افتتحت هذه السورة بالثناء على الله خالق السماوات والأرض على غير مثال ، جاعل الملائكة رسلا إلى عباده ذوي أجنحة عديدة . ما يرسله الله للناس من فضل لا أحد يمنعه ، وما يمسكه لا أحد يرسله ، ويدعو الناس إلى ذكر النعمة ، إذ لا خالق معه يمدهم بالرزق ولا إله معه يصرفون إليه . وكذب القوم دعوتك فلك فيمن سبق من الرسل عبرة ، ولك فيما وعدنا من رجعة إلينا ما يسليك ، وواجب على الناس ألا تغرهم الدنيا بزخارفها ، ولا يغرهم الشيطان ، وأمره مقصور على دعوة متابعيه إلى التهلكة ، ومن تابعه قاده إلى النار ، ولا يستوي من زين له الشيطان سوء عمله ومن تركه ، وإذا كان شأن الناس ذلك فلا تأسف على عدم إيمانهم ، فمن أرسل السحاب وأحيا به الموات يحيي الأموات للحساب والجزاء ، ومن أراد المنعة اعتز بالله ومن اعتز بغيره أذله ، وأعمال العباد تصعد إليه فيقبل عمل المؤمنين ويحبط عمل الكافرين . ودليل قدرته على البعث والنشور : أنه خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم جعلهم أزواجا ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، خلق الماء العذب والملح ، ومن كل تحصل الأرزاق ، وأدخل الليل في النهار وأدخل النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر ، كل يجري إلى أجل مسمى ، هذا القادر هو الإله الحق والذين يدعون من دونه لا يملكون ، وإذا دعوا لا يسمعون ، وإذا سمعوا لا يستجيبون ، ويوم القيامة يكفرون بشرك من أشركوهم مع الله ، وهو عادل يحمل كل نفس عملها ، ويوجه الرسل أن يقصدوا بدعواتهم من يخشون الله ، ووظيفة الرسول إنذار قومه ، وما من أمة إلا خلا فيها نذير .
وتعود السورة إلى دلائل القدرة ، فالماء تخرج به الثمرات المختلفة ، والجبال طرائق بيض وحمر وسود ، والناس دواب مختلف ألوانهم ، كل ذلك يحمل على الخشية منه ، ومن يتلو كتاب الله الذي أورثه من اصطفاه يدخل الجنة يمتع بما فيها ، ومن كفر يدخل النار لا يقضي عليه فيها ولا يخفف عنه من عذابها ، يطلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح من عمله ، وقد أمهل وقتا يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير . وهو سبحانه جعلكم خلائف الأرض ، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا . وقد أقسم المعاندون : لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى ممن سبقوهم ، فلما جاءهم استكبروا ، فحاق بهم مكرهم ، وما قدروا الله حق قدره ، ولو يؤاخذ الله أهل الأرض بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ، ولكن يؤخرهم إلى أجل ، فإذا جاء فإن الله كان بعباده بصيرا .
1- الثناء الجميل حق لله - وحده - موجد السماوات والأرض على غير مثال سبق ، جاعل الملائكة رسلاً إلى خلقه ذوى أجنحة مختلفة العدد ، اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا يزيد في الخلق ما يشاء أن يزيد ، لا يعجزه شيء ، إن الله على كل شيء عظيم القدرة .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يمدح الله تعالى نفسه الكريمة المقدسة ، على خلقه السماوات والأرض ، وما اشتملتا عليه من المخلوقات ، لأن ذلك دليل على كمال قدرته ، وسعة ملكه ، وعموم رحمته ، وبديع حكمته ، وإحاطة علمه .
ولما ذكر الخلق ، ذكر بعده ما يتضمن الأمر ، وهو : أنه { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا } في تدبير أوامره القدرية ، ووسائط بينه وبين خلقه ، في تبليغ أوامره الدينية .
وفي ذكره أنه جعل الملائكة رسلا ، ولم يستثن منهم أحدا ، دليل على كمال طاعتهم لربهم وانقيادهم لأمره ، كما قال تعالى : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
ولما كانت الملائكة مدبرات بإذن اللّه ، ما جعلهم اللّه موكلين فيه ، ذكر قوتهم على ذلك وسرعة سيرهم ، بأن جعلهم { أُولِي أَجْنِحَةٍ } تطير بها ، فتسرع بتنفيذ ما أمرت به . { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي : منهم من له جناحان وثلاثة وأربعة ، بحسب ما اقتضته حكمته .
{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } أي : يزيد بعض مخلوقاته على بعض ، في صفة خلقها ، وفي القوة ، وفي الحسن ، وفي زيادة الأعضاء المعهودة ، وفي حسن الأصوات ، ولذة النغمات .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته تعالى تأتي على ما يشاؤه ، ولا يستعصي عليها شيء ، ومن ذلك ، زيادة مخلوقاته بعضها على بعض .
1- سورة فاطر هي السورة الخامسة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الفرقان –كما ذكر صاحب الإتقان( {[1]} ) .
وهي من السور المكية الخالصة ، وتسمى أيضا –بسورة " الملائكة " .
قال القرطبي : هي مكية في قول الجميع ، وهي خمس وأربعون آية( {[2]} ) .
