سورة الأنفال نزلت بالمدينة ، وهي تشتمل على خمس وسبعين آية ، وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة بعض أحكام القتال ، والبواعث عليه ، وأسباب النصر ، ومقام القوة المعنوية في الانتصار ، وأحكام غنائم الحرب ، ومتى يكون الأسر ، واجتمع فيها الحكم الشرعي بحكمته ، وهي تذكر قصة غزوة بدر ، وبعض ما كان قبلها ، وما جاء في أعقابها من الإشارة إلى سببها ؛ وهو إخراج المشركين للنبي من مكة . ويذكر سبحانه فيها الاستعداد للحرب ، ووجوب السلم إن جنحوا لها . وتختم السورة الكريمة ببيان ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ، ووجوب هجرة المؤمنين من أرض يستذلون فيها ليجاهدوا مع أوليائهم من المؤمنين في سبيل عزة الإسلام وعزتهم .
1- أُخرج النبي من مكة مهاجراً بسبب مكر المشركين وتدبيرهم أمر قتله ، وليكون للمسلمين دولة ، واستقر بالمدينة حيث النصرة ، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء ، لكيلا يُفتَنَ أهل الإيمان ، فكانت غزوة بدر الكبرى ، وكان فيها النصر المبين والغنائم ، وكان وراء الغنائم بعض الاختلاف والتساؤل في توزيعها . يسألونك عن الغنائم : ما مآلها ؟ ولمن تكون ؟ وكيف تقسم ؟ فقل لهم - أيها النبي - : إنها لله والرسول ابتداء ، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها ، فاتركوا الاختلاف بشأنها ، واجعلوا خوف الله وطاعته شعاركم ، وأصْلحوا ما بينكم ، فاجعلوا الصِّلاتِ بينكم محبة وعدلا ، فإن هذه صفة أهل الإيمان .
1 - 4 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
الأنفال هي الغنائم التي ينفلها اللّه لهذه الأمة من أموال الكفار ، وكانت هذه الآيات في هذه السورة قد نزلت في قصة بدر أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين ، . فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع ، فسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنها ، فأنزل اللّه يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَال كيف تقسم وعلى من تقسم ؟
قُلْ لهم : الأنفال لله ورسوله يضعانها حيث شاءا ، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله ، . بل عليكم إذا حكم اللّه ورسوله أن ترضوا بحكمهما ، وتسلموا الأمر لهما ، . وذلك داخل في قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . .
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أي : أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر ، بالتوادد والتحاب والتواصل . . فبذلك تجتمع كلمتكم ، ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع -من التخاصم ، والتشاجر والتنازع .
ويدخل في إصلاح ذات البين تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء والتدابر ، . والأمر الجامع لذلك كله قوله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله ، . كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن .
سورة الأنفال مدنية وأياتها خمس وسبعون
نعود الآن إلى القرآن المدني - بعد سورتي الأنعام والأعراف المكيتين - وقد سبقت منه في هذه الظلال - التي نسير فيها وفق ترتيب المصحف لاوفق ترتيب النزول - سور : البقرة ، وآل عمران ، والنساء والمائدة . . ذلك أن الترتيب الزمني للنزول لا يمكن القطع فيه الآن بشيء - اللهم إلا من ناحية أن هذا قرآن مكي وهذا قرآن مدني على وجه الإجمال ، على ما في هذا من خلافات قليلة - فأما الترتيب الزمني المقطوع به من ناحية زمن نزول كل آية أو كل مجموعة من الآيات أو كل سورة ، فيكاد يكون متعذراً ؛ ولا يكاد يجد الإنسان فيه اليوم شيئاً مستيقناً - إلا في آيات معدودات تتوافر بشأنها الروايات أو تقطع بشأنها بعض الروايات . . وعلى كل ما في محاولة تتبع آيات القرآن وسوره وفق الترتيب الزمني للنزول من قيمة ، ومن مساعدة على تصور منهج الحركة الإسلامية ومراحلها وخطواتها ، فإن قلة اليقين في هذا الترتيب تجعل الأمر شاقاً ؛ كما أنها تجعل النتائج التي يتوصل إليها تقريبية ظنية ، وليست نهائية يقينية . . وقد تترتب على هذه النتائج الظنية التقريبية نتائج أخرى خطيرة . . لذلك آثرت في هذه الظلال أن أعرض القرآن بترتيب سوره في المصحف العثماني ؛ مع محاولة الإلمام بالملابسات التاريخية لكل سورة - على وجه الإجمال والترجيح - والاستئناس بهذا في إيضاح الجو والملابسات المحيطة بالنص - على وجه الإجمال والترجيح أيضاً - على النحو الذي سبق في التعريف بالسور الماضية في هذه الطبعة الجديدة من الظلال . . وعلى هذا النحو نمضي - بعون الله - في هذه السورة . .
نزلت سورة الأنفال التي نعرض لها هنا بعد سورة البقرة . . نزلت في غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهراً من الهجرة على الأرجح . . ولكن القول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية . فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة ؛ بل أن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة ، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد . وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات ! ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين ؛ وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة ؛ تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين ؛ وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي . ولكن المعول عليه في قولهم : إن هذه السورة نزلت بعد هذه السورة ، هو نزول أوائل السور . كما ذكرنا ذلك في التعريف بسورة البقرة .
وفي بعض الروايات أن الآيات من 30 إلى غاية 36 من سورة الأنفال مكية . . وهي هذه الآيات :
( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا . لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين . وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم . وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لايعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . . )
ولعل الذي دعا أصحاب هذه الروايات إلى القول بمكية هذه الآيات أنها تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة . . ولكن هذا ليس بسبب . . فإن هناك كثيراً من الآيات المدنية تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة . وفي هذه السورة نفسها آية : 26 قبل هذه الآيات تتحدث عن مثل هذا الشأن :
( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ، تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .
كما أن الآية : 36 وهي الأخيرة من تلك الآيات تتحدث عن أمر كان بعد بدر ، خاص بإنفاق المشركين أموالهم للتجهيز لغزوة أحد :
( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، ثم يغلبون ، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ) . .
والروايات التي تذكر أن هذه الآيات مكية ذكرت في سبب النزول مناسبة هي محل اعتراض . فقد جاء فيها : أن أبا طالب قال لرسول الله [ ص ] ما يأتمر به قومك ? قال : يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني ! فقال : من أخبرك بهذا ? قال : ربي . قال : نعم الرب ربك . فاستوص به خيراً ! فقال رسول الله [ ص ] : أنا استوصي به ! بل هو يستوصي بي خيراً ! فنزلت : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) . . الآية . .
وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية واعترض عليها بقوله : " وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً ، بل منكر . لأن هذه الآية مدنية . ثم إن هذه القصة ، واجتماع قريش على هذا الائتمار ، والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما كانت ليلة الهجرة سواء . وذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين . لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه " . .
وقد ذكر ابن إسحاق . عن عبد الله ابن أبي نجيح . عن مجاهد . عن ابن عباس - وعنه كذلك من طريق آخر - حديثاً طويلاً عن تبييت قريش ومكرهم هذا ، جاء في نهايته قوله : " . . وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه - بعد قدومه المدينة - " الأنفال " يذكره نعمه عليه ، وبلاءه عنده : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين ) " . .
وهذه الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها . من تذكير الله سبحانه لنبيه [ ص ] وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله ؛ في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل الله والاستجابة لما يدعوهم إليه منه والثبات يوم الزحف . . إلى آخر ما تعالجه السورة من هذاالأمر كما سنبين . . والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى . .
وبعد ، فإنه من أجل مثل هذه الملابسات في الروايات الواردة عن أسباب النزول ، آثرنا المنهج الذي جرينا عليه في عرض القرآن الكريم كما هو ترتيب السور في مصحف عثمان - رضي الله عنه - لا وفق ترتيب النزول الذي لا سبيل اليوم فيه إلى يقين . . مع محاولة الاستئناس بأسباب النزول وملابساته قدر ما يستطاع .
هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى . . وغزوة بدر - بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة - تقوم معلماً ضخماً في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ .
وقد سمى الله - سبحانه - يومها ( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . . كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك لا في هذه الأرض وحدها ؛ ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها . فقال سبحانه : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود . ولهم مقامع من حديد . كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها ، وذوقوا عذاب الحريق . . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير . وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد . . ) . . [ الحج : 19 - 24 ] وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر . . يوم الفرقان . . لا في الدنيا وحدها ، ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها ؛ ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل . . وتكفي هذه الشهادة من الجليل - سبحانه - لتصوير ذلك اليوم وتقديره . . وسنعرف شيئاً من قيمة هذا اليوم ، حين نستعرض الوقعة وملابساتها ونتائجها . .
ومع كل عظمة هذه الغزوة ، فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها وحين نراها حلقة من حلقات " الجهاد في الإسلام " ، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه . كذلك نحن لا ندرك طبيعة " الجهاد في الإسلام " وبواعثه وأهدافه ، قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته . .
لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في " زاد المعاد " ، في الفصل الذي عقده باسم : " فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل : أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق . وذلك أول نبوته . فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ . ثم أنزل عليه : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر )فنبأه بقوله : ( اقرأ )وأرسله ب( يا أيها المدثر ) . ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين . ثم أنذر قومه . ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة . ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ؛ ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة . وأهل حرب . وأهل ذمة . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ؛ فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد . وأمر أن يقاتل من نقض عهده . . ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام . وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم . فجاهد الكفار بالسيفوالسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان . وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم . . وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم . وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ؛ أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر ؛ فإذا انسلخت قاتلهم . . فقتل الناقض لعهده ؛ وأجل من لا عهد له ، أو له عهد مطلق ، أربعة أشهر . وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ؛ فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية . . فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه . فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به . ومسالم له آمن . وخائف محارب . . وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ؛ ويكل سرائرهم إلى الله ؛ وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ؛ وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم . . فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين " . .
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين ، جديرة بالوقوف أمامها طويلاً . ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :
السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين . . فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً . . وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي . . إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية ؛ تقوم عليها أنظمة واقعية عملية ؛ تسندها سلطات ذات قوة مادية . . ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه . . تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها ؛ تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات ؛ وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل . . إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي . كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد . . وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء . .
والسمة الثانية في منهج هذا الدين . . هي الواقعية الحركية . فهو حركة ذات مراحل . كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية . وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها . . فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة . كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة . . والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها . . الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً ؛ ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية . ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً ؛ يمثل القواعد النهائية في هذا الدين . ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً ، وتعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته . ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة . . بعد تحطيمالأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها . .
والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة ، والوسائل المتجددة ، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة . فهو منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشاً ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين ، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ؛ ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد . . هو إخلاص العبودية لله ، والخروج من العبودية للعباد . . لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين . ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد ، في خطة مرسومة ؛ ذات مراحل محددة ؛ لكل مرحلة وسائلها المتجددة . على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة .
والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " . وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه ؛ أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية . وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته . ولكن لا يقاومه ولا يحاربه ! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه !
والمهزومون روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ليدفعوا عن الإسلام هذا " الاتهام ! " . . يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة ، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه ؛ والتي تعبد الناس للناس ؛ وتمنعهم من العبودية لله . . وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما . . ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة ! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : " الحرب الدفاعية " . . والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم ، ولا بواعثها ، ولا تكييفها كذلك . . إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة " الإسلام " ذاته ، ودوره في هذه الأرض ، وأهدافه العليا التي قررها الله ؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات . .
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين . . إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ؛ والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور . . أو بتعبير آخر مرادف : الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور . . ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر ، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله ؛ وطرد المغتصبين له ؛ الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ؛ ويقوم الناس منهم مقام العبيد . . إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض . . أو بالتعبير القرآني الكريم :
( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . .
( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه . . ذلك الدين القيم . . ) . .
( قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون ) . .
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال في ما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس ! ! ! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ؛ وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة .
وقيام مملكة الله في الأرض ، وإزالة مملكة البشر . وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده . وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية . . كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان . لأن المتسلطين على رقاب العباد ، المغتصبين لسلطان الله في الأرض ، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان . وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال !
إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله ، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً . . إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً . . إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ؛ ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " . . ذلك ليواجه " الواقع " البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه .
والواقع الإنساني ، أمس واليوم وغداً ، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية . وعقبات مادية واقعية . . عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة . . وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد . .
وإذا كان " البيان " يواجه العقائد والتصورات ، فإن " الحركة " تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية ، والعنصرية والطبقية ، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة . . وهما معاً - البيان والحركة - يواجهان " الواقع البشري " بجملته ، بوسائل مكافئة لكل مكوناته . . وهما معاً لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض . . " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . . وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى !
إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! . . إن موضوعه هو " الإنسان " . . نوع " الإنسان " . . ومجاله هو " الأرض " . . كل الأرض . إن الله - سبحانه - ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم . . إن الله هو ( رب العالمين ) . . وهذا الدين يريد أن يرد( العالمين )إلى ربهم ؛ وأن ينتزعهم من العبودية لغيره . والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر . . وهذه هي " العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله . وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين . ولقد نص رسول الله [ ص ] على أن " الاتباع " في الشريعة والحكم هو " العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى " مشركين " مخالفين لما أمروا به من " عبادة " الله وحده . .
أخرج الترمذي - بإسناده - عن عدى بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله [ ص ] فر إلى الشام . وكان قد تنصر في الجاهلية . فأسرت أخته وجماعة من قومه . ثم منّ رسول الله [ ص ] على أخته وأعطاها . فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله [ ص ] فتحدث الناس بقدومه . فدخل على رسول الله [ ص ] وفي عنقه [ أي عدي ] صليب من فضة وهو [ أي النبي [ ص ] ] يقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) . . قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : " بلى ! إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " . .
وتفسير رسول الله [ ص ] لقول الله سبحانه ، نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض . . الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير " الإنسان " ، في " الأرض " من العبودية لغير الله . .
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في " الأرض " لإزالة " الواقع " المخالف لذلك الإعلان العام . . بالبيان وبالحركة مجتمعين . . وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله - أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى " البيان " واعتناق " العقيدة " بحرية لا يتعرض لها السلطان . ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة ، أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد !
إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته . . ولكن الإسلام ليس مجرد " عقيدة " . . إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد . فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان . . ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه الحرية ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم ؛ أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيداً للعباد ! وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ! . . إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده ؛ وذلك بتلقي الشرائع منه وحده . ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله لله . أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله . . إن مدلول " الدين " أشمل من مدلول " العقيدة " . . إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة . ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة . . وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام . .
والذي يدرك طبيعة هذا الدين - على النحو المتقدم - يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف - إلى جانب الجهاد بالبيان - ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية - بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح " الحرب الدفاعية " - كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام - إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " . . بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري ؛ وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة .
وإذا لم يكن بد من أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية ، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة " دفاع " .
ونعتبره " دفاعاً عن الإنسان " ذاته ، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره . . هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات ؛ كما تتمثل في الأنظمة السياسية ، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية ، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ؛ والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان !
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة " الدفاع " نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في " الأرض " بالجهاد ؛ ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها ، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ؛ وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان . .
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ؛ ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على " الوطن الإسلامي ! " _وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض . كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ؛ وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض ? وكيف كانوا يدفعون هذا المد ، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية - من أنظمة الدولة السياسية ؛ وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية ، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية ، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك ? !
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير " الإنسان " . . نوع الإنسان . . في " الأرض " . . كل الأرض . . ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان ! . . إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد ، تخاطبهم بحرية ، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات . . فهنا ( لا إكراه في الدين ) . . أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة ، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله ؛ وهو طليق من هذه الأغلال !
إن الجهاد ضرورة للدعوة . إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ؛ ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي ! سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام - آمنا أم مهدداً من جيرانه . فالإسلام حين يسعى إلى السلم ، لا يقصد تلك السلم الرخيصة ؛ وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية . إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله . أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله ؛ والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام - بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها . . ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم : " فاستقر أمر الكفار معه - بعد نزول براءة - على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام . . فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه . . فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به . ومسالم له آمن [ وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة ] وخائف محارب " . . وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه . لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام هجوم المستشرقين الماكر !
ولقد كف الله المسلمين عن القتال في مكة ؛ وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة . . وقيل للمسلمين : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . ثم أذن لهم فيه ، فقيل لهم : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق - إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ، ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ) . . ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) . . ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقيل لهم : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) . . وقيل لهم : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) . . فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - " محرماً ، ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين " . .
إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد ؛ وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه ؛ وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام ، وعلى مدى طويل من تاريخه . . إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله [ ص ] ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ؛ ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملابسات تذهب وتجيء ؛ ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود ? !
لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، لدفع الفساد عن الأرض : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ) . . وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة . الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض . وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط ؛ وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن " الإنسان " في " الأرض " ذلك السلطان الغاصب . . حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله .
