143- ولهذه المشيئة هديناكم إلى الطريق الأقوم ، وجعلناكم أمة عدولاً خياراً بما وفقناكم إليه من الدين الصحيح والعمل الصالح لتكونوا مقرري الحق بالنسبة للشرائع السابقة ، وليكون الرسول مهيمناً عليكم ، يسددكم بإرشاده في حياته ، وبنهجه وسنته بعد وفاته . وأما عن قبلة بيت المقدس التي شرعناها لك حيناً من الدهر ، فإنما جعلناها امتحاناً للمسلمين ليتميز من يذعن فيقبلها عن طواعية ، ومن يغلب عليه هوى تعصبه العربي لتراث إبراهيم فيعصى أمر الله ويضل عن سواء السبيل . ولقد كان الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله بهدايته ، وكان امتثال هذا الأمر من أركان الإيمان ، فمن استقبل بيت المقدس عند الأمر باستقباله - إيماناً منه وطاعة - فلن يضيع عليه ثواب إيمانه وطاعته .
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي : عدلا خيارا ، وما عدا الوسط ، فأطراف داخلة تحت الخطر ، فجعل الله هذه الأمة ، وسطا في كل أمور الدين ، وسطا في الأنبياء ، بين من غلا فيهم ، كالنصارى ، وبين من جفاهم ، كاليهود ، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك ، ووسطا في الشريعة ، لا تشديدات اليهود وآصارهم ، ولا تهاون النصارى .
وفي باب الطهارة والمطاعم ، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ، ولا يطهرهم الماء من النجاسات ، وقد حرمت عليهم الطيبات ، عقوبة لهم ، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا ، ولا يحرمون شيئا ، بل أباحوا ما دب ودرج .
بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها ، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ، وحرم عليهم الخبائث من ذلك ، فلهذه الأمة من الدين أكمله ، ومن الأخلاق أجلها ، ومن الأعمال أفضلها .
ووهبهم الله من العلم والحلم ، والعدل والإحسان ، ما لم يهبه لأمة سواهم ، فلذلك كانوا { أُمَّةً وَسَطًا } [ كاملين ] ليكونوا { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط ، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان ، ولا يحكم عليهم غيرهم ، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول ، فهو مقبول ، وما شهدت له بالرد ، فهو مردود . فإن قيل : كيف يقبل حكمهم على غيرهم ، والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض ؟ قيل : إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين ، لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة ، وحصلت العدالة التامة ، كما في هذه الأمة ، فإنما المقصود ، الحكم بالعدل والحق ، وشرط ذلك ، العلم والعدل ، وهما موجودان في هذه الأمة ، فقبل قولها .
فإن شك شاك في فضلها ، وطلب مزكيا لها ، فهو أكمل الخلق ، نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فلهذا قال تعالى : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم ، أنه إذا كان يوم القيامة ، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم ، والأمم المكذبة عن ذلك ، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم ، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة ، وزكاها نبيها .
وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة ، حجة قاطعة ، وأنهم معصومون عن الخطأ ، لإطلاق قوله : { وَسَطًا } فلو قدر اتفاقهم على الخطأ ، لم يكونوا وسطا ، إلا في بعض الأمور ، ولقوله : { ولتكونوا شهداء على الناس } يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه ، فإنها معصومة في ذلك . وفيها اشتراط العدالة في الحكم ، والشهادة ، والفتيا ، ونحو ذلك .
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } وهي استقبال بيت المقدس أولا { إِلَّا لِنَعْلَمَ } أي : علما يتعلق به الثواب والعقاب ، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها .
ولكن هذا العلم ، لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا ، لتمام عدله ، وإقامة الحجة على عباده ، بل إذا وجدت أعمالهم ، ترتب عليها الثواب والعقاب ، أي : شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن { مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } ويؤمن به ، فيتبعه على كل حال ، لأنه عبد مأمور مدبر ، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة ، أنه يستقبل الكعبة ، فالمنصف الذي مقصوده الحق ، مما يزيده ذلك إيمانا ، وطاعة للرسول .
وأما من انقلب على عقبيه ، وأعرض عن الحق ، واتبع هواه ، فإنه يزداد كفرا إلى كفره ، وحيرة إلى حيرته ، ويدلي بالحجة الباطلة ، المبنية على شبهة لا حقيقة لها .
{ وَإِنْ كَانَتْ } أي : صرفك عنها { لَكَبِيرَةٌ } أي : شاقة { إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم ، وشكروا ، وأقروا له بالإحسان ، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم ، الذي فضله على سائر بقاع الأرض ، وجعل قصده ، ركنا من أركان الإسلام ، وهادما للذنوب والآثام ، فلهذا خف عليهم ذلك ، وشق على من سواهم .
ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : ما ينبغي له ولا يليق به تعالى ، بل هي من الممتنعات عليه ، فأخبر أنه ممتنع عليه ، ومستحيل ، أن يضيع إيمانكم ، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان ، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم ، فلا يضيعه ، وحفظه نوعان :
حفظ عن الضياع والبطلان ، بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة ، والأهواء الصادة ، وحفظ له بتنميته لهم ، وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ، ويتم به إيقانهم ، فكما ابتدأكم ، بأن هداكم للإيمان ، فسيحفظه لكم ، ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره ، وثوابه ، وحفظه من كل مكدر ، بل إذا وجدت المحن المقصود منها ، تبيين المؤمن الصادق من الكاذب ، فإنها تمحص المؤمنين ، وتظهر صدقهم ، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم ، فدفع هذا الوهم بقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } بتقديره لهذه المحنة أو غيرها .
ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة ، فإن الله لا يضيع إيمانهم ، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها ، وطاعة الله ، امتثال أمره في كل وقت ، بحسب ذلك ، وفي هذه الآية ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : شديد الرحمة بهم عظيمها ، فمن رأفته ورحمته بهم ، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها ، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه ، وأن امتحنهم امتحانا ، زاد به إيمانهم ، وارتفعت به درجتهم ، وأن وجههم إلى أشرف البيوت ، وأجلها .
- ثم وصف الله - تعالى - الأمة الإسلامية ، بأنها أمة خيرة عادلة مزكاة بالعلم والعمل فقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
والمعنى : ومثل ما جعلنا قبلتكم - أيها المسلمون - وسطاً لأنها البيت الحرام الذي هو المثابة للناس ، والأمن لهم ، جعلناكم - أيضاً - { أُمَّةً وَسَطاً } أي : خياراً عدولا بين الأمم ليتحقق التناسب بينكم وبين القبلة التي تتوجهون إليها في صلواتكم ، تشهدون على الأمم السابقة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ، ونصحوهم بما ينفعهم ، ولكي يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم بأنكم صدقتموه وآمنتم به .
أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب ، فيقال له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته هل بلغكم . فيقولون : ما أتانا من نذير ، فيقال له : من يشهد لك . فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ، فذلك قوله - جل ذكره - { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
ثم بين الله - تعالى - الحكمة في تحويل القبلة إلى الكعبة فقال تعالى :
{ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } .
أي وما شرعنا التوجه إلى القبلة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس ، إلا لنعامل الناس معاملة الممتحن المختبر ، فنعلم من يتبع الرسول ويأتمر بأوامره في كل حال ممن لم يدخل الدين في قرارة نفسه ، وإنما دخل فيه على حرف ، بحيث يترد عنه لأقل شبهة ، وأدنى ملابسة كما حصل ذلك من ضعاف الإِيمان عند تحويل القبلة إلى الكعبة والله - تعالى - عالم بكل شيء ، ولكنه شاء أن يكون معلومه الغيبي مشاهداً في العيان ، إذ تعلق الشيء واقعاً في العيان ، هو الذي تقوم عليه الحجة ، ويترتب عليه الثواب والعقاب .
ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قال لنعلم ولم يزل عالماً بذلك ؟ قلت ؛ معناه لنلعمه علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلا ، ونحوه { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } وقيل ليعلم رسول الله والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته ، لأنهنم خواصه وأهل الزلفى عنده ، وقيل معناه . ليميز التابع من الناكص كما قال - تعالى - : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } فوضع العلم موضع التمييز ؛ لأن العلم يقع التميز به " .
ثم بين الله - تعالى - آثار تحويل القبلة في نفوس المؤمنين وغيرهم فقال تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } .
أي : إنما شرعنا لك - يا محمد - القبلة أولا إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكمية ليظهر حال من يتبعك ويطيعك في كل حالة ممن لا يطيعك ، وإن كانت هذه الفعلة - وهي تحويلنا لك من بيت المقدس إلى الكعبة - لكبيرة وشاقة ، إلا على الذين خلق الله الهداية في قلوبهم فتلقوا أوامرنا بالخضوع والإِذعان ، وقالوا سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا .
وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ . . . } .
بشارة عظيمة للمؤمنين ، وجواب لما جاشت به الصدور ، وتكذيب لما ادعاه اليهود من أن عبادة المؤمنين في الفترة التي سبقت تحويل القبلة إلى الكعبة ضائعة وباطلة .
فقد أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا ، فلم ندر ما تقول فيهم ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
وقال ابن عباس : كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ماتوا على القبلة الأولى ، منهم : أسعد بن زرارة ، وأبو أمامة . . . وأناس آخرون فجاءت عشائرهم فقالوا : يا رسول الله : مات إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى وقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم ، فكيف بإخواننا ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
وروى أن حيي بن أخطب وجماعة من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى لقد تحولتم عنه ، وإن كانت على ضلالة فقد عبدتم الله بها مدة ، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة فقال المسلمون إنما الهدى فيما أمر الله - تعالى - والضلالة فيما نهى الله عنه فقالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا ؟ - وكان قد مات من المسلمين جماعة قبل تحويل القبلة - فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
والمعنى - وما كان الله - تعالى - ليذهب صلاتكم وأعمالكم الصالحة التي قمتم بها خلال توجهكم إلى بيت المقدس ، لأنه - سبحانه - بعباده رءوف رحيم ولا يضيع أجر من أحسن عملا .