2- سورة فاطر هي آخر السور التي افتتحت بقوله –تعالى- : [ الحمد لله ] وقد سبقها في هذا الافتتاح سور : الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ .
قال –سبحانه- في افتتاح سورة فاطر : [ الحمد لله فاطر السموات والأرض ، جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ] .
3- ثم تحدث –سبحانه- بعد ذلك عن مظاهر نعمه على عباده ورحمته بهم ، فقال : [ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم . . . ] .
4- ثم توجه السورة الكريمة نداءين إلى الناس ، تأمرهم في أولهما بشكر الله –تعالى- على نعمه ، وتنهاهم في ثانيهما عن الاغترار بزينة الحياة الدنيا وعن اتباع خطوات الشيطان . .
قال –سبحانه- : [ يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم ، هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض . . ] . وقال –جل شأنه- : [ يأيها الناس إن وعد الله حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور ] .
5- وبعد أن تسلي السورة الكريمة الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه ، تأخذ في بيان مظاهر قدرة الله –تعالى- في خلقه ، فتذكر قدرته –سبحانه- في إرسال الرياح والسحب ، وفي خلقه للإنسان من تراب ، وفي إيجاده للبحرين : أحدهما عذب فرات سائغ شرابه ، والثاني : ملح أجاج ، وفي إدخاله الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وفي تسخيره الشمس والقمر . .
قال –تعالى- : [ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ، ومن كل تأكلون لحما طريا ، وتستخرجون حلية تلبسونها ، وترى الفلك فيه مواخر ، لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، ذلكم الله ربكم له الملك ، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ] .
6- ثم وجه –سبحانه- نداء ثالثا إلى الناس ، بين لهم فيه : افتقارهم إليه –تعالى- وحاجتهم إلى عونه وعطائه ، وتحمل كل إنسان لمسئولياته ولنتائج أعماله . .
كما بين لهم –سبحانه- أن الفرق بين الهدى والضلال ، كالفرق بين الإبصار والعمى ، وبين النور والظلمات ، وبين الحياة والموت ، وبين الظل والحرور .
قال –تعالى- : [ وما يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات ، إن الله يسمع من يشاء ، وما أنت بمسمع من في القبور ] .
7- ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- ورحمته بعباده ، وعن الثواب العظيم الذي أعده –سبحانه- لمن يتلون كتابه ولمن يحافظون على فرائضه – وعن عقابه الأليم للكافرين الجاحدين لنعمه . .
قال –تعالى- : [ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها ، وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ، إنما يخشى الله من عباده العلماء ، إن الله عزيز غفور . إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، يرجون تجارة لن تبور ] .
ثم قال –سبحانه- : [ والذين كفروا لهم نار جهنم ، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ] .
8- ثم انتقلت السورة الكريمة في أواخرها إلى الحديث عن جهالات المشركين ، حيث عبدوا من دون الله –تعالى- مالا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، وعن مكرهم السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله ، وعن نقضهم لعهودهم حيث [ أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا . . . ] .
ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ببيان سعة رحمته بالناس فقال : [ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ، ما ترك على ظهرها من دابة ، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ، فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ] .
9- وهكذا نرى سورة فاطر قد طوفت بالنفس الإنسانية في أرجاء هذا الكون ، وأقامت الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته . عن طريق نعم الله –تعالى- المبثوثة في الأرض وفي السماء ، وفي الليل وفي النهار ، وفي الشمس وفي القمر : وفي الرياح وفي السحب ، وفي البر وفي البحر . . وفي غير ذلك من النعم التي سخرها –سبحانه- لعباده .
كما نراها قد حددت وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وساقت له ما يسليه ويزيده ثباتا على ثباته ، وما يرشد كل عاقل إلى حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار .
افتتحت سورة " فاطر " كما سبق أن ذركنا عند تفسيرنا لسورة " سبأ " بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل ، هو الله رب العالمين .
و " أل " فى الحمد للاستغراق . بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ، ولكافة ألوان الثناء هو الله - تعالى - .
وقوله : { فَاطِرِ السماوات والأرض } أى خالقهما وموجدهما على غير مثال يحتذى ، إذ لامراد بالفطر هنا : والاختراع للشئ الذى لم يوجد ما يشبهه من قبل .
قال القرطبى : والفاطر : الخالق ، والفَطْر - بفتح الفاء - : الشق عن الشئ . يقال فطرته فانفطر . ومنه : فطر ناب البعير ، أى : وتفطر الشئ ، أى : تشقق . .
والفطر : الابتداء والاختراع . قال ابن عباس : كنت لا أدرى ما { فَاطِرِ السماوات والأرض } حتى أتى أعرابيان يختصمان فى بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتهما ، أى : أنا ابتدأتها . .
والمراد بذكر السماوات والأرض : العالم كله . ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء ، قادر على الإِعادة .
والمعنى : الحمد المطلق والثناء التام الكامل لله - تعالى - وحده ، فهو - سبحانه الخالق للسموات والأرض ، ولهذا الكون بأسره ، دون أن يسبقه إلى ذلك سابق ، أو يشاركه فيما خلق وأوجد مشارك .
وقوله - تعالى - : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - تعالى - التى لا يعجزها شئ .
