افتتحت هذه السورة بالثناء على الله خالق السماوات والأرض على غير مثال ، جاعل الملائكة رسلا إلى عباده ذوي أجنحة عديدة . ما يرسله الله للناس من فضل لا أحد يمنعه ، وما يمسكه لا أحد يرسله ، ويدعو الناس إلى ذكر النعمة ، إذ لا خالق معه يمدهم بالرزق ولا إله معه يصرفون إليه . وكذب القوم دعوتك فلك فيمن سبق من الرسل عبرة ، ولك فيما وعدنا من رجعة إلينا ما يسليك ، وواجب على الناس ألا تغرهم الدنيا بزخارفها ، ولا يغرهم الشيطان ، وأمره مقصور على دعوة متابعيه إلى التهلكة ، ومن تابعه قاده إلى النار ، ولا يستوي من زين له الشيطان سوء عمله ومن تركه ، وإذا كان شأن الناس ذلك فلا تأسف على عدم إيمانهم ، فمن أرسل السحاب وأحيا به الموات يحيي الأموات للحساب والجزاء ، ومن أراد المنعة اعتز بالله ومن اعتز بغيره أذله ، وأعمال العباد تصعد إليه فيقبل عمل المؤمنين ويحبط عمل الكافرين . ودليل قدرته على البعث والنشور : أنه خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم جعلهم أزواجا ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، خلق الماء العذب والملح ، ومن كل تحصل الأرزاق ، وأدخل الليل في النهار وأدخل النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر ، كل يجري إلى أجل مسمى ، هذا القادر هو الإله الحق والذين يدعون من دونه لا يملكون ، وإذا دعوا لا يسمعون ، وإذا سمعوا لا يستجيبون ، ويوم القيامة يكفرون بشرك من أشركوهم مع الله ، وهو عادل يحمل كل نفس عملها ، ويوجه الرسل أن يقصدوا بدعواتهم من يخشون الله ، ووظيفة الرسول إنذار قومه ، وما من أمة إلا خلا فيها نذير .
وتعود السورة إلى دلائل القدرة ، فالماء تخرج به الثمرات المختلفة ، والجبال طرائق بيض وحمر وسود ، والناس دواب مختلف ألوانهم ، كل ذلك يحمل على الخشية منه ، ومن يتلو كتاب الله الذي أورثه من اصطفاه يدخل الجنة يمتع بما فيها ، ومن كفر يدخل النار لا يقضي عليه فيها ولا يخفف عنه من عذابها ، يطلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح من عمله ، وقد أمهل وقتا يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير . وهو سبحانه جعلكم خلائف الأرض ، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا . وقد أقسم المعاندون : لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى ممن سبقوهم ، فلما جاءهم استكبروا ، فحاق بهم مكرهم ، وما قدروا الله حق قدره ، ولو يؤاخذ الله أهل الأرض بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ، ولكن يؤخرهم إلى أجل ، فإذا جاء فإن الله كان بعباده بصيرا .
1- الثناء الجميل حق لله - وحده - موجد السماوات والأرض على غير مثال سبق ، جاعل الملائكة رسلاً إلى خلقه ذوى أجنحة مختلفة العدد ، اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا يزيد في الخلق ما يشاء أن يزيد ، لا يعجزه شيء ، إن الله على كل شيء عظيم القدرة .
1- سورة فاطر هي السورة الخامسة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الفرقان –كما ذكر صاحب الإتقان( {[1]} ) .
وهي من السور المكية الخالصة ، وتسمى أيضا –بسورة " الملائكة " .
قال القرطبي : هي مكية في قول الجميع ، وهي خمس وأربعون آية( {[2]} ) .
2- سورة فاطر هي آخر السور التي افتتحت بقوله –تعالى- : [ الحمد لله ] وقد سبقها في هذا الافتتاح سور : الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ .
قال –سبحانه- في افتتاح سورة فاطر : [ الحمد لله فاطر السموات والأرض ، جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ] .
3- ثم تحدث –سبحانه- بعد ذلك عن مظاهر نعمه على عباده ورحمته بهم ، فقال : [ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم . . . ] .
