143- ولهذه المشيئة هديناكم إلى الطريق الأقوم ، وجعلناكم أمة عدولاً خياراً بما وفقناكم إليه من الدين الصحيح والعمل الصالح لتكونوا مقرري الحق بالنسبة للشرائع السابقة ، وليكون الرسول مهيمناً عليكم ، يسددكم بإرشاده في حياته ، وبنهجه وسنته بعد وفاته . وأما عن قبلة بيت المقدس التي شرعناها لك حيناً من الدهر ، فإنما جعلناها امتحاناً للمسلمين ليتميز من يذعن فيقبلها عن طواعية ، ومن يغلب عليه هوى تعصبه العربي لتراث إبراهيم فيعصى أمر الله ويضل عن سواء السبيل . ولقد كان الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله بهدايته ، وكان امتثال هذا الأمر من أركان الإيمان ، فمن استقبل بيت المقدس عند الأمر باستقباله - إيماناً منه وطاعة - فلن يضيع عليه ثواب إيمانه وطاعته .
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي : عدلا خيارا ، وما عدا الوسط ، فأطراف داخلة تحت الخطر ، فجعل الله هذه الأمة ، وسطا في كل أمور الدين ، وسطا في الأنبياء ، بين من غلا فيهم ، كالنصارى ، وبين من جفاهم ، كاليهود ، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك ، ووسطا في الشريعة ، لا تشديدات اليهود وآصارهم ، ولا تهاون النصارى .
وفي باب الطهارة والمطاعم ، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ، ولا يطهرهم الماء من النجاسات ، وقد حرمت عليهم الطيبات ، عقوبة لهم ، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا ، ولا يحرمون شيئا ، بل أباحوا ما دب ودرج .
بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها ، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ، وحرم عليهم الخبائث من ذلك ، فلهذه الأمة من الدين أكمله ، ومن الأخلاق أجلها ، ومن الأعمال أفضلها .
ووهبهم الله من العلم والحلم ، والعدل والإحسان ، ما لم يهبه لأمة سواهم ، فلذلك كانوا { أُمَّةً وَسَطًا } [ كاملين ] ليكونوا { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط ، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان ، ولا يحكم عليهم غيرهم ، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول ، فهو مقبول ، وما شهدت له بالرد ، فهو مردود . فإن قيل : كيف يقبل حكمهم على غيرهم ، والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض ؟ قيل : إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين ، لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة ، وحصلت العدالة التامة ، كما في هذه الأمة ، فإنما المقصود ، الحكم بالعدل والحق ، وشرط ذلك ، العلم والعدل ، وهما موجودان في هذه الأمة ، فقبل قولها .
فإن شك شاك في فضلها ، وطلب مزكيا لها ، فهو أكمل الخلق ، نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فلهذا قال تعالى : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم ، أنه إذا كان يوم القيامة ، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم ، والأمم المكذبة عن ذلك ، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم ، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة ، وزكاها نبيها .
وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة ، حجة قاطعة ، وأنهم معصومون عن الخطأ ، لإطلاق قوله : { وَسَطًا } فلو قدر اتفاقهم على الخطأ ، لم يكونوا وسطا ، إلا في بعض الأمور ، ولقوله : { ولتكونوا شهداء على الناس } يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه ، فإنها معصومة في ذلك . وفيها اشتراط العدالة في الحكم ، والشهادة ، والفتيا ، ونحو ذلك .
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } وهي استقبال بيت المقدس أولا { إِلَّا لِنَعْلَمَ } أي : علما يتعلق به الثواب والعقاب ، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها .
ولكن هذا العلم ، لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا ، لتمام عدله ، وإقامة الحجة على عباده ، بل إذا وجدت أعمالهم ، ترتب عليها الثواب والعقاب ، أي : شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن { مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } ويؤمن به ، فيتبعه على كل حال ، لأنه عبد مأمور مدبر ، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة ، أنه يستقبل الكعبة ، فالمنصف الذي مقصوده الحق ، مما يزيده ذلك إيمانا ، وطاعة للرسول .
وأما من انقلب على عقبيه ، وأعرض عن الحق ، واتبع هواه ، فإنه يزداد كفرا إلى كفره ، وحيرة إلى حيرته ، ويدلي بالحجة الباطلة ، المبنية على شبهة لا حقيقة لها .
{ وَإِنْ كَانَتْ } أي : صرفك عنها { لَكَبِيرَةٌ } أي : شاقة { إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم ، وشكروا ، وأقروا له بالإحسان ، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم ، الذي فضله على سائر بقاع الأرض ، وجعل قصده ، ركنا من أركان الإسلام ، وهادما للذنوب والآثام ، فلهذا خف عليهم ذلك ، وشق على من سواهم .
ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : ما ينبغي له ولا يليق به تعالى ، بل هي من الممتنعات عليه ، فأخبر أنه ممتنع عليه ، ومستحيل ، أن يضيع إيمانكم ، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان ، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم ، فلا يضيعه ، وحفظه نوعان :
حفظ عن الضياع والبطلان ، بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة ، والأهواء الصادة ، وحفظ له بتنميته لهم ، وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ، ويتم به إيقانهم ، فكما ابتدأكم ، بأن هداكم للإيمان ، فسيحفظه لكم ، ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره ، وثوابه ، وحفظه من كل مكدر ، بل إذا وجدت المحن المقصود منها ، تبيين المؤمن الصادق من الكاذب ، فإنها تمحص المؤمنين ، وتظهر صدقهم ، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم ، فدفع هذا الوهم بقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } بتقديره لهذه المحنة أو غيرها .
ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة ، فإن الله لا يضيع إيمانهم ، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها ، وطاعة الله ، امتثال أمره في كل وقت ، بحسب ذلك ، وفي هذه الآية ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : شديد الرحمة بهم عظيمها ، فمن رأفته ورحمته بهم ، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها ، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه ، وأن امتحنهم امتحانا ، زاد به إيمانهم ، وارتفعت به درجتهم ، وأن وجههم إلى أشرف البيوت ، وأجلها .
- ثم وصف الله - تعالى - الأمة الإسلامية ، بأنها أمة خيرة عادلة مزكاة بالعلم والعمل فقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
والمعنى : ومثل ما جعلنا قبلتكم - أيها المسلمون - وسطاً لأنها البيت الحرام الذي هو المثابة للناس ، والأمن لهم ، جعلناكم - أيضاً - { أُمَّةً وَسَطاً } أي : خياراً عدولا بين الأمم ليتحقق التناسب بينكم وبين القبلة التي تتوجهون إليها في صلواتكم ، تشهدون على الأمم السابقة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ، ونصحوهم بما ينفعهم ، ولكي يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم بأنكم صدقتموه وآمنتم به .
أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب ، فيقال له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته هل بلغكم . فيقولون : ما أتانا من نذير ، فيقال له : من يشهد لك . فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ، فذلك قوله - جل ذكره - { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
ثم بين الله - تعالى - الحكمة في تحويل القبلة إلى الكعبة فقال تعالى :
{ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } .
أي وما شرعنا التوجه إلى القبلة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس ، إلا لنعامل الناس معاملة الممتحن المختبر ، فنعلم من يتبع الرسول ويأتمر بأوامره في كل حال ممن لم يدخل الدين في قرارة نفسه ، وإنما دخل فيه على حرف ، بحيث يترد عنه لأقل شبهة ، وأدنى ملابسة كما حصل ذلك من ضعاف الإِيمان عند تحويل القبلة إلى الكعبة والله - تعالى - عالم بكل شيء ، ولكنه شاء أن يكون معلومه الغيبي مشاهداً في العيان ، إذ تعلق الشيء واقعاً في العيان ، هو الذي تقوم عليه الحجة ، ويترتب عليه الثواب والعقاب .
ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قال لنعلم ولم يزل عالماً بذلك ؟ قلت ؛ معناه لنلعمه علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلا ، ونحوه { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } وقيل ليعلم رسول الله والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته ، لأنهنم خواصه وأهل الزلفى عنده ، وقيل معناه . ليميز التابع من الناكص كما قال - تعالى - : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } فوضع العلم موضع التمييز ؛ لأن العلم يقع التميز به " .
ثم بين الله - تعالى - آثار تحويل القبلة في نفوس المؤمنين وغيرهم فقال تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } .
أي : إنما شرعنا لك - يا محمد - القبلة أولا إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكمية ليظهر حال من يتبعك ويطيعك في كل حالة ممن لا يطيعك ، وإن كانت هذه الفعلة - وهي تحويلنا لك من بيت المقدس إلى الكعبة - لكبيرة وشاقة ، إلا على الذين خلق الله الهداية في قلوبهم فتلقوا أوامرنا بالخضوع والإِذعان ، وقالوا سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا .
وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ . . . } .
بشارة عظيمة للمؤمنين ، وجواب لما جاشت به الصدور ، وتكذيب لما ادعاه اليهود من أن عبادة المؤمنين في الفترة التي سبقت تحويل القبلة إلى الكعبة ضائعة وباطلة .
فقد أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا ، فلم ندر ما تقول فيهم ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
وقال ابن عباس : كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ماتوا على القبلة الأولى ، منهم : أسعد بن زرارة ، وأبو أمامة . . . وأناس آخرون فجاءت عشائرهم فقالوا : يا رسول الله : مات إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى وقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم ، فكيف بإخواننا ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
وروى أن حيي بن أخطب وجماعة من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى لقد تحولتم عنه ، وإن كانت على ضلالة فقد عبدتم الله بها مدة ، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة فقال المسلمون إنما الهدى فيما أمر الله - تعالى - والضلالة فيما نهى الله عنه فقالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا ؟ - وكان قد مات من المسلمين جماعة قبل تحويل القبلة - فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
والمعنى - وما كان الله - تعالى - ليذهب صلاتكم وأعمالكم الصالحة التي قمتم بها خلال توجهكم إلى بيت المقدس ، لأنه - سبحانه - بعباده رءوف رحيم ولا يضيع أجر من أحسن عملا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ }
يعني جل ثناؤه بقوله : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام ، وبما جاءكم به من عند الله ، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملّته ، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطا . وقد بينا أن الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهم .
وأما الوسط فإنه في كلام العرب : الخيار ، يقال منه : فلان وسط الحسب في قومه : أي متوسط الحسب ، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه ، وهو وسط في قومه وواسط ، كما يقال شاة يابسة اللبن ، ويَبَسة اللبن ، وكما قال جل ثناؤه : فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا في البَحْرِ يَبسا . وقال زهير بن أبي سلمى في الوسط :
هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأنامُ يحُكمِهِمْ إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللّيالي بِمُعْظَمِ
قال : وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين ، مثل «وسط الدار » ، محرّك الوسط مثقّله ، غير جائز في سينه التخفيف . وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين ، فلا هم أهل غلوّ فيه غلوّ النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها .
وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل ، وذلك معنى الخيار لأن الخيار من الناس عدولهم . ذكر من قال : الوسط العدل .
حدثنا سالم بن جنادة ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : «عُدُولاً » .
حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا جعفر بن عون ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : «عُدُولاً .
حدثني عليّ بن عيسى ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن حفص بن غياث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : عُدُولاً » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : عُدُولاً .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : عُدُولاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : أُمّةً وَسَطا قال : عُدولاً .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : أُمّةً وَسَطا قال : عُدولاً .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : أُمّةً وَسَطا قال : عدولاً .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا يقول : جعلكم أمة عدولاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن راشد بن سعد ، قال : أخبرنا ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : «الوَسَطُ : العَدْلُ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير : أُمّةً وَسَطا قالوا : عدولاً ، قال مجاهد : عدولاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال : هم وسط بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين الأمم .
هالقول في تأويل قوله تعالى : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاس ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا .
والشهداء جمع شهيد . فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولاً ( لتكونوا ) شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها ، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا عليكم بإيمانكم به ، وبما جاءكم به من عندي . كما :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُدْعَىَ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السّلاَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلّغْتَ ما أُرْسِلْتَ بِهِ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيُقَالُ لِقَوْمِهِ : هَلْ بَلّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ ، فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ يَعْلَمُ ذَاكَ ؟ فَيَقُولُ مُحَمّدٌ وأُمّتُهُ فهو قوله : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ ويَكُونُ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا » .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، إلا أنه زاد فيه : «فَيُدْعَوْنَ وَيَشْهَدُونَ أنّهُ قَدْ بَلّغَ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ بأن الرسل قد بلغوا ، ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا : بما عملتم أو فعلتم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن المغيرة بن عيينة بن النهاس ، أن مكاتبا لهم حدثهم عن جابر بن عبد الله ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّي وأُمّتِي لَعَلَىَ كَوْمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُشْرِفِينَ عَلَىَ الْخَلاَئِقِ مَا أحَدٌ مِنَ الأُمَم إلاّ وَدّ أنّهُ مِنْهَا أيّتُها الأُمّةُ ، وَمَا مِنْ نَبِيَ كَذّبَهُ قَوْمُهُ إلاّ نَحْنُ شُهَدَاؤُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنّهُ قَدْ بَلّغَ رِسَالاتِ رَبّه وَنَصَحَ لَهُمْ » قال : «ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا » .
حدثني عصام بن ورّاد بن الجراح العسقلاني ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن الفضل ، عن أبي هريرة ، قال : خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فلمّا صلّى على الميت قال الناس : نعم الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَجَبَتْ » . ثم خرجت معه في جنازة أخرى ، فلما صلوا على الميت قال الناس : بئس الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَجَبَتْ » . فقام إليه أبيّ بن كعب فقال : يا رسول الله ما قولك وجبت ؟ قال : «قول الله عَزّ وجَلّ : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ » .
حدثني عليّ بن سهل الرملي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثني أبو عمرو عن يحيى ، قال : حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني ، قال : حدثني أبو هريرة ، قال : أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة ، فقال الناس : نعم الرجل ، ثم ذكر نحو حديث عصام عن أبيه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : حدثنا عكرمة بن عمار ، قال : حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه ، قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فمرّ عليه بجنازة فأثنى عليها بثناء حسن ، فقال : «وَجَبَتْ » ، ومرّ عليه بجنازة أخرى ، فأثنى عليها دون ذلك ، فقال : «وَجَبَتْ » ، قالوا : يا رسول الله ما وجبت ؟ قال : «المَلاَئِكَةُ شُهَدَاءُ اللّهِ في السّماءِ وأنْتُمْ شُهَداءُ اللّهِ في الأرْضِ فَمَا شَهِدْتُمْ عَلَيْهِ وَجَبَ » . ثم قرأ : وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَىَ اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ . . . الآية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النّاس تكونوا شهداء لمحمد عليه الصلاة والسلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، قال : يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بإذنه ليس معه أحد فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني ابن أبي نجيح ، عن أبيه قال : يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فذكر مثله ، ولم يذكر عبيد بن عمير مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ أي أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها ، وَيَكُونُ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا على أنه قد بلغ رسالات ربه إلى أمته .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أن قوم نوح يقولون يوم القيامة : لم يبلغنا نوح . فيدعى نوح عليه السلام فيسأل : هل بلغتهم ؟ فيقول : نعم ، فيقال : من شهودك ؟ فيقول : أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته . فتدعون فتسألون ، فتقولون : نعم قد بلغهم . فتقول قوم نوح عليه السلام : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا ؟ قالوا : قد جاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم ، وأنزل عليه أنه قد بلغكم ، فصدقناه . قال : فيصدق نوح عليه السلام ويكذّبونهم . قال : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ لتكون هذه الأمة شهداء على الناس أن الرسل قد بلغتهم ، ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدا ، أن قد بلغ ما أرسل به .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أن الأمم يقولون يوم القيامة : والله لقد كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلهم لما يرون الله أعطاهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك عن راشد بن سعد ، قال : أخبرني ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذَا جَمَعَ اللّهُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَانَ أوّلَ مَنْ يُدْعَىَ إسْرَافِيلُ ، فَيَقُولُ لَهُ رَبّهُ : مَا فَعَلْتَ فِي عَهْدِي ، هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغْتُهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السّلاَمُ ، فَيُدْعَىَ جِبْرِيلُ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلّغْتَ إسْرَافِيلَ عَهْدِي ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغَنِي . فَيُخَلّى عَنْ إسْرَافِيلَ ، ويُقَالُ لِجِبْرِيلَ : هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ قَدْ بَلّغْتُ الرّسُلَ . فَتُدْعَىَ الرّسُلُ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلّغَكُمْ جِبْرِيلُ عَهْدِي ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ رَبّنا . فَيُخَلّى عَنْ جِبْرِيلُ ، ثُمّ يُقَالُ للرّسُلِ : ما فَعَلْتُمْ بِعَهْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : بَلّغْنا أُمَمَنا . فَتُدْعَىَ الأُمَمُ فَيُقَالُ : هَلْ بَلّغَكُمْ الرّسُلُ عَهْدِي ؟ فَمِنْهُمْ المُكَذّبُ وَمِنْهُمْ المُصَدّقُ ، فَتَقُولُ الرّسُلُ : إنّ لَنَا عَلَيْهِمْ شُهُودا يَشْهَدُونَ أنْ قَدْ بَلغْنا مَعَ شَهَادَتِكَ . فَيَقُولُ : مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أُمّةُ مُحَمّدٍ . فَتُدْعَىَ أُمّةُ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَيَقُولُ : أتَشْهَدُونَ أنّ رُسُلِي هَؤُلاَءِ قَدْ بَلّغُوا عَهْدِي إلى مَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ رَبّنا شَهِدْنَا أنْ قَدْ بَلّغُوا . فَتَقُولُ تِلْكَ الأُمَم : كَيْفَ يَشْهَدُ عَلَيْنَا مَنْ لَمْ يُدْرِكْنا ؟ فَيَقُولُ لَهُمُ الرّبّ تَبَارَكَ وتَعَالَىَ : كَيْفَ تَشْهَدُونَ عَلَىَ مَنْ لَمْ تُدْرِكُوا ؟ فَيَقُولُونَ : رَبّنَا بَعَثْتَ إلَيْنَا رَسُولاً ، وأنْزَلْتَ إلَيْنَا عَهْدَكَ وكِتابَكَ ، وقَصَصْتَ عَلَيْنَا أنّهُمْ قَدْ بَلّغُوا ، فَشَهِدْنا بِمَا عَهِدْتَ إلَيْنَا . فَيَقُولُ الرّبّ : صَدَقُوا . فَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا » . والوسط : العدل . «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا » .
قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من كان في قلبه حقد على أخيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ يعني بذلك الذين استقاموا على الهدى ، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة ، لتكذيبهم رسل الله ، وكفرهم بآيات الله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ يقول : لتكونوا شهداء على الأمم الذين خلوا من قبلكم بما جاءتهم رسلهم ، وبما كذّبوهم ، فقالوا يوم القيامة وعجبوا : إن أمة لم يكونوا في زماننا ، فآمنوا بما جاءت به رسلنا ، وكذّبنا نحن بما جاءوا به . فعجبوا كلّ العجب .
قوله : ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا يعني بإيمانهم به ، وبما أنزل عليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ يعني أنهم شهدوا على القرون بما سمى الله عزّ وجلّ لهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما قوله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ ؟ قال : أمة محمد شهدوا على من ترك الحقّ حين جاءه الإيمان والهدى ممن كان قبلنا . قالها عبد الله بن كثير . قال : وقال عطاء : شهداء على من ترك الحقّ ممن تركه من الناس أجمعين ، جاء ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم : وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا على أنهم قد آمنوا بالحقّ حين جاءهم وصدّقوا به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد على أمته ، وهم شهداء على الأمم ، وهم أحد الأشهاد الذي قال الله عز وجلّ : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ ) الأربعة الملائكة الذين يحصون أعمالنا لنا وعلينا . وقرأ قوله : وَجَاءَتْ كُلّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ . وقال : هذا يوم القيامة . قال : والنبيون شهداء على أممهم . قال : وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على الأمم ، ( قال : والأطوار : الأجساد والجلود ) .
القول في تأويل قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ .
يعني جل ثناؤه بقوله : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ولم نجعل صَرْفَك عن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفناك عنها إلا لنعلم من يتبعك ممن لا يتبعك ممن ينقلب على عقبيه . والقبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها التي عناها الله بقوله : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا هي القبلة التي كنت تتوجه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَمَا جَعَلْنا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا يعني بيت المقدس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ؟ قال : القبلة : بيت المقدس .
وإنما ترك ذكر الصرف عنها اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نظائره .
وإنما قلنا ذلك معناه لأن محنة الله أصحاب رسوله في القبلة إنما كانت فيما تظاهرت به الأخبار عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة ، حتى ارتدّ فيما ذكر رجال ممن كان قد أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم ، وقالوا : ما بال محمد يحوّلنا مرّة إلى هَهنا ، ومرّة إلى هَهنا ؟ وقال المسلمون فيما مضى من إخوانهم المسلمين ، وهم يصلون نحو بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت . وقال المشركون : تحير محمد صلى الله عليه وسلم في دينه . فكان ذلك فتنة للناس وتمحيصا للمؤمنين ، فلذلك قال جل ثناؤه : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ أي : وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها ، وتحويلك إلى غيرها ، كما قال جل ثناؤه : وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ بمعنى : وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التي أريناك . وذلك أنه لو لم يكن أخبر القوم بما كان أري لم يكن فيه على أحد فتنة ، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس لو لم يكن صرف عنها إلى الكعبة لم يكن فيها على أحد فتنة ولا محنة .
ذكر الأخبار التي رويت في ذلك بمعنى ما قلنا :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام ، فقال في ذلك قائلون من الناس : ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده قال الله عزّ وجلّ : قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فقال أناس لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله عز وجل : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ ، وقد يبتلي الله العباد بما شاء من أمره الأمر بعد الأمر ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . وكل ذلك مقبول إذا كان في إيمان بالله ، وإخلاص له ، وتسليم لقضائه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس ، فنسختها الكعبة . فلما وُجّه قبل المسجد الحرام ، اختلف الناس فيها ، فكانوا أصنافا فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها ؟ وقال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ، هل تقبل الله منا ومنهم أو لا ؟ وقالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر . وقال المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه ، ويوشك أن يدخل في دينكم . فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين : سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا إلى قوله : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ وأنزل في الاَخرين الاَيات بعدها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ ؟ فقال عطاء : يبتليهم ليعلم من يسلم لأمره . قال ابن جريج : بلغني أن ناسا ممن أسلم رجعوا فقالوا : مرّة هَهنا ومرّة هَهنا .