والملائكة : جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملاك . وهم جند من خلق الله - تعالى - وقد وصفهم - سبحانه - بصفات متعددة ، منها : أنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } قال الجمل : وقوله : جاعل الملائكة ، أى : بعضهم . إذ ليس كلهم رسلا كما هو معلوم . وقوله : { أولي أَجْنِحَةٍ } نعت لقوله { رُسُلاً } ، وهو جيد لفظا لتوافقهما تنكيرا . أو هو نعت للملائكة ، وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة ، فهى صفة كاشفة . .
وقوله : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أسماء معدول بها عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وهى ممنوعة من الصرف ، للوصفية والعدل عن المكرر وهى صفة لأجنحة .
أى : الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض بقدرته ، والذى جعل الملائكة رسلا إلى أنبيائه . وإلى من يشاء من عباده ، ليبلغوهم ما يأمرهم - سبحانه - بتبليغه إليهم . .
وهؤلاء الملائكة المكرمون ، ذوو أجنحة عديدة ، ذوو أجنحة عديدة . منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له أكثر من ذلك ، لأن المراد بهذا الوصف ، بيان كثرة الأجنحة لا حصرها .
قال الآلوسى ما ملخصه قوله : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً . . . } معناه : جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالته بالوحى والإِلهام والرؤيا الصادقة ، أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه ، كالأمطار والرياح وغيرهما .
وقوله : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معناه : أن من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا دلالة فى الآية على نفى الزائد ، وما ذكر من عد للدلالة على التكثير والتفاوت ، لا للتعيين ولا لنفى النصان عن اثنين . .
فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود فى قوله - تعالى - { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } أن الرسول صلى الله عليه سولم رأى جبريل وله ستمائة جناح . .
وقوله - تعالى - : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، من كمال قدرته ، ونفاذ إرادته .
أى يزيد - سبحانه - فى خلق كل ما يزيد خلقه ما يشاء أن يزيده من الأمور التى لا يحيط بها الوصف ، ومن ذلك أجنحة الملائكة فيزيد فيها ما يشاء ، وكذلك ينقص فى الخلق ما يشاء ، والكل جاء على مقتضى الحكمة والتدبير .
قال صاحب الكشاف : قوله { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ } أى : يزيد فى خلق الأجنحة ، وفى غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته .
والآية مطلقة تتناول كل زيادة فى الخلق : من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام الأعضاء ، وقوة فى البطش ، وحصافة فى العقل ، وجزالة فى الرأى ، وجرأة فى القلب ، وسماحة فى النفس ، وذلاقة فى اللسان ، ولباقة فى التكلم ، وحسن تأن فى مزاولة الأمور ، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف . .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقولهك { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى : إن الله - تعالى - لا يعجزه شيئ يريده ، لأنه قدير على فعل كل شئ ، فالجملة الكريمة تعليل لما قبلها من كونه - سبحانه - يزيد فى الخلق ما يشاء ، وينقص منه ما يشاء .
سميت { سورة فاطر } في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير . وسميت في صحيح البخاري وفي سنن الترمذي وفي كثير من المصاحف والتفاسير { سورة الملائكة } لا غير . وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب الإتقان .
فوجه تسميتها { سورة فاطر } أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى . ووجه تسميته { سورة الملائكة } أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى .
وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين : آية { أن الذين يتلون كتاب الله } الآية ، وآية { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } الآية ، ولم أر هذا لغيره .
وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سورة القرآن . نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم .
وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستا وأربعين ، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين .
اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية .
وعلى إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله . وإثبات البعث والدار الآخرة .
وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه .
وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم .
وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم .
والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين .
وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا .
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم ، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده .
افتتاحها ب { الحمد لله } مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها ، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة مِن خلقِهِ السماوات والأرض وأفضللِ ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإِثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذان { الحمد لله } باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة .
والفاطر : فاعل الفَطْر ، وهو الخلق ، وفيه معنى التكون سريعاً لأنه مشتق من الفطر وهو الشق ، ومنه { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } [ الشورى : 5 ] { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] . وعن ابن عباس « كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض ( أي لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتُها . وأحسب أن وصف الله ب { فاطر السماوات والأرض } مما سبق به القرآن ، وقد تقدم عند قوله تعالى { فاطر السماوات والأرض } في سورة الأنعام ( 14 ) ، وقوله : { وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض } في آخر سورة يوسف ( 101 ) فضُمَّه إلى ما هنا .
وأما { جاعل } فيطلق بمعنى مكوِّن ، وبمعنى مُصَيِّر ، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله : { رسلاً } بين أن يكون مفعولاً ثانياً ل { جاعل } أي جعل الله من الملائكة ، أي ليكونوا رسلاً منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية ، وبين أن يكون حالاً من { الملائكة } ، أي يجعل من أحوالهم أن يُرسَلوا . ولصلاحية المعنيين أُوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول { فاطر } .
وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم .
وأجري عليهم صفة أنهم رُسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة ، أي جاعلهم رسلاً منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس .
وقوله { أولي أجنحة } يجوز أن يكون حالاً من { الملائكة } ، فتكون الأجنحة ذاتيةً لهم من مقومات خلقتهم ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { رسلاً } فيكون خاصة بحالة مَرسوليتهم .