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة . كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة . والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة . . هذا هدف أولي لا بد منه . . ولكنه ليس الهدف الأخير . . إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ؛ ويؤمن قاعدة الانطلاق . . الانطلاق لتحرير " الإنسان " ، ولإزالة العقبات التي تمنع " الإنسان " ذاته من الانطلاق !
وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم . لأنه كان مكفولاً للدعوة في مكة حرية البلاغ . . كان صاحبها [ ص ] يملك بحماية سيوف بني هاشم ، أن يصدع بالدعوة ؛ ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ؛ ويواجه بها الأفراد . . لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة ، أو تمنع الأفراد من سماعه ! فلا ضرورة - في هذه المرحلة - لاستخدام القوة . وذلك إلى أسباب أخرى لعلها
كانت قائمة في هذه المرحلة . وقد لخصناها عند تفسير قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . . )من سورة النساء . ولا نرى بأساً في إثبات بعض هذا التلخيص هنا مرة أخرى :
" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ، في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج ، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به - مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ، المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي !
" وربما كان ذلك أيضاً ، لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثراً و أنفذ ، في مثل بيئة قريش ، ذات العنجهية والشرف ؛ والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد ، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس ، أعواماً طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها . وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبداً . ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبداً !
" وربما كان ذلك أيضاً ، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد ، يعذبونه ويفتنونه " ويؤدبونه ! " ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم ، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمداً يفرق بين الوالد وولده ، فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وفي كل محلة ?
" وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته . . ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء ? !
" وربما كان ذلك أيضاً ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عاراً على العرب ! وعُرض عليه جواره وحمايته . . وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من بيئات " الحضارة " القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !
" وربما كان ذلك ، أيضاً ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة ، أو بلغت أخبارها متناثرة ، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهاج حياة ، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة . " . . . الخ . . . "
فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله [ ص ] مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك . .
أولاً : لأن هناك مجالاً للتبليغ والبيان ، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه ، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة ؛ وبقيادة رسول الله [ ص ] في تصريف شؤونها السياسية . فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحاً ولا يثير حرباً ، ولا ينشئ علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله [ ص ] وكان واضحاً أن السلطة الحقيقية في المدينة في يد القيادة المسلمة . فالمجال أمام الدعوة مفتوح ، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة .
ثانياً : أن الرسول [ ص ] كان يريد التفرغ - في هذه المرحلة - لقريش ؛ التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى ؛ الواقفة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها ! لذلك بادر رسول الله [ ص ] بإرسال " السرايا " وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة .
ثم توالت هذه السرايا ، على رأس تسعة أشهر . ثم على رأس ثلاثة عشر شهراً . ثم على رأس ستة عشر شهراً . ثم كانت سرية عبدالله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً . وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال . وكان ذلك في الشهر الحرام . والتي نزلت فيها آيات البقرة : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ! قل : قتال فيه كبير ، وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، والفتنة أكبر من القتل . ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا . . . ) .
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة . . وهي التي نزلت فيها هذه السورة التي نحن بصددها .
ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع ، لا تدع مجالاً للقول بأن " الدفاع " بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية . كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر !
إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي ، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية ، في وقت لم تعد للمسلمين شوكة بل لم يعد للمسلمين إسلام ! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان إلا سلطان الله ، ليكون الدين كله لله - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام !
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية :
( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً . وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ? الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) . . . [ النساء : 74 - 76 ] .
( قل للذين كفروا : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم ، نعم المولى ونعم النصير ) . . . [ الأنفال : 38 - 40 ] . .
( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله . ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ، لا إله إلّا هو ، سبحانه عما يشركون . يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ؛ ولو كره الكافرون ) . . [ التوبة : 29 - 32 ] .
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ؛ وتحقيق منهجه في حياة الناس . ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ؛ وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد الله وحده يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي . . مع تقرير مبدأ : ( لا إكراه في الدين ) . . أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد ؛ والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله . أو أن الدين كله لله . بهذا الاعتبار .
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض . بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . وهذه وحدها تكفي . . ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر ، وحذيفة بن محصن ، والمغيرة بن شعبة ، جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ، وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية ، قبل المعركة : ما الذي جاء بكم ? فيكون الجواب : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . . فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر " .
إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ؛ وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة . . وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية . . لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة !
وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله . . ( في سبيل الله ) . في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ؛ ولا يخرجه لها مغنم ذاتي . .
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان . . مع هواه وشهواته . . مع مطامعه ورغباته . . مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه . . مع كل شارة غير شارة الإسلام . . ومع كل دافع إلا العبودية لله ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله . .
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية " الوطن الإسلامي " يغضون من شأن " المنهج " ويعتبرونه أقل من " الموطن " ! وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات . . إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي . أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها . وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و " دار الإسلام " ونقطة الانطلاق لتحرير " الإنسان " . .
وحقيقة أن حماية " دار الإسلام " حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . ولكنها هي ليست الهدف النهائي . وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي . إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها . ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها ، وإلى النوع الإنساني بجملته . فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين ، والأرض هي مجاله الكبير !
وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة . . وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة . كي يخلو له وجه الأ
( يسألونك عن الأنفال . قل : الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ، وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) .
ذكرنا من قبل في التعريف الإجمالي بالسورة جانباً من الروايات التي وردت عن نزول هذه الآيات . ونضيف هنا إليها بعض الروايات ؛ زيادة في استحضار الجو الذي نزلت فيه السورة جملة ، والذي نزلت فيه الآيات الخاصة بالغنائم والأنفال بوجه خاص ؛ واستحضار الملامح الواقعية للجماعة المسلمة في أول وقعة كبيرة بعد قيام الدولة المسلمة في المدينة .
