالي: مفعل من الأوب وهو الرجوع إلى ما منه كان الذهاب انتهى. فأرشد هذا الخطاب اللطيف كل من ينصح نفسه إلى منافرة هذا العرض الخسيس بأنه إن حصل له يعرض عنه بأن يكون في يده، لا في قلبه فلا يفرح به بحيث يشغله عن الخير، بل يجعل عوناً على الطاعة وأنه إن منع منه لا يتأسف عليه لتحقق زواله ولرجاء الأول إلى ما عند خالقه الذي ترك ذلك لأجله...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لاتصال هذه الآية بما قبلها وجوه... منها ما هو مبني على أن الآيات نزلت في تقرير أمر التوحيد وما يتبعه. والاتصال على هذا الوجه أظهر، فإنه بعد ما بين أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم التي أعرضوا عن الحق لأجلها، بيَّن وجه غرورهم بها للتحذير من جعلها آلة للغرور وترك الحق، وللتذكير بأنه لا ينبغي أن تشغل الإنسان عن الآخرة. ومنها، وهو المختار عند الأستاذ الإمام، أنه لما كان الكلام السابق يتضمن وعيد الكافرين جاء بعده بوعد المتقين وجعل له مقدمة بين فيها جميع أصول اللذات التي يتمتع بها الناس بحسب غرائزهم تمهيدا لتعظيم شان ما بعدها من أمر الآخرة. أقول: يعني انه ليس المراد ذمها والتنفير عنها، وإنما المراد التحذير من أن تجعل هي غاية الحياة. والناس في قوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات} هم المكلفون لأن الكلام في إرشادهم، فلا معنى للبحث في الأطفال هنا. والشهوات جمع شهوة وهي انفعال النفس بالشعور بالحاجة إلى ما تستلذه. والمراد بها هنا المشتهيات على طريق المبالغة. وهي شائعة الاستعمال، يقال: هذا الطعام شهوة فلان أي مشتهاه. ومعنى تزيين حبها لهم أن حبها مستحسن عندهم لا يرون فيه شيئا (قبحا) ولا غضاضة، وقد يحب الإنسان الشيء وهو يراه من الشين لا من الزين ومن الضار لا من النافع، ويود لذلك لو لم يكن يحبه. ومثل لذلك الإمام الرازي بحب المسلم لبعض المحرمات، ومثل له الأستاذ الإمام بحب بعض الناس للدخان على تأذيه منه. فكل من هذين المحبين يود لو انقلب حبه كرها وبغضا، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن يرجع عن حبه يوما وأما من زين له حبه لشيء فلا يكاد يرجع عنه لأن ذلك منتهى الحب وصاحبه لا يكاد يفطن لقبحه وضرره إن كان قبيحا أو ضارا ولا يحب أن يرجع وإن تأذى به... وقد اختلف المفسرون في إسناد التزيين في هذا المقام فأسنده بعضهم إلى الشيطان... وأسنده بعضهم إلى الله تعالى...
أقول: وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر وبيان حقيقة الأمر في نفسه لا في جزئياته وأفراد وقائعه. فالمراد أن الله تعالى أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه. ومثل هذا لا يجوز إسناده إلى الشيطان بحال، وإنما يسند إليه ما قد يعد هو من أسبابه كالوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا. ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال قال تعالى: {وإذا زين لهم الشيطان أعمالهم} [الأنفال: 48] الآية وقال: {وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} [الأنعام: 43] وأما الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له. قال عز وجل: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} [الكهف: 7] وقال: {كذلك زينا لكل أمة عملهم} [الأنعام: 108] فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع وفي هذا المعنى آيات أخرى. ثم بين المشتهيات التي يحبها الناس وحبها مزين لهم وله مكانة من نفوسهم بقوله: {من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} فهذه ستة أنواع: (أولها): النساء وحبهن لا يعلوه حب لشيء آخر من متاع الحياة الدنيا. فهن مطمح النظر وموضع الرغبة وسكن النفس ومنتهى الأنس، وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال في كدهم وكدحهم فكم افتقر في حبهن غني؟ وكم استغنى بالسعي للحظوة عندهن فقير؟ وكم ذل بعشقهن عزيز؟ وكم ارتفع في طلب قربهن وضيع؟ ولعل في القارئين من يحب أن يعرف كيف يغنى الفقير ويرتفع الوضيع بسبب حب النساء إذا كان لا يوجد فيهم من يحتاج إلى معرفة كيف يذل العاشق ويفتقر فنقول: إن من يحب ذات شرف ورفعة ويرى أنه لا سبيل إلى الاقتران بها إلا بتحصيل المال وتسنم غارب المعالي يوجه جميع قواه إلى ذلك ولا يزال به حتى يناله. ولم يذكر حب النساء للرجال على أن حبهن لهم من نوع حبهم لهن ولكن الحب لا يبرح بالنساء تبريحه بالرجال. فالمرأة أقدر على ضبط حبها وكتمانه وضبط نفسها وحفظ مالها، وإنك لتسمع بأخبار المئين والألوف من الرجال الذين افتقروا أو احتقروا أو جنوا في حب النساء ولا تجد في مقابلتهم عشر نسوة قد منين بمثل ذلك في الرجال. ثم إن الرجال هم القوامون على النساء لقوتهم وقدرتهم على الحماية والمكسب فإسرافهم في الحب واستهتارهم في العشق له الأثر العظيم في شؤون الأمة وفي إضاعة الحق أو حفظه. فإن قيل: إن حب الولد أشد من حب المرأة فلماذا قدم ذكر النساء؟ أقول إن الأمر ليس كذلك فإن حب الولد وإن كان لا يزول وحب المرأة قد يزول لا يعظم فيه الغلو والإسراف كحبها، وكم من رجل جنى عشقه للمرأة على أولاده حتى أن كثيرا من الرجال الذين تزوجوا بأكثر من امرأة فعشقوا واحدة وملوا أخرى قد أهملوا تربية أولاد المملولة وحرموهم الرزق من حيث أفاضوا نصيبهم على أولاد المحبوبة. وهذا من أسباب تحريم التزويج بأكثر من واحدة على من يخاف أن لا يعدل، فكيف بمن يوقن بذلك ويعزم عليه؟ وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الفقراء الأذلاء لعشق والدهم لغير أمهم من نسائه وإن ماتت أمهم ولم يكن للمعشوقة ولد وما هو إلا محض التقرب وابتغاء الزلفى إلى المرأة. أما السبب في كون حب الرجل للمرأة أقوى من حبها له فهو أن السبب الطبيعي لهذا الحب هو داعية النسل لا قصده، والداعية في الرجل أقوى وأشد. ولذلك تراه يشغل بها إذا بلغ سنا أكثر من المرأة على كثرة شواغله الصارفة له عن ذلك وهو هو الذي يطلب المرأة ويبذل جهده وماله في سبيلها موطنا نفسه على أن يمونها ويصونها ويتحمل أثقالها طول الحياة وما عليها هي إلا القبول. فإن طلبت أجملت في الطلب...
(النوع الثاني) حب البنين: أي الأولاد، فاكتفى بذكر ما كان حبه أقوى والفتنة به أعظم على طريق التغليب أو لدلالة ما حذف فيما قبله كدلالته هو على ما حذف مما قبله على طريق الاحتباك أو شبه الاحتباك، وأخر في الذكر عن حب النساء لما تقدم ولتأخره في الوجود إذ الأولاد من النساء. قلنا إن العلة الطبيعية لحب النساء أو الأزواج هي داعية النسل، فهذه الداعية تحدث في النفس انفعالا يحفز صاحبه إلى الزواج. وأما حب الأولاد فيكاد يكون كحب النفس لا علة له غير ذاته إلا أن نقول إن عاطفة رحمة الوالدين بالولد منذ يولد هي غير عاطفة حبها له وهي علته. ولكن حكمة الخالق في حب الزوجية وحب الولد واحدة وهي تسلسل النسل وبقاء النوع وهي حكمة مطردة في غير الناس من الأحياء. هذا هو حب الولد من حيث هو ولد. وقد يكون للولد محبات أخرى في قلوب الوالدين كحب الأمل في نصرته ومعونته وحب الاعتزاز به وهذا مما يشارك الأولاد فيه غيرهم وإن كان يكون فيهم أقوى لأن وجوه المحبة إذا تعددت يغذي بعضها بعضا، وحب الولد من حيث هو ولد يظهر في وقت ذهاب الأمل في فائدته بأشد مما يظهر مع الأمل فيها، كحال الصغر والمرض. وقد قيل لبعض أصحاب الفطرة السليمة: أي ولدك أحب إليك؟ فقال صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يبرأ...