و { أجنحة } جمع جَناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإِنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعوداً ونزولاً لا يعلم كنهها إلا الله تعالى .
و { مثنى } وأخواتُه كلمات دالّة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مَثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثُلاث ورُباع . والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة ، وقيل : يجوز إلى العشرة . والمعنى : اثنين اثنين الخ . وتقدم قوله : { أن تقوموا لله مثنى وفرادى } في سورة سبأ ( 46 ) .
والمعنى : أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف ، وبعضها ثلاثةً ثلاثة ، وبعضها أربعةً أربعةً ، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح » .
ويجوز أن تكون أعداد الأجنحة متغيرة لكل ملك في أوقات متغيرة على حسب المسافات التي يؤمرون باختراقها من السماوات والأرضين . والأظهر أن الأجنحة للملائكة من أحوال التشكل الذي يتشكلون به . وفي رواية الزهري أن جبريل قال للنبيء صلى الله عليه وسلم « لو رأيت إسرافيل إنّ له لاَثنَيْ عشرَ ألفَ جناح وإن العرش لعلى كاهله » .
واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب « المقاصد » « إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة ، شأنهم الخير والطاعة ، والعلم ، والقدرة على الأعمال الشاقة ، ومسكنُهم السماوات ، وقال : هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة » . اهـ . ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات .
وعندي : أن تعريف صاحب « المقاصد » لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليطٍ في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات .
والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال : أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة ، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة ، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم ، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض .
وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورانيتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم . دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [ الأنفال : 12 ] ، وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية الكلبي ، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة في صورة « رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفَر ، ولا يَعرفه منا أحد ( أي من أهل المدينة ) حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه » الحديث ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقهم الرجل " هل تدرون من السائل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " كما في « الصحيحين » عن عمر بن الخطاب .
وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي ، وظهورهُ للنبيء صلى الله عليه وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها في غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر ، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ناساً لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم .
وجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما ذكر من صفات الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة ، فأجيب بهذا الاستئناف بأن مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا تُوقَّت .
ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه . فالمراد بالخلق : المخلوقات كُلّها ، أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خَلققٍ آخر . فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض ، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام . ويجوز أن تكون جملة { يزيد في الخلق ما يشاء } صفة ثانية للملائكة ، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل : مثنى وثلاث ورباع وأكثر ، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى { يزيد في الخلق ما يشاء } . وعليه فالمراد بالخلق ما خُلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على من لبعض آخر .
وجملة { إن الله على كل شيء قدير } تعليل لجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } ، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } [ إبراهيم : 10 ] ، فأجيبوا بقول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على ما يشاء من عباده } [ إبراهيم : 11 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة فاطر، سورة الملائكة، مكية.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة فاطر مكية في قول الجميع...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
هي ختام السور المفتتحة باسم الحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة وهي: الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها، وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء،الدال عليه بإنهاء القدرة وأحكمها، المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلاً شافياً، على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محله...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
... وتسمى هذه السورة سورة (فاطر) لذكر هذا الاسم الجليل والنعت الجميل في طليعتها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها، أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد، فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها؛ إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزاً، وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود، وروعة هذا الكون، وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه، المتناثرة في صفحاته وليتذكر آلاء الله، ويشعر برحمته ورعايته، وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة، وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله، وآثار يده في أطواء الكون، وفي أغوار النفس، وفي حياة البشر، وفي أحداث التاريخ، وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة.
ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك، ويتأثر تأثر الأحياء. والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات، يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات فهي كلها موضوع واحد، كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري، تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث، فتأخذ على النفس أقطارها، وتهتف بالقلب من كل مطلع، إلى الإيمان والخشوع والإذعان. والسمة البارزة الملحوظة في هذه الإيقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة، وإظهار هذه اليد تحرك الخيوط كلها وتجمعها، وتقبضها وتبسطها، وتشدها وترخيها، بلا معقب ولا شريك ولا ظهير.
ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة، وتطرد إلى ختامها.. هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير).. وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض، وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض. بلا معقب ولا شريك: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم)...
ومن تلك الآيات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة، والسمة الغالبة عليها، والظل الذي تلقيه في النفس على وجه العموم. ونظراً لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها. وإلا فهي شوط واحد متصل الإيقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت {سورة فاطر} في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير. وسميت في صحيح البخاري وفي سنن الترمذي وفي كثير من المصاحف والتفاسير {سورة الملائكة} لا غير. وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب الإتقان.
فوجه تسميتها {سورة فاطر} أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى. ووجه تسميته {سورة الملائكة} أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى...
اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية.
وعلى إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله. وإثبات البعث والدار الآخرة.
وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه.
وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم.
وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم.
والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين.
وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا.
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده.
والتحذير من غرور الشيطان والتذكير بعداوته لنوع الإنسان.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
... تكررت في السورة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما يلقاه من تكذيب قومه مما يدل على أنها نزلت في ظروف كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها حزينا شديد الحسرة.