قال ابن كثير في التفسير : روى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ] : " من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا " . فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لها ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا رداء لكم ، لو انكشفتم لفئتم إلينا . فتنازعوا ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأنفال ) . . . إلى قوله : ( وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) . . وقال الثوري ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ] : " من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " . فجاء أبو اليسير بأسيرين ، فقال : يا رسول الله - صلى الله عليك - أنت وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ، ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك . فتشاجروا ، ونزل القرآن : ( يسألونك عن الأنفال قل : الأنفال لله والرسول ) . . . قال : ونزل القرآن :
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( 19 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ( 20 ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( 21 ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ( 22 )
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) . . . إلى آخر الآية . . .
وروى الإمام أحمد قال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا أبو إسحق الشيباني ، عن محمد بن عبيدالله الثقفي . عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر ، وقتل أخي عمير ، قتلت سعيد بن العاص ؛ وأخذت سيفه . وكان يسمى ذا الكثيفة . فأتيت به النبي [ ص ] فقال : " اذهب فاطرحه في القبض " قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي . قال : فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله [ ص ] " اذهب فخذ سلبك " .
وقال الإمام أحمد أيضاً : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو بكر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن مصعب ابن سعد ، عن سعد بن مالك ، قال : قلت يا رسول الله ، قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف . فقال : " إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه " . قال : فوضعته ثم رجعت ، فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي . قال : فإذا رجل يدعوني من ورائي . قال : قلت : قد أنزل الله فيّ شيئاً ? قال : " كنت سألتني السيف ، وليس هو لي ، وإنه قد وهب لي ، فهو لك " . قال : وأنزل الله هذه الآية : ( يسألونك عن الأنفال ، قل الأنفال لله والرسول ) . . [ ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به ، وقال الترمذي : حسن صحيح . ]
فهذه الروايات تصور لنا الجو الذي تنزلت فيه آيات الأنفال . . ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم ؛ وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء ، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم ، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا ؛ وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين ، وشاركوهم ديارهم وأموالهم ، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم : ( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها . لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة ؛ وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء ؛ وكان الناس - يومئذ - حريصين على هذه الشهادة من رسول الله [ ص ] ومن الله سبحانه وتعالى ، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين ! . . ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكّرهم الله سبحانه به ، وردهم إليه . . ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل ، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر ؛ حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : " فينا - أصحاب بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله [ ص ] . . " .
ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً . نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله [ ص ] حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها ، فلم يعد الأمر حقاً لهم يتنازعون عليه ؛ إنما أصبح فضلاً من الله عليهم ؛ يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه . . . وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل ، الذي بدأ بهذه الآيات ، واستطرد فيما تلاها كذلك .
( يسألونك عن الأنفال . قل : الأنفال لله والرسول . فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله ، إن كنتم مؤمنين ) . .
لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال ، هو الهتاف بتقوى الله . . وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب . . إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا ، والنزاع عليها - وإن كانهذا النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء - إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى . . إن قلباًلا يتعلق باللّه ، يخشى غضبه ويتلمس رضاه ، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض ، ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق !
إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة . . وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها :
( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) . .
وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة اللّه ورسوله :
وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال . فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق ، وارتدت ملكيتها ابتداء للّه والرسول ، فانتهى حق التصرف فيها إلى اللّه والرسول . فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم اللّه وقسم رسول اللّه ؛ طيبة قلوبهم ، راضية نفوسهم ؛ وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم ، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم . . ذلك :
فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية . يتجلى فيها ، ليثبت وجوده ، ويترجم عن حقيقته . وكما قال رسول اللّه - [ ص ] - : " ليس الإيمان بالتمني ، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " . ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول اللّه - [ ص ] - ولتعريف الإيمان وتحديده ؛ وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان ، أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع .
ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان " الحق " كما يريده رب هذا الدين ؛ ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى :
{ يسألونك عن الأنفال } أي الغنائم يعني حكمها ، وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الأمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه . { قل الأنفال لله والرسول } أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به . وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار . وقيل شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم -وكان المال قليلا- فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء ، ولهذا قيل : لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه . وقرئ " ويسألونك علنفال " بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ، ويسألونك الأنفال أي يسألك الشبان ما شرطت لهم . { فاتقوا الله } في الاختلاف والمشاجرة . { وأصلحوا ذات بينكم } الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول . { وأطيعوا الله ورسوله } فيه . { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك ، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ، والاتقاء عن المعاصي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
تفسير سورة الأنفال{[1]} على بركة الله
هي مدنية كلها كذا قال أكثر الناس ، وقال مقاتل هي مدنية غير آية واحدة وهي قوله تعالى ' { وإذ يمكر بك الذين كفروا } ' الآية كلها وهذه الآية نزلت في قصة وقعت بمكة ويمكن أن تنزل الآية في ذلك بالمدينة ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه{[2]} .
النْفل والنَفل والنافلة في كلام العرب : الزيادة على الواجب ، وسميت الغنيمة نفلاً لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل ، ومنه قول لبيد : [ الرمل ]
إنَّ تَقْوى ربِّنا خَيْرُ نَفَلْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5189]}
إنَّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا*** ونعفُّ عند مقاسم الأنفالِ{[5190]}
والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسؤول ، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه ، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم «الأنفال » فهو من الضرب الأول ، وقالت فرقة إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها ، واحتجوا في ذلك بقراءة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرف وعكرمة والضحاك وعطاء «يسألونك الأنفال » ، وقالوا في قراءة من قرأ عن أنها بمعنى «من » ، فهذا الضرب الثاني من السؤال واختلف الناس في المراد ب { الأنفال } في هذه الآية ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد هي الغنائم مجملة ، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الذي صنع له وحمته وآنسته ، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا ، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا .
وقال ابن عباس في كتاب الطبري : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرض الناس قبل ذلك فقال : من قتل قتيلاً أو أسر أسيراً فله كذا وله كذا ، فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات ، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها ، وقالت نحن أولى بالمغنم ، وساءت أخلاقهم في ذلك ، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا ، فقسمه حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السواء{[5191]} .