(النوع الثالث) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة: أي كثرة المال، وهو مما أودع في الغرائز وعلته أن المال وسيلة إلى الرغائب، وموصل إلى الشهوات واللذائذ، ورغائب الإنسان غير محدودة، وأفراد لذائذه غير معدودة، فهو لاستعداده الذي لا منتهى له يطلب الوسائل إلى رغائب لا منتهى لها، وهذه الرغائب يتولد بعضها من بعض، فلا جرم أن الإنسان لا يستكثر المال مهما كثر، بل إن كثرته هي التي تزيد فيه نهمته، حتى أنه لينسى أنه وسيلة إلى غيره فيجعل جمعه مقصدا يتفنن في طرقه كلما سلك طريقا عنَّ له من السلوك فيه طرق أخرى. قال صلى الله عليه وسلم "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لها ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب "رواه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والتعبير بالقناطير المقنطرة يشعر بأن الكثرة هي التي تكون مظنة الافتتان لأنها تشغل بالتمتع بها القلب، وتستغرق في تدبيرها الوقت، حتى لا يكاد يبقى في قلب صاحبها منفذ للشعور بالحاجة إلى غيرها من طلب الحق ونصرته في الدنيا، والاستعداد لما أعده الله للمتقين في الأخرى، وما بعث الله رسولا في أمة، ولا مصلحا في قوم، إلا وكان الأغنياء أول من كفر وعاند وأبى واستكبر، وأن مؤمني الأغنياء أقلهم عملا، وأكثرهم زللا، قال تعالى: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا واهلونا} [الفتح:11] وقال: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} [الأنفال: 28] فقدم الفتنة بالأموال على الفتنة بالأهلين، وكأنه إنما أخر ذكر الأموال هنا عن ذكر النساء والبنين لأن الكلام في طبيعة الحب لا في الاشتغال والفتنة به خاصة، وحب النساء والبنين مقصد وحب المال وسيلة، لا يجعله مقصدا إلا من أعمته الفتنة عن الحقيقة...
والأنعام مال أهل البادية بها ثروتهم، وفيها تكاثرهم وتفاخرهم، ومنها معايشهم ومرافقهم، ولعله أخرها عن ذكر الخيل المسومة لأن من قدر على اقتناء أنعام يقدر على اقتناء الخيل المسومة ويضاهيه في التمتع بالدنيا، وإلا فإن الأنعام أكثر نفعا قال تعالى في السورة التي يعدد بها النعم على عباده بعد ذكر خلق الإنسان: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} [النحل: 5 8]. (النوع السادس) الحرث: أي الزرع والنبات نجمه وشجره على اختلاف انواعه وهو قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر. وإنما جعله آخر الأنواع في الذكر على أنه أولها في شدة الحاجة إليه لأنه لما كان الارتفاق به أعم كانت زينته في القلوب أقل، فهو قلما يكون مانعا للإنسان عن البحث عن الحق ونصره أو صادا عن الاستعداد للآخرة وإن من النعم ما هو أعظم من نعمة الحرث وأعم وأشمل وهو الهواء الذي لا يستغني عنه الأحياء لحظة واحدة، سواء منها النبات والحيوان وهو لذلك لا فتنة من التمتع به وقلما يفكر الإنسان بغبطته به أو حاجته إليه. ثم قال تعالى: {ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب} أي ذلك الذي ذكر من الأنواع الستة هو ما يستمتع به الناس في حياتهم الدنيا أي الأولى والله عنده حسن المرجع في الحياة الآخرة التي تكون بعد موت الناس وبعثهم، فلا ينبغي لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل، بحيث يشغلهم عن الاستعداد لما هو خير منه في الآجل، كما سيأتي التصريح به في الآية التالية لهذه الآية. فقد علم مما شرحته أن الكلام في هذه الشهوات بيان لما فطر عليه الناس من حبها وزينه في نفوسهم، وتمهيد لتذكيرهم بما هو خير منها لا لبيان قبحها في نفسها كما يتوهم الجاهل. فإن الله تعالى ما فطر الناس على شيء قبيح بل خلقهم في أحسن تقويم، ولا جعل دينه مخالفا لفطرته بل موافقا لها كما قال: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 30] وكيف يكون حب النساء في أصل الفطرة مذموما وهو وسيلة إتمام حكمته ورحمته، كما قال: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 20] وكان صلى الله عليه وسلم يحبهن. وكيف يكون حب المال مذموما لذاته والله تعالى قد جعل بذل المال من آيات الإيمان، وهو تعالى ينهى عن الإسراف والتبذير في إنفاقه كما ينهى عن البخل به، وقد امتن على نبيه بأنه وجده عائلا أو فقيرا فأغناه، وجعل المال قواما للأمم ومعززا للدين ووسيلة لإقامة ركنين من أركانه ومن أعظم أسباب التقرب إليه تعالى. وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب العبد التقي الغني الحفي" رواه مسلم في صحيحه. ولا أراني في حاجة إلى الكلام في حب البنين والخيل والأنعام والحرث. فإن الشبهة فيها للغالين في الزهد أضعف. فعلى المؤمن المتقي أن لا يفتتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه والشاغل له عن آخرته. فإذا اتقى ذلك واستمتع بها بالقصد والاعتدال والوقوف عند حدود الله تعالى فهو السعيد في الدارين {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201]...