والسورة شطران أحدهما: عام التوجيه. وثانيهما: موجه للكفار السامعين. وآيات كل من الشطرين منسجمة، كما أنه ليس بينهما انفصال وتغاير بحيث يسوغ القول: إن فصول السورة نزلت متلاحقة حتى تمت...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكونها مكيّة النّزول، فانّ محتواها العام يعكس الملامح العامّة للسور المكية، كالحديث في المبدأ والمعاد والتوحيد، ودعوة الأنبياء، وذكر نعم الله عزّ وجلّ ومصير المجرمين يوم الجزاء.
ويمكن تلخيص آيات هذه السورة في خمسة أقسام:
قسم مهم من آيات هذه السورة يتحدّث حول آثار عظمة الله في عالم الوجود، وأدلّة التوحيد.
قسم آخر من آياتها يبحث في ربوبية الله وتدبيره لجميع أمور العالم، بالأخصّ أمور الإنسان، وعن خالقيته ورازقيته، وخلق الإنسان من التراب ومراحل تكامل الإنسان.
قسم آخر يتحدّث حول المعاد ونتائج الأعمال في الآخرة، ورحمة الله الواسعة في الدنيا، وسنّته الثابتة في المستكبرين.
قسم من الآيات يشير إلى مسألة قيادة الأنبياء وجهادهم الشديد والمتواصل ضدّ الأعداء المعاندين. ومواساة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الخصوص.
القسم الأخير منها يتعرّض للمواعظ والنصائح الإلهية فيما يخصّ المواضيع المذكورة أعلاه، ويعتبر مكمّلا لها.
بعض المفسّرين لخّص جميع هذه السورة في موضوع واحد وهو: هيمنة وقهّارية الله في جميع الأمور 11.
هذا الاعتبار وإن كان منسجماً مع القسم الأعظم من آيات السورة، إلاّ أنّه لا يمكن إنكار وجود موضوعات مختلفة أخرى فيها.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الحمد لله} الشكر لله {فاطر} يعني خالق {السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا} منهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، والكرام الكاتبين، عليهم السلام.
الملائكة {أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع}: من الملائكة من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة...
{يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء} من خلق الأجنحة من الزيادة {قدير} يعني يزيد في خلق الأجنحة على أربعة أجنحة ما يشاء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الشكر الكامل للمعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره خالق السموات السبع والأرض، "جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً "إلى من يشاء من عباده، وفيما شاء من أمره ونهيه.
"أُولي أجْنِحَةٍ مّثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ" يقول: أصحاب أجنحة: يعني ملائكة، فمنهم من له اثنان من الأجنحة، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة... وقوله: "يَزِيدُ فِي الخَلْقِ ما يَشاءُ" وذلك زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا الملك من الأجنحة على الآخر ما يشاء، ونقصانه عن الآخر ما أحبّ، وكذلك ذلك في جميع خلقه، يزيد ما يشاء في خلق ما شاء منه، وينقص ما شاء من خلق ما شاء، له الخلق والأمر، وله القدرة والسلطان.
"إنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يقول: إن الله تعالى ذكره قدير على زيادة ما شاء من ذلك فيما شاء، ونقصان ما شاء منه ممن شاء، وغير ذلك من الأشياء كلها، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده سبحانه وتعالى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الحمد لله فاطر السماوات والأرض} ما ذُكر في القرآن {الحمد لله} إلا وذُكر على إثره التعظيم لله والإجلال له، وذُكر ما أنعم به على الخَلْق ليُلزمهم الشكر له والثناء عليه نحو ما ذكر: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض}.
جميع ما ذُكر في القرآن من الحمد له ذُكر على إثره ما يوجب التعظيم له والتبجيل والثناء عليه والشكر له؛ تعليما منه الخلق الثناء على ذلك والشكر له، وبالله المعونة والقوة على ذلك.
{فاطر السماوات والأرض} قال بعضهم: الفاطر هو المبتدئ أو البادئ، هو قول القتبيّ من أهل الأدب، وكذلك ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: ما أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى جاء أعرابيان فاختصما في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أنا بدأتها، فعند ذلك عرفت، أو كلام نحوه.
ويجيء أن يكون الفاطر هو الشاقّ، أي شق السماوات كلها من واحدة وكذلك الأرضين كقوله: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] أي انشقت كما قال: {إن الله فالق الحبّ والنوى} [الأنعام: 95] أي الشاق، لكن جميع ما أضيف إلى الله من الشق والفطر والجعل وغيره من نحو قوله: {جاعل الملائكة رُسُلا} كله على اختلاف الألفاظ عبارة عن الخلق، أي هو خالق ذلك كله. وأصل الخلق في اللغة هو التقدير.
{جاعل الملائكة رسلا} ففي ظاهر الآية جميع الملائكة رسلا؛ فإن كان على ذلك فكأنه ولّى كل واحد منهم أمرا من أمور الخلق والعباد، وإن كان على البعض فيكون تأويله: جاعل من الملائكة رسلا، أو في الملائكة رسلا.