وأسند الطبري وغيره عن أبي أمامة الباهلي{[5192]} ، قال : سألت عبادة بن الصامت{[5193]} عن «الأنفال » فقال فينا أهل بدر نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه عليه السلام عن بواء{[5194]} .
قال القاضي أبو محمد : يريد عن سواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين ، مما جرى أيضاً يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه ، فقال : ليس هذا لي ولا لك ، فاطرحه في القبض فطرحته فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال فما جاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال ، فقال : اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي فهو لك .
قال القاضي أبو محمد : وفي بعض طرق هذا الحديث ، قال سعد : فقلت لما قال لي ضعه في القبض أني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي ، قال : فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلفي ، قال فقلت أخاف أن يكون نزلت فيّ شيء ، فقال : إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت { يسألونك عن الأنفال }{[5195]} وأسند الطبري أيضاً عن أبي أسيد مالك بن ربيعة{[5196]} قال : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان يسمى المرزبان ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به ، فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله ، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه{[5197]} .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة ، لا سيما من أبلى ، فأنزل الله عز وجل الآية ، فرضي المسلمون وسلموا ، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليه غنائمهم ، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد : كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب ، ثم نسخ بقوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء }{[5198]} وقال ابن زيد : لم يقع في الآية نسخ ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس ، وحكم القسمة نازل خلال ذلك ، ولا شك في أن الغنائم وغيرها ، والدنيا بأسرها هي لله وللرسول .
قال القاضي أبو محمد : وقال ابن عباس أيضاً { الأنفال } في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه ، وهذا أيضاً يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر . وقال علي بن صالح بن جني{[5199]} والحسن فيما حكى المهدوي : { الأنفال } في الآية ما تجيء به السرايا خاصة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة ، بل يجيء خارجاً عن يوم بدر ، وقال مجاهد : { الأنفال } في الآية : الخمس ، قال المهاجرون : لم يخرج منا هذا الخمس ، فقال الله تعالى هو لله وللرسول ، وهذا أيضاً قول قليل التناسب مع الآية ، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً : { الأنفال } في الآية : ما شذ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس العائر والعبد الآبق{[5200]} وهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء ، وقال ابن عباس أيضاً : { الأنفال } في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا ، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف ، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه ، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال : { الأنفال } : الأسارى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم ، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئاً من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء{[5201]} وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب{[5202]} من الاختلاف ، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الجمهور : النفل باق إلى يوم القيامة ، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب ، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة : إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة ، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده ، وقالت فرقة : إنما ينفل الإمام قبل القتال ، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا ، وقال الشافعي وابن حنبل : لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس ، وقال إبراهيم النخعي : ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس ، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم : الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي : لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس : وقال ابن المسيب : إنما ينفل الإمام من خمس الخمس ، وقال مالك رحمه الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا ، ولا أحب لأحد أن يسفك دماً على مثل هذا ، قال سحنون : فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة .
وقال مالك رحمه الله : لا يجوز أن يقول الإمام لسرية : ما أخذتم فلكم ثلثه ، قال سحنون : يريد ابتداء ، فإن نزل مضى ولهم انصباؤهم في الباقي ، وقال سحنون : إذا قال الإمام لسرية : ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه ، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى ، ويستحب على مذهب مالك إن نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف ، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهباً أو فضة أو لؤلؤاً أو نحو هذا ، وقال بعضهم : النفل جائز من كل شيء ، وأما السلب فقال مالك رحمه الله : الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره : وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر : السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر : السلب حق للقاتل بحكم النبي صيلى الله عليه وسلم ، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر : قاله الإمام أو لم يقله وقال مالك : إذ قال الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه فذلك لازم ، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد ، وقال الشافعي وابن حنبل : تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة ، وقال إسحاق بن راهويه : إن كان السلب يسيراً فهو للقاتل وإن كان كثيراً خمس ، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك{[5203]} حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفاً ، فخمس ذلك ، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود ، وقال مكحول : السلب مغنم وفيه الخمس ، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : يريد يخمس على القاتل وحده وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم : ويجزىء شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة ، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه .
قال القاصي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال الشافعي : لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلاً مشيحاً مبارزاً ، وأما من قتل منهزماً فلا ، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف : للقاتل السلب منهزماً كان القتيل أو غير منهزم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع{[5204]} في اتباعه ربيئة{[5205]} الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه{[5206]} ، وقال ابن حنبل : لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط ، واختلفوا في السلب ، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافاً أنه من السلب ، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه ، وقال أحمد بن حنبل في الفرس : ليس من السلب ، وكذلك إن كان في هميانه{[5207]} أو منطقته دناينر أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافاً أنه ليس من السلب واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب ، وقالت : فرقة : ليس من السلب ، وهذا مروي عن سحنون رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب ، قال ابن حبيب في الواضحة : والسواران من السلب ، وتردد الشافعي هل هذه كلها من السلب أم لا ؟
قال القاضي أبو محمد : وإذا قال الإمام : من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل ذمي قتيلاً فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ{[5208]} لأهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب ، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلاً فله سلبه .
قال القاضي أبو محمد : وأما الصفي{[5209]} فكان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل : { فاتقوا الله } معناها في الكلام ، اجعل بينك وبين المحذور وقاية ، وقوله { وأصلحوا ذات بينكم } تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح ، و { ذات } في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته ، والذي يفهم من { بينكم } هو معنى يعم جميع الوصل{[5210]} والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه ، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم ، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه ، وذلك في قوله : { عليم بذات الصدور }{[5211]} و { ذات الشوكة }{[5212]} فإنها هاهنا مؤنثة قولهم : الذئب مغبوط بذي بطنه{[5213]} ، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه ، وقد تقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا ، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة*** ذات العشاء ولا تسري أفاعيها{[5214]}
وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال : { ذات بينكم } الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء .
قال القاضي أبو محمد : ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض ، وقال الزجاج البين ها هنا الوصل ، ومثله قوله عز وجل : { لقد تقطع بينكم }{[5215]} .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا كله نظر ، وقوله { وأطيعوا الله ورسوله } لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم ، وقوله : { إن كنتم مؤمنين } أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم { وأطيعوا } هذا عند سيبويه ، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا ، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط{[5216]} .
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى الواحدي في أسباب النزول عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب القبض بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال » .
وأخرج البخاري ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج ، ولم يثبت في تسميتها حديث ، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال ، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي .
وتسمى أيضا سورة بدر ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال قال تلك سورة بدر .
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر : قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها ، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة ، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين ، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها ، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر .
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } إلى { مع الصابرين } نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة ، كما روي عن ابن عباس ، وسيأتي تحقيقه هنالك .
وقال جماعة من المفسرين إن آيات { يا أيها النبي حسبك الله } إلى { لا يفقهون } نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال ، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة .
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة ، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة ، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الانفال ، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة .
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها ، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل ، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة ، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال ، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة : من أحكام المعاملات الاجتماعية ، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران ، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال ، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } من هذه السورة قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله { وما كان الله ليعذبهم } بمكة إثر قولهم { أو ائتنا بعذاب أليم } ونزل قوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله { وما لهم أن لا يعذبهم الله } بعد بدر .
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس ، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب .
وعدد آيها ، في عد أهل المدينة . وأهل مكة وأهل البصرة : ست وسبعون ، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون ، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون .
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله ، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال ، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها .
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها .
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره .
والأمر بطاعة الله ورسوله ، في أمر الغنائم وغيرها .
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم ، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل .
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر . وتأييد من الله ولطفه بهم .
وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء .
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو ، والصبر .
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء .
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع .
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم .
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر .
وذكر مواقع الجيشين ، وصفات ما جرى من القتال .
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم ، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام .
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال .
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله .
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد ، ومتى يحسن السلم .
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة . وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية .
افتتاح السورة ب { يسألونك عن الأنفال } مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم { الأنفال } وكان ذلك يومَ بدر ، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك ، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال ، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهْماً في هذا الشأن ، وقد تكررت الحوادث يومئذ : ففي « صحيح مسلم » ، و« جامع الترمذي » عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر أصبت سيفاً لسعيد بن العاصي فأتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلْنيهِ ، فقال : ضعه ( في القَبَض ) ، ثم قلت : نفلنيه فقال ضعْه حيثُ أخذته ، ثم قلت : نفلنيه فقال : ضعه من حيث أخذته ، فنزلت { يسألونك عن الأنفال } » وفي « أسباب النزول » للواحدي ، و« سيرة ابن إسحاق » عن عبادة بن الصامت ، أنه سئل عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلتْ حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقُنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء ، وروى أبو داود ، عن ابن عباس ، قال : « لما كان يومُ بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ : لا تستأثرون علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو أنهزمتم لكنا ردءاً لكم ، واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } .
والسؤال حقيقته الطلب ، فإذا عدّي ب ( عن ) فهو طلب معرفة المجرور ب ( عن ) وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء ، فالمعنى ، هنا : يسألونك معرفة الأنفال ، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات ، والمراد حالها بحسب القرينة مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمناً في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها .
ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال ، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين ، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد .
ولذلك كان قوله { يسألونك } موذناً بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال ، وقد كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا ، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية .
و ( الأنفال ) جمع نفل بالتحريك والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء ، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لأن المقصود الأهممِ من الحرب هو إبادة الأعداء ، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة :
يخبرك من شَهد الوقيعة أنني *** أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأقوالهم في هذا كثيرة ، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائِم مشهور قال عنترة :
إنا إذا احمرا الوغى نُرْوي القنا *** ونعف عند مقاسم الأنفال
فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حَجر الأسدي وهو جاهلي :
نكصتم على أعقابكم ثم جئتمو *** تُرجون أنفال الخميس العرمرم
ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني ، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغِناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله ، وهذا صنف من المغانم .
فالمغانم ، إذن ، تنقسم إلى : ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم ، ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل ، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يُعرف قاتله ، فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقاً ، وأن تكون بمعنى ما يُزاد للمقاتل على حقه من المغنم ، فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالاً عن تنفيل بمعنى زيادة ، وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل ، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل ، فيبقى النفل في معنى الزيادة . ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعنى من الأنفال في هذه الآية ، وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال « الفرس من النفل والدرع من النفل » كما في « الموطأ » ، وروي عنه أنه قال : « والسلب من النفل » كما في « كتاب أبي عبيد » وغيره .
وقد أطلقوا النفل أيضاً على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يُعرف من غنمه ، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله ، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة [ الحشر : 6 ، 7 ] بقوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركابٍ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } إلى قوله { بين الأغنياء منكم } وذلك مثل أموال بني النضير التي سلّموها قبل القتال وفروا .
وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء : المغنم ، والفيء ، وهما نوعان ، والنفل . وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة ، فلما استقرّ أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر ، ولكن عُرفَ الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين ( أي لمعنيين مختلفين ) غنيمة وفيئاً يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم .
والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخُمس لمن يرى إعطاءه إياه ، ممن لم يغنم ذلك بقتال .
فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور : المراد بها ما كان زائداً على المغنم . فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين ، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل ، أو لخصلة عظيمة يأتي بها ، أو للتحريض على النكاية في العدو . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين : " من قتل قتيلاً فله سَلَبُه " وقد جعلها القرآن لله وللرسول ، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم قال مالك في « الموطأ » « ولم يبلغنا أن رسول الله قال : من قتل قتيلاً فله سَلَبه إلا يومَ حنين ، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده » ( يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين ) .