فإن قال لنا قائل : أوَما كان الله عالما بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا بعد اتباع المتبع ، وانقلاب المنقلب على عقبيه ، حتى قال : ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه ؟ قيل : إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قبل كونها ، وليس قوله : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ يخبر أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجوده .
فإن قال : فما معنى ذلك ؟ قيل له : أما معناه عندنا فإنه : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . فقال جل ثناؤه : إلاّ لِنَعْلَمَ ومعناه : ليعلم رسولي وأوليائي ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه من حزبه ، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس إلى الرئيس ، وما فعل بهم إليه نحو قولهم : فتح عمر بن الخطاب سواد العراق ، وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه عن سبب كان منه في ذلك .
وكالذي رُوي في نظيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يَقُولُ اللّهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ : مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي ، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد عن محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمَن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قالَ اللّهُ : اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضنِي ، وشَتَمَنِي وَلَمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي ، يَقُولُ : وَادَهْرَاهُ وأنا الدّهْرُ أنا الدّهْرُ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمَن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره إذ كان ذلك عن سببه .
وقد حُكي عن العرب سماعا : أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير ظهري ، بمعنى جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم ، فكذلك قوله : إلاّ لِنَعْلَمَ بمعنى يعلم أوليائي وحزبي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ قال ابن عباس : لنميز أهل اليقين من أهل الشرك والريبة .
وقال بعضهم : إنما قيل ذلك من أجل أن العرب تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كما قال جل ذكره : ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحابِ الفِيلِ . فزعم أن معنى : ألَمْ تَرَ : ألم تعلم ، وزعم أن معنى قوله : إلاّ لِنَعْلَمَ بمعنى : إلا لنرى من يتبع الرسول . وزعم أن قول القائل : رأيت وعلمت وشهدت حروف تتعاقب فيوضع بعضها موضع بعض ، كما قال جرير بن عطية :
كأنّك لمْ تَشْهَدْ لَقِيطا وَحاجِبا وعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعا يالَ دارِمِ
بمعنى : كأنك لم تعلم لقيطا لأن بين هلك لقيط وحاجب وزمان جرير ما لا يخفى بعده من المدّة . وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية ، وجرير كان بعد برهة مضت من مجيء الإسلام . وهذا تأويل بعيد ، من أجل أن الرؤية وإن استعملت في موضع العلم من أجل أنه مستحيل أن يرى أحد شيئا ، فلا توجب رؤيته إياه علما بأنه قد رآه إذا كان صحيح الفطرة ، فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية أن يضاف إليه إثباته إياه علما ، وصحّ أن يدلّ بذكر الرؤية على معنى العلم من أجل ذلك . فليس ذلك وإن كان في الرؤية لما وصفنا بجائز في العلم ، فيدلّ بذكر الخبر عن العلم على الرؤية لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها ، ويستحيل أن يرى شيئا إلا علمه ، كما قد قدمنا البيان ، مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال : علمت كذا بمعنى رأيته ، وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكلام إلى ما كان موجودا مثله في كلام العرب دون ما لم يكن موجودا في كلامها ، فموجود في كلامها «رأيت » بمعنى «علمت » ، وغير موجود في كلامها «علمت » بمعنى «رأيت » ، فيجوز توجيه إلاّ لِنَعلمَ إلى معنى : إلا لنرى .
وقال آخرون : إنما قيل : إلاّ لِنَعْلَمَ من أجل أن المنافقين واليهود وأهل الكفر بالله أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يعلم الشيء قبل كونه ، وقالوا إذ قيل لهم : إن قوما من أهل القبلة سيرتدّون على أعقابهم ، إذا حوّلت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة : ذلك غير كائن ، أو قالوا : ذلك باطل . فلما فعل الله ذلك ، وحوّل القبلة ، وكفر من أجل ذلك من كفر ، قال الله جل ثناؤه : ما فعلت إلا لنعلم ما عندكم أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه ، أني عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد .
فكأن معنى قائل هذا القول في تأويل قوله : إلا لِنَعْلَمَ إلا لنبين لكم أنا نعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وهذا وإن كان وجها له مخرج ، فبعيد من المفهوم .
وقال آخرون : إنما قيل : إلاّ لِنَعْلَمَ وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال ، على وجه الترفّق بعباده ، واستمالتهم إلى طاعته ، كما قال جل ثناؤه : ( . . . قُل اللّهُ . وإنّا أو إيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وقد علم أنه على هدى وأنهم على ضلال مبين ، ولكنه رفق بهم في الخطاب ، فلم يقل : أنا على هدى ، وأنتم على ضلال . فكذلك قوله : إلاّ لِنَعْلَمَ معناه عندهم : إلا لتعلموا أنتم إذ كنتم جهالاً به قبل أن يكون فأضاف العلم إلى نفسه رفقا بخطابهم . وقد بينا القول الذي هو أولى في ذلك بالحقّ .
وأما قوله : مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ فإنه يعني : الذي يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به ، فيوجه نحو الوجه الذي يتوجه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فإنه يعني : من الذي يرتدّ عن دينه ، فينافق ، أو يكفر ، أو يخالف محمدا صلى الله عليه وسلم في ذلك ممن يظهر اتباعه . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ قال : من إذا دخلته شبهة رجع عن الله ، وانقلب كافرا على عقبيه .
وأصل المرتدّ على عقبيه : هو المنقلب على عقبيه الراجع مستدبرا في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفا عنه ، فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير ، ومن ذلك قوله : فارْتَدّا على آثارِهِما قَصصا بمعنى رجعا في الطريق الذي كانا سلكاه .
وإنما قيل للمرتدّ مرتدّ ، لرجوعه عن دينه وملّته التي كان عليها . وإنما قيل رجع على عقبيه لرجوعه دبرا على عقبه إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل رجعه عنه ، فيجعل ذلك مثلاً لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره إذا انصرف عما كان فيه إلى الذي كان له تاركا فأخذه ، فقيل ارتدّ فلان على عقبه ، وانقلب على عقبيه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ .
اختلف أهل التأويل في التي وصفها الله جلّ وعزّ بأنها كانت كبيرة إلا على الذين هدى الله .
فقال بعضهم : عنى جل ثناؤه بالكبيرة : التولية من بيت المقدس شطر المسجد الحرام والتحويل ، وإنما أنّث الكبيرة لتأنيث التولية . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قال الله : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ يعني تحويلها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال : ما أمروا به من التحوّل إلى الكعبة من بيت المقدس .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال : كبيرة حين حوّلت القبلة إلى المسجد الحرام ، فكانت كبيرة إلا على الذين هدى الله .
وقال آخرون : بل الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل . ذكر من قال ذلك .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً أي قبلة بيت المقدس ، إلاّ على الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ .
وقال بعضهم : بل الكبيرة : هي الصلاة التي كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى . ذكر من قال ذلك .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال : صلاتكم حتى يهديكم الله عزّ وجل القبلة .
وقد حدثني به يونس مرّة أخرى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً قال : صلاتك هَهنا يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وانحرافك هَهنا .