أما ما ذكر من عدد الأجنحة للملائكة، فذلك لا يمنعهم عن الطيران، بل تزيد لهم قوة ومقدرة على ذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تَعَرَّف إلى العباد بأفعاله، ونَدَبَهم إلى الاعتبار بها، فمنها ما نعلم منه ذلك معاينةً كالسماوات والأرض وغيرها، ومنها ما سبيلُ الإيمانِ به الخبرُ والنقلُ -لا بدليل العقل- والملائكةُ مِنْ ذلك؛ فلا نتحقق كيفيّة صُوَرِهم وأجنحتهم، وكيف يطيرون بأجنحتهم الثلاثة أو الأربعة، ولكن على الجملة نعلم كمال قدرته، وصِدْقَ كلمته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَاطِرَ السماوات} المعنى: أن الملائكة خلقاً أجنحتهم اثنان اثنان، أي: لكل واحد منهم جناحان، وخلقاً أجنحتهم ثلاثة ثلاثة. وخلقاً أجنحتهم أربعة أربعة.
{يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَاء} أي: يزيد في خلق الأجنحة، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته، والأصل الجناحان: لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه،... والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق: من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء؛ وقوة في البطش؛ وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجراءة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم، وحسن تأنّ في مزاولة الأمور؛ وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الألف واللام في {الحمد} لاستغراق الجنس على أتم عموم، لأن {الحمد} بالإطلاق على الأفعال الشريفة والكمال هو لله تعالى، والشكر مستغرق فيه لأنه فصل من فصوله.
{رسلاً} معناه بالوحي وغير ذلك من أوامره.
{يزيد في الخلق ما يشاء} تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عن الخبر بالملائكة أولي الأجنحة، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه ما يشاء.
الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر، ونعم الله قسمان: عاجلة وآجلة، والعاجلة وجود وبقاء، والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء أخرى؛ وههنا الحمد إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة، ويدل عليه قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلا} أي يجعلهم رسلا يتلقون عباد الله، كما قال تعالى: {وتتلقاهم الملائكة}، وعلى هذا فقوله تعالى {فاطر السموات} يحتمل وجهين:... الثاني: {فاطر السموات والأرض} أي شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض ويدل عليه قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلا} فإن في ذلك اليوم تكون الملائكة رسلا، وعلى هذا فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى، لأن قوله كما فعل بأشياعهم بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب وتيقنه بأن لا قبول لتوبته ولا فائدة لقوله آمنت،كما قال تعالى عنهم: {وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش} فلما ذكر حالهم، بين حال الموقن وبشره بإرساله الملائكة إليهم مبشرين، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة.
{يزيد في الخلق ما يشاء}... كل وصف محمود، والأولى أن يعمم.
{إن الله على كل شيء قدير} يقرر قوله: {يزيد في الخلق ما يشاء}.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
المراد بذكر السموات والأرض العالم كله، ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على الإعادة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{يزيد في الخلق ما يشاء} استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم.
{إن الله على كل شيء قدير} وتخصيص بعض، الأشياء بالتحصيل دون بعض، إنما هو من جهة الإرادة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قيل: وإنما جعلهم أولي أجنحة، لأنه لما جعلهم رسلاً، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء. فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً.
ولما كانت الملائكة إفراداً وجمعاً مثل الخافقين في أن كلاًّ منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة، وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم، فقال مبيناً بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار: {جاعل الملائكة رسلاً} أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين.
{أولي أجنحة} أي تهيؤهم لما يراد منهم؛ ثم وصف الأجنحة فقال: (مثنى) أي جناحين جناحين لكل واحد لمن لا يحتاج فيما صرف فيه إلى أكثر من ذلك، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين.
ولما كان ذلك زوجاً نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال: {وثلاث} أي ثلاثة ثلاثة لآخرين منهم، ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه، نبه بذكر زوج الزوج على أن الزيادة لا تنحصر فقال: {ورباع} أي أربعة أربعة لكل واحد من صنف آخر منهم.
ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل، كانت نتيجة ذلك: {يزيد في الخلق} أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وغيرهم ومعاني لا تدخل تحت حصر من الذوات والألوان والمقادير...وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره سبحانه، فبطل قول من قال: إنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة، كاليهود وغيرهم.
{ما يشاء} فلا بدع في أن يوجد داراً أخرى تكون لدينونة العباد، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث: {إن الله} أي الجامع لجميع أوصاف الكمال.
{على كل شيء قدير} فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض}... قال الراغب: هو إيجاده تعالى الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال.
وأصل الفطر الشق، وقال الراغب: الشق طولاً ثم تجوز فيه عما تقدم وشاع فيه حتى صار حقيقة أيضاً، ووجه المناسبة أن السماوات والأرض والمراد بهما العالم بأسره لكونهما ممكنين والأصل في الممكن العدم كما يشير إليه قوله تعالى: {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]
وقيل في ذلك: كأنه تعالى شق العدم بإخراجهما منه، وقيل: لا مانع من حمله على أصله هنا ويكون إشارة إلى الأمطار والنبات فكأنه قيل: الحمد لله فاطر السموات بالأمطار وفاطر الأرض بالنبات وفيه نظر...