فالآية محكمة غير منسوخة بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما ، قال القرطبي : وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا .
وعن ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة وعطاء : أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنائِم مطلقاً . وجعلوا حكمها هنا أنها جُعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما يراه ، بلا تحديد ولا اطراد ، وأن ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس ، ثم نسخ ذلك بآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش ، فجعل لله وللرسول الخمس ، وجعل أربعة الأخماس حقاً للمجاهدين . يعني وبقي حكم الفيء المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ ، فلذلك قال مالك والجمهور : لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك : « إعطاء السَلَب من التنفيل » ، وقال مجاهد : الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى .
واللام في قوله { للَّه } على القول الأول في معنى الأنفال : لام الملك ، لأن النفل لا يحسب من الغنائِم ، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزله مال لا يعرف مستحقه ، فيقال هو ملك لله ولرسوله ، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده ، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في « الترمذي » إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك » .
وأما على القول الثاني ، الجامع لجميع المغانم ، فاللام للاختصاص ، أي : الأنفال تختص بالله والرسول ، أي حكمُها وصرفها ، فهي بمنزلة ( إلى ) .
تقول : هذا لك أي : إلى حكمك مردود ، وأن أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم خُمّست بآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية .
وعطف « وللرسول » على اسم الله لأن المقصود : الأنفالُ للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقاً للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين : أولاهما : أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفاً أو تفويضاً . والثانية : لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقاً لله كان التصرف فيه لخلفائه .
واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافاً ناشئاً عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية ، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الاطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب : النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم ، فإنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسول صلى الله عليه وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعاً بين هذه الآية وبين قوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحَنْ في نفوس الجيش ، وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير ، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنفيل بعض الجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه ، كما سيأتي في آية المغانم ، لذلك قال مالك : لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين من قوله : " من قتل قتيلاً فله سَلَبه " خصوصيه للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر ، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله ، قال مالك في « الموطأ » : ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما .
وإنما اختلفت الفقهاء : في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس ، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه ، وقال سعيد بن المسيب ، وأبو حنيفة والشافعي : النفل من خمس الخمس . والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سمّاه القرآن أم مختلط ، وسيجيء ذلك في آية المغانم . والحجة لمالك حديث ابن عمر في « الموطأ » أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً ونُفلوا بعيراً بعيراً فأعطي النفلُ جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس ، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية { واعلموا أنما غنمتم } [ الأنفال : 41 ] بآية { قل الأنفال لله والرسول } أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل ، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة ، والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية .
وتفريع { فاتقوا الله } على جملة { الأنفال لله والرسول } لأن في تلك الجملة رفعاً للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال ، أو في طلب التنفيل ، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله ، فقد وقع ذلك على كراهة كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها ، تبعاً لعوائِدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها ، وهذا كله من المقول .
وقدم الأمر بالتقوى ، لأنها جامع الطاعات .
وعُطف الأمر بإصلاح ذات البين ، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت : « اختلفْنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا » فأمرهم الله بالتصافح ، وختم بالأمر بالطاعة ، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت } [ النساء : 65 ] .
والإصلاح : جعل الشيء صالحاً ، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح ، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم ، وهو فساد التنازع والتظالم .
و { ذات } يجوز أن تكون مؤنث ( ذو ) الذي هو بمعنى صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو . ووقع في كلامهم مضافاً إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما ، يجرونه مُجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى : { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } في سورة [ الكهف : 18 ] ، على تأويل جهة ، وتقول : لقيته ذات ليلة ، ولقيته ذات صباح ، على تأويل المقدر ساعة أو وقت ، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال ، ويجوز أن تكون ( ذات ) أصلية الألف كما يقال : أنا أعرف ذات فلان ، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته ، كذا فسرها الزجاج والزمخشري ، فهو كقول ابن رواحة :
وذلك في ذاتِ الإله وإن يَشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
فتكون كلمةً مقحمةً لتحقيق الحقيقة ، جُعلت مُقدمة ، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم : جاءني بذاته ، ومنه يقولون : ذات اليمين وذات الشمال ، قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور } .
فالمعنى : أصلحوا بينكم ، ولذا ف ( ذات ) مفعول به على أن ( بَين ) في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية ، وجعل اسماً منتصرفاً ، كما قُرىء { لقد تقطع بينُكم } [ الأنعام : 94 ] برفع بينُكم في قراءة جماعة . فأضيفت إليه ( ذات ) فصار المعنى : أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحاً غير فاسد ، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل { أصلحوا } منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصداً للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد ، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير : وأوجدوا الصلاح بينكم ، كما قرأنا
{ لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم .
وأعلم أني لم أقف على استعمال ( ذاتَ بين ) في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن .
وجواب شرط { إنْ كنتم مؤمنين } دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله : { فاتقوا الله } إلى آخرها ، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعاً إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال ، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية : إنا أمرناكم بما ذكر إنْ كنتم مؤمنين ، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين ، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال ، لظهور أن ليس المراد : فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله ، ولا تصلحوا ذات بينكم ، ولا تطيعوا الله ورسوله ، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال .
وليس الإتيان في الشرط ب { بأنْ } تعريضاً بضُعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورُهم ، بناء على أن شأن ( إنْ ) عدمُ الجرم بوقوع الشرط بخلاف ( إذا ) على ما تقرر في المعاني ، ولكن اجتلاب ( إنْ ) في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي : التقوى الجامعة لخصال الدين ، وإصلاح ذات بينهم ، والرضى بما فعله الرسول ، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره ، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] كما سيأتي .