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها، قال تعالى {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي: وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودن منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها {ذلك متاع الحياة الدنيا} فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم. وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما {والله بصير بالعباد} أي: عالم بما فيهم من الأوصاف الحسنة والأوصاف القبيحة، وما هو اللائق بأحوالهم، يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء. فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى. إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض. ولما كانت هذه الرغائب والدوافع -مع هذا- طبيعية وفطرية، ومكلفة من قبل الباريء -جل وعلا- أن تؤدي للبشرية دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدتها واندفاعها؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكا لها متصرفا فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى. ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي.. هذه الرغائب والدافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر الوانا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة. وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام.. وهي خلاصة للرغائب الأرضية. إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى...
(زين للناس). وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل؛ فهو محبب ومزين.. وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه. ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه "الشهوات"، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته. فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد -كما أسلفنا- ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها. هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه "الشهوات". الحد الباني للنفس وللحياة؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي تهتف إليه النفحة العلوية، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله.. هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول، وينقيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة.. والاتجاه إلى الله، وتقواه، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة. (زين للناس حب الشهوات).. فهي شهوات مستحبة مستلذة؛ وليست مستقذرة ولا كريهة. والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى. والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك "الشهوات" في غير استغراق ولا إغراق!... والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية.. وقد قرن اليهما (القناطير المقنطرة من الذهب والفضة).. ونهم المال هو الذي ترسمه (القناطير المقنطرة) ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال: والأموال. أو والذهب والفضة. ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود. ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة. ذلك أن التكديس ذاته شهوة. بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى! ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة.. الخيل المسومة. والخيل كانت -وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم- زينة محببة مشتهاة. ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة. وفيها ذكاء وألفة ومودة. وحتى الذين لا يركبونها فروسية، يعجبهم مشهدها، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية! وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث. وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع.. الأنعام والحقول المخصبة.. والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء. وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفت إليه شهوة الملك، كان الحرث والأنعام شهوة. وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان. والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه، ولا تطغى على ما سواه: (ذلك متاع الحياة الدنيا).. ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة -وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات- متاع الحياة الدنيا. لا الحياة الرفيعة، ولا الآفاق البعيدة.. متاع هذه الأرض القريب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف نشأ عن قوله: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم} [آل عمران: 10] إذ كانت إضافة أموالٍ وأولاد إلى ضمير « هم» دالة على أنّها معلومة للمسلمين. قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات. وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس. والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً...
وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف. وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ، أي المشتهيات نفسها، لا حبُّها، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان، وليس الحبّ بمزيَّن، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها... وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام، والمعرَّضة للزوال، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية، وتنال النعيم الأبدي العظيم؛ كما أشار إليه قوله: {ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب}. وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما، بيان بأصول الشهوات البشرية: التي تجمع مشتهيَات كثيرة، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل؛ إذ المرأة هي موضع التناسل، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة، وفي الحديث: « ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء» ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسان. ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع: إذ جعل الله في الوالدين، من الرجال والنساء، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل، وببقائه بقاء النوع، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف، بعد القوة، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه. والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء، والنقدان منهما: الدنانيرُ والدراهم، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة بين سبحانه اغترار المشركين بأموالهم وأولادهم وكثرتهم،وكثرة النفر الذين يعاضدونهم،وأشار إلى اغترار آل فرعون بسلطانهم،وعاقبة أمرهم؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه مصدر الغرور وأسباب الاغترار في هذه الدنيا،وما ركز في قلوب الناس من حب الشهوات التي يؤدي الاشتداد في طلبها إلى الانحراف في التفكير وإلى ان يطمس على البصيرة فلا تدرك الأمور على وجهها؛ ثم يبين سبحانه منزلة ما في هذه الدنيا من متع فانية بجوار ما في الآخرة من نعيم دائم.وإذا كان قد بين سبحانه وتعالى اولا مآل المغترين المعتزين بأعراض الدنيا،فقد بين في هذه الآيات مآل المتقين وأوصافهم،ومقدار فهمهم لزخارف هده الحياة وما فيها من شهوات مردية عند الانحراف في طلبها.ولقد ابتدأ سبحانه بما ركز في فطرة كل إنسان من حب وطلب لهذه الشهوات في مواضعها...
الموضع الذي تأتي فيه هذه الآية الكريمة هو: موقع ذكر المعركة الإسلامية التي جعلها الله آية مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك الإيمانية تتطلب الانقطاع إلى الله، وتتطلب خروج الإنسان المؤمن عما ألف من عادة تمنحه كل المتع. والمعارك الإيمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي بكثير من ماله في تسليح نفسه، وتسليح غيره أيضا. فمن يقعد عن الحرب إنسان تغلبه شهوات الدنيا، فيأتي الله بهذه الآية بعد ذكر الآية التي ترسم طريق الانتصارات المتجدد لأهل الإيمان؛ وذلك حتى لا تأخذنا شهوات الحياة من متعة القتال في سبيل الله ولإعلاء كلمته فيقول:"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ" وكلمة "زُيِّنَ "تعطينا فاصلا بين المتعة التي يحلها الله، والمتعة التي لا يرضاها الله؛ لأن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر. فالمرأة تكون جميلة في ذاتها وبعد ذلك تتزين، فتكون زينتها شيئا فوق جوهر جمالها. فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها، بل نأخذها بحقيقتها الاستبقائية فيقول: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ". وما الشهوة؟ الشهوة هي ميل النفس بقوة إلى أي عمل ما. وحين ننظر إلى الآية فإننا نجدها توضح لنا أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة فهو مطلوب ومقبول، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك فهذا هو الممقوت. وسبق أن ضربنا المثل من قبل بأعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس، وأن الحيوان يفضل الإنسان فيها، فالحيوان أخذ العملية الجنسية لاستبقاء النوع بدليل أن الأنثى من الحيوان إذا تم لقاحها من فحل لا تُمكِّن فحلاً اخر منها. والفحل أيضاً اذا ما جاء إلى أنثى وهي حامل فهو لا يُقبل عليها، إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس كاستبقاء للحياة، ولم تأخذها كالإنسان لذة متجددة. ومع ذلك فنحن البشر نظلم الحيوانات، ونقول في وصف شهوة الإنسان: أن عند فلان شهوة بهيمية. ويا ليتها كانت شهوة بهيمية بالفعل؛ لأن البهيمة قد أخذتها على القدر الضروري، لكن نحن فلسفناها، إذن فخروجك بالشيء عما يمكن أن يكون مباحاً ومشروعا يسمى: دناءة شهوة النفس. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن للكون بقاءه، والبقاء له نوعان: أن يُبقِي الإنسان حياته بالمطعم والمشرب، وتبقى حياة النوع الإنساني بالتزاوج. ولكن إن نظرت إلى المسألة وجدت الخالق حكيما عليما. إنه يعلم أن طفولة أي حيوان بسيطة بالنسبة لأبيه وأمه، مثال ذلك: الحمامة تطعم فرخها إلى أن يستطيع الطيران، ثم لا تعرف أين ذهب فرخها، لكن حصيلة الالتقاء بين الرجل والمرأة، والتي أراد الله لها أن تنتج الأولاد تحتاج إلى شقاء إلى أن يبلغ الولد، وذلك ليكون هناك تكافؤ وتناسب بين ما يحرص عليه الإنسان من شهوة، وما يتحمل من مشاق ومتاعب في سبيل الاستمتاع بها واستبقائها. فقول الحق سبحانه:"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ "فمن المزين؟ إن كان في الأمر الزائد على ضروريات الأمر، فهذا من شغل الشيطان، وإن كان في الأمر الرتيب الذي يضمن استبقاء النوع فهذا من الله. ونجد الحق يضيف" البنين "إلى مجال الشهوات ويقصد بها الذكران، ولم يقل البنات، لماذا؟ لأن البنين هم الذين يُطلبون دائما للعزوة كما يقولون ولا يأتي منهم العار، وكان العرب يئدون البنات ويخافون العار، والمحبوب لدى الرجل في الإنجاب حتى الآن هو إنجاب البنين، حتى الذين يقولون بحقوق المرأة وينادون بها، سواء كان رجلا أو امرأة إن لم يرزقه الله بولد ذكر فإنه أو إنها تريد ولداً ذكراً. ويضيف الحق إلى مجال الشهوات: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}، والقناطير هي جمع قنطار، والقنطار هو وحدة وزن، وهذا الوزن حددته كثافة الذهب، إلا أن القنطار قبل أن يكون وزناً كان حجماً، لكنهم رأوا الحجم هذا يزن قدراً كمياً، فانتقلوا من الحجم إلى الوزن. وكان علامة الثراء الواسع في الزمن القديم أن يأتوا بجلد الثور بعد سلخه ويملأوه ذهبا، وملء جلد الثور بالذهب يسمونه قنطاراً، وكانت هذه عملية بدائية. وبعد ذلك أخذوا ملء الجلد ذهباً ووزنوه فصار وزنا. إذن فالأصل فيه أنه كان حجماً، فصار وزناً. وساعة تسمع {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} فهو يريد أن يحقق فيها القنطارية، وذلك يعني أن القنطار المقنطر هو القنطار الكامل الوزن، وليس مجرد قنطار تقريباً... إذن فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة الميزان، وهي قناطير مقنطرة من ماذا؟ {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}. وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة وعلامة على العظمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة "قول الحق: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالات متعددة من المعاني، فمسوَّمة من سامها يَسوُمها، ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعى تأكل منها كما تريد، وليست خيلاً مربوطة بأكل ما يُقدم لها فقط، ومسوّمة أيضاً تعنى أن لهذا الخيل علامات، فهذا حصان أغرّ، وذلك أدهم وذاك أشقر. ومسوَّمة أيض؟؟، أن تكون مروضة، ومدربة، وتم تعليمها، فالأصل في الخيل أنها لم تكن مُستأنسة بل مُتوحشة، ولذلك لا بد من ترويضها حتى ينتفع بها الإنسان. فكم معنى إذن أعطته لنا كلمة" مُسَوَّمَةِ "؟.. وعندما نتأمل الآية في مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله، إنه سبحانه يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله في منهجه، إنه -سبحانه- يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد الله، فما الذي يجعل المؤمن يترك مراد الله من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟. لا شك أنه الهوى، والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب، ولكل هوى مفتاح، ولكل شخصية من المكلفين بمنهج الله مفتاح لهواه، فواحد