{فَاطِرَ} صفة لله وإضافته محضة قال أبو البقاء: لأنه للماضي لا غير، وقال غيره: هو معرف بالإضافة إذ لم يجر على الفعل بل أريد به الاستمرار والثبات كما يقال زيد مالك العبيد جاء أي زيد الذي من شأنه أن يملك العبيد جاء، ومن جعل الإضافة غير محضةـ، جعله بدلاً، وهو قليل في المشتقات، وكذا الكلام في (جَاعِلِ. وَرُسُلاً) على القول بأن إضافته غير محضة منصوب به بالاتفاق، وأما على القول الآخر فكذلك عند الكسائي، وذهب أبو علي إلى أنه منصوب بمضمر يدل هو عليه، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عنده كسائر البصريين إلا معرفاً باللام...
وعلل بعضهم ذلك بأنه بالإضافة أشبه المعرف باللام فعمل عمله هذا على تقدير كون الجعل تصييرياً، أما على تقدير كونه إبداعياً فرسلاً حال مقدرة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يمدح الله تعالى نفسه الكريمة المقدسة، على خلقه السماوات والأرض، وما اشتملتا عليه من المخلوقات... ولما ذكر الخلق، ذكر بعده ما يتضمن الأمر، وهو: أنه {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} في تدبير أوامره القدرية، ووسائط بينه وبين خلقه، في تبليغ أوامره الدينية.
وفي ذكره أنه جعل الملائكة رسلا، ولم يستثن منهم أحدا، دليل على كمال طاعتهم لربهم وانقيادهم لأمره، كما قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تبدأ السورة بتقديم الحمد لله. فهي سورة قوامها توجيه القلب إلى الله، وإيقاظه لرؤية آلائه، واستشعار رحمته وفضله، وتملي بدائع صنعه في خلقه، وامتلاء الحس بهذه البدائع، وفيضه بالتسبيح والحمد والابتهال: (الحمد لله).
ويتلو حمد الله ذكر صفته الدالة على الخلق والإبداع: (فاطر السماوات والأرض). فهو منشئ هذه الخلائق الهائلة التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا حيث كنا، والتي لا نعرف إلا القليل عن أصغرها وأقربها إلينا.. أمنا الأرض.. والتي ينتظمها ناموس واحد يحفظها في تناسق وتوافق، على ما بينها من أبعاد هائلة لا يتصورها خيالنا البشري إلا بمشقة عظيمة.
وإننا لنمر على مثل هذه الإشارة في القرآن الكريم إلى خلق السماوات والأرض، دون أن نقف أمامها طويلاً لنتدبر مدلولها الهائل؛ كما نمر على مشاهد السماوات والأرض ذاتها بمثل هذه البلادة، لا نقف أمامها إلا قليلاً...
والحديث في هذه السورة يتردد حول الرسل والوحي وما أنزل الله من الحق.. والملائكة هم رسل الله بالوحي إلى من يختاره من عباده في الأرض، وهذه الرسالة هي أعظم شيء وأجله، ومن ثم يذكر الله الملائكة بصفتهم رسلاً عقب ذكره لخلق السماوات والأرض، وهم صلة ما بين السماء والأرض. وهم يقومون بين فاطر السماوات والأرض، وأنبيائه ورسله إلى الخلق بأعظم وظيفة وأجلها... ولأول مرة -فيما مر بنا من القرآن في هذه الظلال- نجد وصفاً للملائكة يختص بهيئتهم، وهو وصف لا يمثلهم للتصور، لأننا لا نعرف كيف هم ولا كيف أجنحتهم هذه، ولا نملك إلا الوقوف عند هذا الوصف، دون تصور معين له، فكل تصور قد يخطئ.
(يزيد في الخلق ما يشاء).. يقرر طلاقة المشيئة، وعدم تقيدها بشكل من أشكال الخلق.
(إن الله على كل شيء قدير).. هذا التعقيب أوسع من سابقه وأشمل. فلا تبقى وراءه صورة لا يتناولها مدلوله، من صور الخلق والإنشاء والتغيير والتبديل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاحها ب {الحمد لله}... وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة مِن خلقِهِ السماوات والأرض وأفضل ما فيها من الملائكة والمرسلين، مؤذن بأن السورة جاءت لإِثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم. وأجري عليهم صفة أنهم رُسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة، أي جاعلهم رسلاً منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس، واعلم أن ماهية الملائكة عندي أن يقال: أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض.
{إن الله على كل شيء قدير} تعليل لجملة {يزيد في الخلق ما يشاء}، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا: {إن أنتم إلا بشر مثلنا} [إبراهيم: 10]، فأجيبوا بقول الرسل {إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على ما يشاء من عباده} [إبراهيم: 11].
تعرَّضنا للسور التي بُدئت بالحمد لله، وهي: [الفاتحة] والأنعام، والكهف، وسبأ. وهنا في فاطر، والحمد في كل منها له معنى وله مناسبة؛ لأن الإنسان احتاج إلى إيجاد من عدم، ثم وسائل إبقاء في الحياة الدنيا، ثم احتاج إلى إيجاد بعد البعث، وأيضاً وسائل إبقاء في الآخرة.
فسورة الكهف تعرضت لحمد الله على المنهج
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ..} [الكهف: 1]؛ لأن المنهج هو وسيلة الاستبقاء للإنسان، فلولا أن المنهج يُبيِّن للناس الحق والباطل لتفاني الخَلْق، وما استقامتْ لهم الحياة، أما سورة سبأ فتعرضت لحمد الله على نعمه في الدنيا وفي الآخرة.