وقال بعض نحويي البصرة : أنثت الكبيرة لتأنيث القبلة ، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله : وَإنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً . وقال بعض نحويي الكوفة : بل أنثت الكبيرة لتأنيث التولية والتحويلة .
فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة : وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنت عليها وتوليتناك عنها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وإن كانت تحويلتنا إياك عنها وتوليتناك لكبيرة إلا على الذين هدى الله .
وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب ، لأن القوم إنما كبر عليهم تحويل النبيّ صلى الله عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى لا عين القبلة ولا الصلاة ، لأن القبلة الأولى والصلاة قد كانت وهي غير كبيرة عليهم إلا أن يوجه موجّه تأنيث الكبيرة إلى القبلة ، ويقول : اجتزىء بذكر القبلة من ذكر التولية والتحويلة لدلالة الكلام على معنى ذلك ، كما قد وصفنا لك في نظائره ، فيكون ذلك وجها صحيحا ومذهبا مفهوما . ومعنى قوله : كَبِيرَةً عظيمة . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ قال : كبيرة في صدور الناس فيما يدخل الشيطان به ابن آدم ، قال : ما لهم صلوا إلى هَهنا ستة عشر شهرا ثم انحرفوا فكبرُ ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين ، فقالوا : أيّ شيء هذا الدين ؟ وأما الذين آمنوا فثبت الله جل ثناؤه ذلك في قلوبهم . وقرأ قول الله : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال صلاتكم حتى يهديكم إلى القبلة .
قال أبو جعفر : وأما قوله : إلاّ عَلَىَ الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ فإنه يعني به : وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنت عليها لعظيمة إلا على من وفّقه الله جل ثناؤه فهداه لتصديقك ، والإيمان بك وبذلك ، واتباعك فيه وفيما أنزل الله تعالى ذكره عليك . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ يقول : إلا على الخاشعين ، يعني المصدّقين بما أنزل الله تبارك وتعالى .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُم قيل : عنى بالإيمان في هذا الموضع الصلاة . ذكر الأخبار التي رُويت بذلك وذكر قول من قاله :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وعبيد الله ، وحدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ .
حدثني إسماعيل بن موسى ، قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قول الله عزّ وجلّ : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء نحوه .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل عن الحرّاني ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : مات على القبلة قبل أن تحوّل إلى البيت رجال وقُتلوا ، فلم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ .
حدثنا بشر بن معاذ العقديّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال أناس من الناس لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام ، قال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ، هل تقبل الله منا ومنهم أم لا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُمْ قال : صلاتكم قبل بيت المقدس ، يقول : إن تلك طاعة وهذه طاعة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال ناس لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُمْ الآية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني داود بن أبي عاصم ، قال : لما صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، قال المسلمون : هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس ، فنزلت : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ يقول : صلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة ، فكان المؤمنون قد أشفقوا على من صلى منهم أن لا تقبل صلاتهم .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ صلاتكم .
حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري ، قال : أخبرنا المؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .
قد دللنا فيما مضى على أن الإيمان التصديق ، وأن التصديق قد يكون بالقول وحده وبالفعل وحده وبهما جميعا ، فمعنى قوله : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة : وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه الصلاة والسلام بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولي ، واتباعا لأمري ، وطاعة منكم لي . قال : وإضاعته إياه جل ثناؤه لو أضاعه ترك إثابة أصحابه وعامليه عليه ، فيذهب ضياعا ويصير باطلاً ، كهيئة إضاعة الرجل ماله ، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضا في عاجل ولا آجل . فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملاً وهو له طاعة فلا يثيبه عليه ، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله .
فإن قال قائل : وكيف قال الله جل ثناؤه : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين ، والقوم المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية ؟ قيل : إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك ، فإنهم أيضا قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة ، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا ، فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ ، فوجه الخطاب بها إلى الأحياء ، ودخل فيهم الموتى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب أن يغلبوا المخاطب ، فيدخل الغائب في الخطاب ، فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر : فعلنا بكما وصنعنا بكما ، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران ، ولا يستجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فيردّوا المخاطب إلى عداد الغَيَبِ .
القول في تأويل قوله تعالى : إن اللّهَ بالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ .
ويعني بقوله جل ثناؤه : إنّ اللّهَ بالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ أن الله بجميع عباده ذو رأفة . والرأفة أعْلى معاني الرحمة ، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الاَخرة . وأما الرحيم ، فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والاَخرة على ما قد بينا فيما مضى قبل .
وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عزّ وجلّ أرحم بعباده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها ، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم . أي ولا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، فإني لهم على طاعتهم إياي بصلاتهم التي صلوها كذلك مثيب ، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملاً عملوه لي . ولا تحزنوا عليهم ، فإني غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة ، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم ، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله . وفي الرءوف لغات : إحداها «رَؤُف » على مثال «فَعُل » كما قال الوليد بن عقبة :
وَشَرّ الطّالِبِينَ وَلاَ تَكُنْهُ يُقاتِلُ عَمّهُ الرّؤُفُ الرّحِيما
وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة . والأخرى «رءوف » على مثال «فَعُول » ، وهي قراءة عامة قرّاء المدينة . و «رَئِف » ، وهي لغة غطفان ، على مثال «فَعِل » مثل «حَذِر » . و «رَأْف » على مثال «فَعْل » بجزم العين ، وهي لغة لبني أسد ، والقراءة على أحد الوجهين الأوّلين .
{ وكذلك } إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة ، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل . { جعلناكم أمة وسطا } أي خيارا ، أو عدولا مزكين بالعلم والعمل . وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، ثم أطلق على المتصف بها ، مستويا فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها ، واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } علة للجعل ، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج ، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم ، بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلغوا ونصحوا . ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات ، والإعراض عن الآيات ، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم ، أو بعدكم . روي " أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالبهم الله ببينة التبليغ -وهو أعلم بهم- إقامة للحجة على المنكرين ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم من أين عرفتم ؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيشهد بعدالتهم " وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى ، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم . { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } أي الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها بمكة ، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود . أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما ( كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ ، وعلى الثاني المنسوخ . والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس .
{ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها ، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه . أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه ، وما كان لعارض يزول بزواله . وعلى الأول معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها ، إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه . فإن قيل : كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالما . قلت : هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء ، والمعنى ليتعلق علمنا به موجودا . وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه ، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب } فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه ، ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول ، والعلم إما بمعنى المعرفة ، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام ، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب ، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب .
{ وإن كانت لكبيرة } إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفاصلة . وقال الكوفيون هي النافية واللام بمعنى إلا . والضمير لما دل عليه قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } من الجعلة ، أو الردة ، أو التولية ، أو التحويلة ، أو القبلة . وقرئ لكبيرة بالرفع فتكون كان زائدة { إلا على الذين هدى الله } إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان والاتباع { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي ثباتكم على الإيمان . وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة ، أو صلاتكم إليها لما روي : أنه عليه السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا فنزلت { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاحهم ، ولعله قدم الرؤوف وهو أبلغ محافظة على الفواصل وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص لرؤوف بالمد ، والباقون بالقصر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{جعلناكم أمة وسطا}: عدلا، نظيرها في "ن والقلم"، قوله سبحانه: {قال أوسطهم}، (القلم: 28)، يعني أعدلهم، وقوله سبحانه: {من أوسط ما تطعمون أهليكم}، (المائدة: 89)، يعني أعدل، فقول الله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}، يعني أمة محمد، تشهد بالعدل في الآخرة بين الأنبياء وبين أممهم.