مفتاحه النساء، وواحد مفتاحه البنون، يحب أن يرعاهم رعاية تفوق دَخْلَه من عمل أو صناعة مثلا فقد يسرق أو يرتشي ليسعد هؤلاء. وأناس مفاتيحهم الشخصية المال، أو في زينة الخيل، والعدة والعتاد فلكل شخصية مفتاح هوى. والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم، فربما كان هناك إنسان لا تُغريه نظرة المرأة أو ملايين الذهب إنما يتملكه حبه لأولاده وهو الهوى الغلاب. إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته، والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح من يريدون إغراءه وإغواءه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن الله يحدثنا عن الحياة وما تشتمل عليه مما تشتهيه النفوس في ما تُلحُّ عليه الغرائز وتتحفز له الأطماع، وما تحتاجه من حاجات الحياة الدنيا، فقد زُيّن للإنسان ذلك كله، وتحوّل في كيانه إلى حبٍّ يأخذ عليه مشاعره وأحاسيسه ويدفعه إلى العمل الجاد في سبيل الحصول عليه، وربما يدخل حلبة الصراع في المعارك من أجل الوصول إلى شيء منه، فإذا تطلع الإنسان إلى الناس، فإنه سيجدهم يتسابقون في حبّ النساء ليحصلوا على لذة الجنس، وفي حبّ البنين ليشعروا بالقوة والامتداد لحياتهم، وفي الرغبة بالقناطير المقنطرة التي هي كنايةٌ عن الكثرة من الذهب والفضة، والخيل المسوّمة التي تتغذى بالرعي، أو التي تزيّن وتعرض بأجمل صورة، والأنعام من الإبل والغنم والبقر والزرع، وغير ذلك من متع الدنيا وشهواتها التي قد تتبدل وتتغير حسب تغير الأوضاع والأزمان، ولكن الحالة تبقى على ما هي عليه، فالإنسان الآن هو الإنسان قبل آلاف السنين في حبّه لشهوات الدنيا، وإن اختلفت أنواع الشهوات وأشكالها ووسائلها وطريقة ممارستها، فلا يزال الناس يعيشون الحاجة إلى أمثال هذه الأمور، من موقع الحاجة عند بعض، ومن موقع القيمة الكبيرة عند بعض آخر. أما النظرة الإسلامية إلى ذلك، فهي التي تعبر عنها هذه الآية وما بعدها، فإن هذه الأمور لا تمثل القيمة الكبيرة التي يجعل منها الإنسان هدفاً عظيماً لحياته، بحيث تتحول إلى ما يشبه الرسالة التي يكافح من أجلها ويموت في سبيلها، بل هي مجرد متاعٍ للحياة الدنيا لا يعني للإنسان إلا كما تعني الحاجة الطبيعية التي يمارسها ممارسة طبيعية لا تزيد عن المقدار العادي الذي يحتاجه من أجل استمرار حياته، فيجاهد في سبيلها على أساس علاقتها بامتداد الحياة واستقرارها ونموّها الطبيعي، بعيداً عن كل ما يجعلها هدفاً مطلوباً لذاته، لأن الإنسان سيفارق ذلك كله إن عاجلاً أو آجلاً، كما يفارق الحياة نفسها... فإذا كانت الحياة الدنيا لا تمثل الهدف الأسمى في ذاتها، فكيف بهذه المتع السريعة التي لا يمثل الإحساس بها إلاّ شعور اللحظة العابرة التي تلامس الغرائز ثم تذوب وتغيب وتتحول إلى مجرد ذكرى طيّبة... أمَّا القيمة التي تمثل الرسالة الخالدة الممتدة التي تملأ الحياة الداخلية للإنسان بالفكر والطمأنينة، والحياة الخارجية له بالعمل والمعاناة والجهاد، فهي الإيمان بالله وطلب ما عنده، فإن عنده حسن المآب، فهناك يجد الإنسان الرضا كل الرضا، واللذّة كل اللذة، في ما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين، حيث المشاعر تتصل بالانفعالات الخالدة الرائعة التي لا تتجمد عند نداء اللحظة، بل تستمر وتمتد ليفيض الإنسان بالسعادة الخالدة التي قد تلتقي مع بعض أشكال الشهوات في الدنيا ولكنها من نوع آخر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من المتع الروحية والمادية للإنسان. إن الله لا يريد للإنسان أن يترك شهوات الحياة الدنيا فيحرم نفسه منها تماماً، أو يرى في حرمان نفسه منها قيمةً روحيةً ذاتيةً، بل يريد له أن يعاملها كما يعامل المتاع الذي يقضي فيه حاجته من دون أن يعطيه حجماً أكبر وقيمةً أعلى، أمّا القيمة فهي التطلع لما عند الله الذي يتحوّل إلى عمل دائب من أجل أن يجعل الحياة كلها سائرةً على درب الله في ما يريده لها من نظام وشريعة، وعلى هدى العقيدة الصحيحة التي تبني الحياة على قاعدة ثابتة من الإيمان بالله. وتلك هي السعادة، كل السعادة، أن يعيش الإنسان همَّ الرسالة من أجل الإنسان والحياة لتحقيق رضا الله في ذلك كله، وتلك هي النفس المطمئنة الراضية المرضية التي يناديها الله للدخول في عباده وجنته ...