وهنا في فاطر: {الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً}؛ فذكرتْ الحمد على وسائل الإبقاء كلها، المادي منها المتمثل في مُقوِّمات الحياة المادية، والمعنوي منها المتمثل في منهج الله.
والحمد على إطلاقه لله تعالى، حتى إنْ توجه للبشر، فمردُّه إلى الله، لأنك حين تحمد البشر تحمده على شيء قدَّمه لك، هذا الشيء ليس مِنْ مِلْكه في الحقيقة، ولا من ذاته، إنما هو من فيض الله عليه، فهو مناول عن الله، وإنْ قدّم لك عملاً فإنما يقدِّمه بالطاقة التي خلقها الله فيه، وبالجوارح التي انفعلتْ بخَلْق الله فيه، إذن: فالحمد بكل صيغة راجع إلى الله تعالى.
ثم يأتي بحيثية من حيثيات حَمْد الله، فيقول: {فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ} ومعنى فاطر السماوات والأرض: خلقها ومُبدعها على غير مثال سابق يُحتذى به، وهذه مسألة تستحق الحمد؛ لأن الله تعالى كرَّم الإنسان الخليفة في الأرض، فسَوَّدهُ على سائر الأجناس وكرَّمه بالعقل الذي يختار بين البدائل.
وبعد ذلك بيَّن سبحانه إنْ كان خَلْق الإنسان مُعْجزاً، وإن كان هو السيد المخدوم من جميع الأجناس، فإنَّ خَلْق السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس وأعظم؛ لذلك لما تكلم سبحانه عن حمد الله ذكر أكبر المخلوقات وأعظمها، وهي السماوات والأرض.
والسماء هي كل ما علاك، لذلك تُطلق على السحاب، فهو السماء التي ينزل منها المطر...
وقوله سبحانه {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً}... هؤلاء الملائكة جعلهم الله {رُسُلاً} إما إلى الرسل من البشر يحملون إليهم منهج الله، وإما رسلاً منه سبحانه لمهامهم التي تتعلق بهذا الكائن الإنساني. ثم وصفهم فقال: {أُوْلِيۤ} أصحاب {أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] وهذا الوصف دلَّ على صلة الملائكة بالجو والسماء، ومهمة الصعود والهبوط، وهذه الأجنحة ليس لها نظام ثابت، بل منهم مَنْ له مثنى، ومَنْ له ثلاث، ومَنْ له رُبَاع، بل ويزيد الله في ذلك ما يشاء {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ}.
وكأن الخالق سبحانه يقول لنا: إنْ كنتم لم تروْا إلا جناحين للطائر، فلا تتعجبوا ولا تنكروا أنْ يكون للملَك أكثر من ذلك؛ لأنه خَلْق الله الذي يزيد في الخَلْق ما يشاء، والذي له سبحانه طلاقة القدرة، فخَلْق الله ليس عملية ميكانيكية أو قوالب تُصَبُّ على شكل واحد، وخَلْق الله ليس مخبزاً آلياً يُخرِج لك الأرغفة متساوية.
وتتجلى طلاقة القدرة في الخلق منذ خَلْق الإنسان الأول آدم عليه السلام، فإنْ كانت مسألة التناسل تقوم على وجود ذكر وأنثى، ومن هذه جاءت جمهرة الناس، فطلاقة القدرة تخرق هذه القاعدة في كل مراحل القسمة العقلية لها، فالله خلق آدم عليه السلام من لا أب ولا أم، وخلق حواء من أب بلا أم، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب.
فما دام أن الذي يزيد في الخَلْق هو الله، فلا تتعجب ولا تُكذِّب حين تسمع الحديث النبوي، قال صلى الله عليه وسلم:"رأيتُ جبريل وله ستمائة جناح" صَدِّق؛ لأنك لستَ مسئولاً عن الكيفية، إنما عليك أنْ تُوثق الكلام: صدر من الله أو لم يصدر، صَحَّ عن رسول الله أو لم يصح، كُنْ كالصِّدِّيق لمَّا حدثوه عن الإسراء والمعراج وقالوا: إن صاحبك يقول كذا وكذا، فقال الصِّديق: "إنْ كان قال فقد صدق".
لذلك، فالذين يبحثون في عِلَل الأحكام عليهم أنْ يَدَعُوا البحث فيها، ويكفي أنْ يُوثِّقوا مصدرها، فإنْ كانت من الله فعلي أن أفعل لمجرد أن الله أمرني بذلك، فَعِلَّة الحكم أن الله أمر به، فهمتُ حكمته أو لم أفهم...
فقوله سبحانه {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} [فاطر: 1] دليل على طلاقة القدرة التي لا يعجزها شيء...
ثم تختم الآية بما يُطمئِن القلوب إلى هذه الطلاقة {إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هذه هي العلة، يعني: لا تتعجب، فهي قدرة الله التي لا يُعجزها شيء، وشيء هذه تعد جنس الأجناس؛ لأنها تشمل من الذرَّة إلى المجرَّة، وهو سبحانه يقول للشيء كُنْ فيكون، فكأنه موجود في علم الغيب ينتظر الأمر بأن يظهر.