{لتكونوا شهداء على الناس}: على الرسل هل بلغت الرسالة عن ربها إلى أممهم.
{ويكون الرسول}: محمد صلى الله عليه وسلم
{عليكم شهيدا}: يعني على أمته أنه بلغهم الرسالة.
{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها}: يعني بيت المقدس.
{من يتبع الرسول}: محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه في القبلة ومن يخالفه من اليهود.
{ممن ينقلب على عقبيه}: ومن يرجع إلى دينه الأول.
{وإن كانت لكبيرة}: يعني القبلة حين صرفها عن بيت المقدس إلى الكعبة، فعظمت على اليهود.
ثم استثنى، فقال: {إلا على الذين هدى الله}: فإنه لا يكبر عليهم ذلك.
{وما كان الله ليضيع إيمانكم}: وذلك أن حيي بن أخطب اليهودي وأصحابه قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، أكانت هدى أم ضلالة؛ فوالله لئن كانت هدى لقد تحولتم عنه، ولئن كانت ضلالة لقد دنتم الله بها فتقربتم إليه بها، وإن من مات منكم عليها مات على الضلالة. فقال المسلمون: إنما الهدى ما أمر الله عز وجل به، والضلالة ما نهى الله عنه، قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟
وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة: أسعد بن زرارة، ومات البراء بن معرور، وكانا من النقباء، ومات رجال، فانطلقت عشائرهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله عز وجل إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، فكيف بإخواننا، فأنزل الله عز وجل: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}، يعني إيمان صلاتكم نحو بيت المقدس، يقول: لقد تقبلت منهم.
{إن الله بالناس لرءوف}: يرق لهم. {رحيم}: حين قبلها منهم قبل تحويل القبلة.
... سمى الطَّهُورَ والصلوات إيمانا في كتابه، وذلك حين صرف الله تعالى وجه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وأمره بالصلاة إلى الكعبة. وكان المسلمون قد صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، فقالوا: يا رسول الله! أرأيت صلاتنا التي كنا نصليها إلى بيت المقدس ما حالها وحالنا؟ فأنزل الله تعالى:
{وَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِيعَ إِيـمَانَكُم إِنَّ اَللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فسمى الصلاة إيمانا. فمن لقي الله حافظا لصلواته، حافظا لجوارحه، مؤديا بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به وفرض عليها، لقي الله مستكمل الإيمان من أهل الجنة. ومن كان لشيء منها تاركا متعمدا مما أمر الله به لقي الله ناقص الإيمان. (مناقب الشافعي: 1/392. ومن مناقب الإمام الشافعي: 123. و أحكام الشافعي: 1/67. ومعرفة السنن والآثار: 1/484.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا": كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام، وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملّته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطا. وقد بينا أن الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهم.
وأما الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يقال منه: فلان وسط الحسب في قومه: أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه، وهو وسط في قومه وواسط... وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل «وسط الدار»، محرّك الوسط مثقّله، غير جائز في سينه التخفيف. وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلوّ فيه غلوّ النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار لأن الخيار من الناس عدولهم. حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: «عُدُولاً.
حدثني عليّ بن عيسى، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، عن حفص بن غياث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً»...
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: هم وسط بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين الأمم.
"لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاس ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا".
والشهداء جمع شهيد. فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولاً (لتكونوا) شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا عليكم بإيمانكم به، وبما جاءكم به من عندي. كما:
حدثني أبو السائب، قال: حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدْعَىَ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السّلاَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلّغْتَ ما أُرْسِلْتَ بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لِقَوْمِهِ: هَلْ بَلّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَعْلَمُ ذَاكَ؟ فَيَقُولُ مُحَمّدٌ وأُمّتُهُ فهو قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ ويَكُونُ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا».
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، إلا أنه زاد فيه: «فَيُدْعَوْنَ وَيَشْهَدُونَ أنّهُ قَدْ بَلّغَ»...
حدثني عصام بن ورّاد بن الجراح العسقلاني، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن الفضل، عن أبي هريرة، قال: خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلمّا صلّى على الميت قال الناس: نعم الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ». ثم خرجت معه في جنازة أخرى، فلما صلوا على الميت قال الناس: بئس الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ». فقام إليه أبيّ بن كعب فقال: يا رسول الله ما قولك وجبت؟ قال: «قول الله عَزّ وجَلّ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النّاسِ».
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن حباب، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمرّ عليه بجنازة فأثنى عليها بثناء حسن، فقال: «وَجَبَتْ»، ومرّ عليه بجنازة أخرى، فأثنى عليها دون ذلك، فقال: «وَجَبَتْ»، قالوا: يا رسول الله ما وجبت؟ قال: «المَلاَئِكَةُ شُهَدَاءُ اللّهِ في السّماءِ وأنْتُمْ شُهَداءُ اللّهِ في الأرْضِ فَمَا شَهِدْتُمْ عَلَيْهِ وَجَبَ». ثم قرأ: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَىَ اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ... الآية...
"وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ": ولم نجعل صَرْفَك عن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفناك عنها إلا لنعلم من يتبعك ممن لا يتبعك ممن ينقلب على عقبيه. والقبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها التي عناها الله بقوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا هي القبلة التي كنت تتوجه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة... يعني بيت المقدس.
وإنما قلنا ذلك معناه لأن محنة الله أصحاب رسوله في القبلة إنما كانت فيما تظاهرت به الأخبار عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة، حتى ارتدّ فيما ذكر رجال ممن كان قد أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم، وقالوا: ما بال محمد يحوّلنا مرّة إلى هَهنا، ومرّة إلى هَهنا؟ وقال المسلمون فيما مضى من إخوانهم المسلمين، وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت. وقال المشركون: تحير محمد صلى الله عليه وسلم في دينه. فكان ذلك فتنة للناس وتمحيصا للمؤمنين...
فإن قال لنا قائل: أوَما كان الله عالما بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا بعد اتباع المتبع، وانقلاب المنقلب على عقبيه، حتى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه؟ قيل: إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قبل كونها، وليس قوله: "وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ "يخبر أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجوده.
فإن قال: فما معنى ذلك؟ قيل له: أما معناه عندنا فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. فقال جل ثناؤه: "إلاّ لِنَعْلَمَ "ومعناه: ليعلم رسولي وأوليائي، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه من حزبه، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس إلى الرئيس، وما فعل بهم إليه نحو قولهم: فتح عمر بن الخطاب سواد العراق، وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحابه عن سبب كان منه في ذلك.
وكالذي رُوي في نظيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَقُولُ اللّهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ: مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي»...
عن ابن عباس: "وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ": لنميز أهل اليقين من أهل الشرك والريبة.
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك من أجل أن العرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كما قال جل ذكره: ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحابِ الفِيلِ. فزعم أن معنى: ألَمْ تَرَ: ألم تعلم، وزعم أن معنى قوله: إلاّ لِنَعْلَمَ بمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أن قول القائل: رأيت وعلمت وشهدت حروف تتعاقب فيوضع بعضها موضع بعض... وهذا تأويل بعيد، من أجل أن الرؤية وإن استعملت في موضع العلم من أجل أنه مستحيل أن يرى أحد شيئا، فلا توجب رؤيته إياه علما بأنه قد رآه إذا كان صحيح الفطرة، فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية أن يضاف إليه إثباته إياه علما، وصحّ أن يدلّ بذكر الرؤية على معنى العلم من أجل ذلك. فليس ذلك وإن كان في الرؤية لما وصفنا بجائز في العلم، فيدلّ بذكر الخبر عن العلم على الرؤية لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها، ويستحيل أن يرى شيئا إلا علمه، كما قد قدمنا البيان، مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال: علمت كذا بمعنى رأيته، وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكلام إلى ما كان موجودا مثله في كلام العرب دون ما لم يكن موجودا في كلامها، فموجود في كلامها «رأيت» بمعنى «علمت»، وغير موجود في كلامها «علمت» بمعنى «رأيت»، فيجوز توجيه إلاّ لِنَعلمَ إلى معنى: إلا لنرى.
وقال آخرون: إنما قيل: "إلاّ لِنَعْلَمَ" من أجل أن المنافقين واليهود وأهل الكفر بالله أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يعلم الشيء قبل كونه، وقالوا إذ قيل لهم: إن قوما من أهل القبلة سيرتدّون على أعقابهم، إذا حوّلت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة: ذلك غير كائن، أو قالوا: ذلك باطل. فلما فعل الله ذلك، وحوّل القبلة، وكفر من أجل ذلك من كفر، قال الله جل ثناؤه: ما فعلت إلا لنعلم ما عندكم أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه، أني عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد.
فكأن معنى قائل هذا القول في تأويل قوله: إلا لِنَعْلَمَ إلا لنبين لكم أنا نعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. وهذا وإن كان وجها له مخرج، فبعيد من المفهوم.
وقال آخرون: إنما قيل: "إلاّ لِنَعْلَمَ" وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال، على وجه الترفّق بعباده، واستمالتهم إلى طاعته، كما قال جل ثناؤه: (وإنّا أو إيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقد علم أنه على هدى وأنهم على ضلال مبين، ولكنه رفق بهم في الخطاب، فلم يقل: أنا على هدى، وأنتم على ضلال. فكذلك قوله: "إلاّ لِنَعْلَمَ" معناه عندهم: إلا لتعلموا أنتم إذ كنتم جهالاً به قبل أن يكون فأضاف العلم إلى نفسه رفقا بخطابهم. وقد بينا القول الذي هو أولى في ذلك بالحقّ.
"مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ": الذي يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به، فيوجه نحو الوجه الذي يتوجه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم.
"مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ": من الذي يرتدّ عن دينه، فينافق، أو يكفر، أو يخالف محمدا صلى الله عليه وسلم في ذلك ممن يظهر اتباعه...
وأصل المرتدّ على عقبيه: هو المنقلب على عقبيه الراجع مستدبرا في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفا عنه، فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير، ومن ذلك قوله: فارْتَدّا على آثارِهِما قَصصا بمعنى رجعا في الطريق الذي كانا سلكاه.
وإنما قيل للمرتدّ مرتدّ، لرجوعه عن دينه وملّته التي كان عليها. وإنما قيل رجع على عقبيه لرجوعه دبرا على عقبه إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل رجعه عنه، فيجعل ذلك مثلاً لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره إذا انصرف عما كان فيه إلى الذي كان له تاركا فأخذه، فقيل ارتدّ فلان على عقبه، وانقلب على عقبيه.
"وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ":
اختلف أهل التأويل في التي وصفها الله جلّ وعزّ بأنها كانت كبيرة إلا على الذين هدى الله؛
فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه بالكبيرة: التولية من بيت المقدس شطر المسجد الحرام والتحويل، وإنما أنّث الكبيرة لتأنيث التولية...
وقال آخرون: بل الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل... أي قبلة بيت المقدس.
وقال بعضهم: بل الكبيرة: هي الصلاة التي كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى. وقال بعض نحويي البصرة: أنثت الكبيرة لتأنيث القبلة، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله: وَإنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً. وقال بعض نحويي الكوفة: بل أنثت الكبيرة لتأنيث التولية والتحويلة.
فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة: وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنت عليها وتوليتناك عنها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت تحويلتنا إياك عنها وتوليتناك لكبيرة إلا على الذين هدى الله.
وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب، لأن القوم إنما كبر عليهم تحويل النبيّ صلى الله عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى لا عين القبلة ولا الصلاة، لأن القبلة الأولى والصلاة قد كانت وهي غير كبيرة عليهم إلا أن يوجه موجّه تأنيث الكبيرة إلى القبلة، ويقول: اجتزئ بذكر القبلة من ذكر التولية والتحويلة لدلالة الكلام على معنى ذلك، كما قد وصفنا لك في نظائره، فيكون ذلك وجها صحيحا ومذهبا مفهوما. ومعنى قوله: "كَبِيرَةً": عظيمة...
"إلاّ عَلَىَ الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ": وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنت عليها لعظيمة إلا على من وفّقه الله جل ثناؤه فهداه لتصديقك، والإيمان بك وبذلك، واتباعك فيه وفيما أنزل الله تعالى ذكره عليك... عن ابن عباس: "وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ": إلا على الخاشعين، يعني المصدّقين بما أنزل الله تبارك وتعالى.
" وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُم" قيل: عنى بالإيمان في هذا الموضع الصلاة... صلاتكم نحو بيت المقدس.
قد دللنا فيما مضى على أن الإيمان التصديق، وأن التصديق قد يكون بالقول وحده وبالفعل وحده وبهما جميعا، فمعنى قوله: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ" على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة: وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه الصلاة والسلام بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولي، واتباعا لأمري، وطاعة منكم لي. قال: وإضاعته إياه جل ثناؤه لو أضاعه ترك إثابة أصحابه وعامليه عليه، فيذهب ضياعا ويصير باطلاً، كهيئة إضاعة الرجل ماله، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضا في عاجل ولا آجل. فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملاً وهو له طاعة فلا يثيبه عليه، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله.
فإن قال قائل: وكيف قال الله جل ثناؤه: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ" فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين، والقوم المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية؟ قيل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك، فإنهم أيضا قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا، فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ، فوجه الخطاب بها إلى الأحياء، ودخل فيهم الموتى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب أن يغلبوا المخاطب، فيدخل الغائب في الخطاب، فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر: فعلنا بكما وصنعنا بكما، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران، ولا يستجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فيردّوا المخاطب إلى عداد الغَيَبِ.
"إن اللّهَ بالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ": إن الله بجميع عباده ذو رأفة. والرأفة أعْلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الاَخرة. وأما الرحيم، فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والاَخرة على ما قد بينا فيما مضى قبل.
وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عزّ وجلّ أرحم بعباده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم. أي ولا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فإني لهم على طاعتهم إياي بصلاتهم التي صلوها كذلك مثيب، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملاً عملوه لي. ولا تحزنوا عليهم، فإني غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
من الدلائل على أن الإيمان قول وعمل –كما قالت الجماعة والجمهور، قول الله -عز وجل-: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}، لم يختلف المفسرون أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيمانا، ومثل هذا قوله: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من –آمن بالله واليوم الآخر} -الآية، إلى قوله: {أولئك هم المتقون}. (ت: 9/245).
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سمى الصلاة إيماناً لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل، ولما كان الإيمان قطباً عليه تدور الأعمال وكان ثابتاً في حال التوجه هنا وهنا ذكره، إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي. ولئلا تندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر، وأيضاً فسميت إيماناً إذ هي من شعب الإيمان.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا، فذلك قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا...). وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، وفيه: (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا، فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب: صدقوا. فذلك قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا – و الوسط العدل.
قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه السلام، إلا من كان في قلبه حنة على أخيه.
وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت به جنازة فأثني عليها خير فقال: (وجبت وجبت وجبت). ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شر فقال: (وجبت وجبت وجبت). فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: (وجبت وجبت وجبت) ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: (وجبت وجبت وجبت)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض). أخرجه البخاري بمعناه...
و...عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء: كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة "ادعوني استجب لكم".وكان الله إذا بعث النبي قال له: ما جعل عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: "وما جعل عليكم في الدين من حرج". وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس). خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في "نوادر الأصول".
قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال عليه السلام: (نحن الآخرون الأولون). وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أعلم بما {سيقول السفهاء} [البقرة: 142] وعلم جوابهم وبين سر التحويل بين علة التوجيه إلى قبلتين بقوله: {وما جعلنا} أي بعظمتنا التي لا يقاويها أحد {القبلة}
قال الحرالي: في جملته إنباء بأن القبلة مجعولة أي مصيرة عن حقيقة وراءها ابتلاء بتقليب الأحكام ليكون تعلق القلب بالله الحكيم لا بالعمل المحكم، فالوجهة الظاهرة ليكون ذلك علماً على المتبع عن صدق فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيان ما وجهه، وعلى المجيب عن غرض ظاهر ليس يسنده صدق باطن فيتعلق من الظاهر بما لا يثبت عند تغيره -انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويكون الرسول عليكم شهيدا} أي إن الرسول عليه الصلاة والسلام هو المثل الأكمل لمرتبة الوسط، وإنما تكون هذه لأمة وسطا باتباعها له في سيرته وشريعته، وهو القاضي بين الناس فيمن اتبع سنته ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخرى أو حذا حذو المبتدعين، فكما تشهد هذه الأمة على الناس بسيرتهم وارتقائهم الجسدي والروحي بأنهم قد ضلوا عن القصد، يشهد لها الرسول بما وافقت فيه سنته وما كان لها من الأسوة الحسنة فيه، بأنها استقامت على صراط الهداية المستقيم، فكأنه قال: إنما يتحقق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول واستقمتم على سنته، وأما إذا انحرفتم عن هذه الجادة فالرسول بنفسه ودينه وسيرته حجة عليكم بأنكم لستم من أمته التي وصفها الله في كتابه بهذه الآية وبقوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران: 110) الخ. بل تخرجون بالابتداع من الوسط وتكونون في أحد الطرفين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط، فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة، وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم الطيبات، عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا، ولا يحرمون شيئا، بل أباحوا ما دب ودرج.
بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها.
ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا {أُمَّةً وَسَطًا} [كاملين] ليكونوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول، فهو مقبول، وما شهدت له بالرد، فهو مردود. فإن قيل: كيف يقبل حكمهم على غيرهم، والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض؟ قيل: إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين، لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة، وحصلت العدالة التامة، كما في هذه الأمة، فإنما المقصود، الحكم بالعدل والحق، وشرط ذلك، العلم والعدل، وهما موجودان في هذه الأمة، فقبل قولها.
فإن شك شاك في فضلها، وطلب مزكيا لها، فهو أكمل الخلق، نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم، أنه إذا كان يوم القيامة، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم، والأمم المكذبة عن ذلك، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة، وزكاها نبيها.
وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة، حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله: {وَسَطًا} فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطا، إلا في بعض الأمور، ولقوله: {ولتكونوا شهداء على الناس} يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك. وفيها اشتراط العدالة في الحكم، والشهادة، والفتيا، ونحو ذلك.
يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} وهي استقبال بيت المقدس أولا {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي: علما يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها.
ولكن هذا العلم، لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا، لتمام عدله، وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم، ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} ويؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة، أنه يستقبل الكعبة، فالمنصف الذي مقصوده الحق، مما يزيده ذلك إيمانا، وطاعة للرسول.
وأما من انقلب على عقبيه، وأعرض عن الحق، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرا إلى كفره، وحيرة إلى حيرته، ويدلي بالحجة الباطلة، المبنية على شبهة لا حقيقة لها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أمة وسطا).. في التصور والاعتقاد.. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
(أمة وسطا).. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة... ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.
(أمة وسطا).. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان.. ولكن مزاج من هذا وذاك.
(أمة وسطا).. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق.
(أمة وسطا).. في المكان.. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا، وتشهد على الناس جميعا؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.
(أمة وسطا).. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها. وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى؛ وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء؛ وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها. وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة.
وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها، بمناسبة تحويلهم الآن عنها: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة. إنه يريد لها أن تخلص له؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية، ومن كل شعار اتخذته، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر.
ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك، ومن عصبية الجنس، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس.. والله يريده أن يكون بيت الله المقدس، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته. لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة، ووجههم إلى بيت المقدس، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول صلى الله عليه وسلم ثانيا، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة.
إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة.. إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا؛ ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح؛ إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور. جل أم صغر. وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه).. والله -سبحانه- يعلم كل ما يكون قبل أن يكون. ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس، حتى يحاسبهم عليه، ويأخذهم به. فهو -لرحمته بهم- لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم. ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة.. أمر شاق، ومحاولة عسيرة.. إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه: (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله).. فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات، وأن تنفض عنها تلك الرواسب؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع، حيثما وجهها الله تتجه، وحيثما قادها رسول الله تقاد. ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم.
إنهم ليسوا على ضلال، وإن صلاتهم لم تضع، فالله سبحانه لا يعنت العباد، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها: (وما كان الله ليضيع إيمانكم، إن الله بالناس لرؤوف رحيم).. إنه يعرف طاقتهم المحدودة، فلا يكلفهم فوق طاقتهم؛ وإنه يهدي المؤمنين، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان، حين تصدق منهم النية، وتصح العزيمة. وإذا كان البلاء مظهرا لحكمته، فاجتياز البلاء فضل رحمته (إن الله بالناس لرؤوف رحيم).. بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة، ويذهب عنها القلق، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
من مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دَعوتنا الأممَ للإِسلام، ليقوم ذلك مقامَ دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين... وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضي إلاّ بعد حصولها. ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينه أو يسمع بأذنيه، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكَّى، وأن المزكي لا يحتاج للتزكية، وأن الأمَّة لا تشهد على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع:"أَلاَ هل بَلغْتُ فيقولون نعم فيقول اللهم اشْهَد" فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت...
وأياً ما كان معنى الرأفة فالجمع بين رءوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة. وأما على اعتبار تفسير المحققين لِمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تَعَالى يرحم الرحمة القوية لمُستحقها ويرحم مطلق الرحمة مَنْ دونَ ذلك...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«شهادة» الأمة المسلمة على النّاس، و«شهادة» النّبي على المسلمين، قد تكون إشارة إلى الأُسوة والقُدْوَةِ، لأن الشاهد يُنتخب من بين أزكى النّاس وأمثلهم. فيكون معنى هذا التعبير القرآني أن الأمة المسلمة نموذجيّة بما عندها من عقيدة ومنهج، كما أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرد نموذجيّ بين أبناء الأمة.
الأمة المسلمة بعملها وبتطبيقها المنهج الإسلامي تشهد أن الإنسان بمقدوره أن يكون رجل دين ورجل دنيا... أن يكون إنساناً يعيش في خضم الأحداث الاجتماعية وفق معايير روحية ومعنوية.
الأمة المسلمة بمعتقداتها ومناهجها تشهد بعدم وجود أي تناقض بين الدين والعلم، بل إن كلا منهما يخدم الآخر.