4- ثم توجه السورة الكريمة نداءين إلى الناس ، تأمرهم في أولهما بشكر الله –تعالى- على نعمه ، وتنهاهم في ثانيهما عن الاغترار بزينة الحياة الدنيا وعن اتباع خطوات الشيطان . .
قال –سبحانه- : [ يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم ، هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض . . ] . وقال –جل شأنه- : [ يأيها الناس إن وعد الله حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور ] .
5- وبعد أن تسلي السورة الكريمة الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه ، تأخذ في بيان مظاهر قدرة الله –تعالى- في خلقه ، فتذكر قدرته –سبحانه- في إرسال الرياح والسحب ، وفي خلقه للإنسان من تراب ، وفي إيجاده للبحرين : أحدهما عذب فرات سائغ شرابه ، والثاني : ملح أجاج ، وفي إدخاله الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وفي تسخيره الشمس والقمر . .
قال –تعالى- : [ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ، ومن كل تأكلون لحما طريا ، وتستخرجون حلية تلبسونها ، وترى الفلك فيه مواخر ، لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، ذلكم الله ربكم له الملك ، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ] .
6- ثم وجه –سبحانه- نداء ثالثا إلى الناس ، بين لهم فيه : افتقارهم إليه –تعالى- وحاجتهم إلى عونه وعطائه ، وتحمل كل إنسان لمسئولياته ولنتائج أعماله . .
كما بين لهم –سبحانه- أن الفرق بين الهدى والضلال ، كالفرق بين الإبصار والعمى ، وبين النور والظلمات ، وبين الحياة والموت ، وبين الظل والحرور .
قال –تعالى- : [ وما يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات ، إن الله يسمع من يشاء ، وما أنت بمسمع من في القبور ] .
7- ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- ورحمته بعباده ، وعن الثواب العظيم الذي أعده –سبحانه- لمن يتلون كتابه ولمن يحافظون على فرائضه – وعن عقابه الأليم للكافرين الجاحدين لنعمه . .
قال –تعالى- : [ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها ، وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ، إنما يخشى الله من عباده العلماء ، إن الله عزيز غفور . إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، يرجون تجارة لن تبور ] .
ثم قال –سبحانه- : [ والذين كفروا لهم نار جهنم ، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ] .
8- ثم انتقلت السورة الكريمة في أواخرها إلى الحديث عن جهالات المشركين ، حيث عبدوا من دون الله –تعالى- مالا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، وعن مكرهم السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله ، وعن نقضهم لعهودهم حيث [ أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا . . . ] .
ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ببيان سعة رحمته بالناس فقال : [ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ، ما ترك على ظهرها من دابة ، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ، فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ] .
9- وهكذا نرى سورة فاطر قد طوفت بالنفس الإنسانية في أرجاء هذا الكون ، وأقامت الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته . عن طريق نعم الله –تعالى- المبثوثة في الأرض وفي السماء ، وفي الليل وفي النهار ، وفي الشمس وفي القمر : وفي الرياح وفي السحب ، وفي البر وفي البحر . . وفي غير ذلك من النعم التي سخرها –سبحانه- لعباده .
كما نراها قد حددت وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وساقت له ما يسليه ويزيده ثباتا على ثباته ، وما يرشد كل عاقل إلى حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار .
افتتحت سورة " فاطر " كما سبق أن ذركنا عند تفسيرنا لسورة " سبأ " بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل ، هو الله رب العالمين .
و " أل " فى الحمد للاستغراق . بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ، ولكافة ألوان الثناء هو الله - تعالى - .
وقوله : { فَاطِرِ السماوات والأرض } أى خالقهما وموجدهما على غير مثال يحتذى ، إذ لامراد بالفطر هنا : والاختراع للشئ الذى لم يوجد ما يشبهه من قبل .
قال القرطبى : والفاطر : الخالق ، والفَطْر - بفتح الفاء - : الشق عن الشئ . يقال فطرته فانفطر . ومنه : فطر ناب البعير ، أى : وتفطر الشئ ، أى : تشقق . .
والفطر : الابتداء والاختراع . قال ابن عباس : كنت لا أدرى ما { فَاطِرِ السماوات والأرض } حتى أتى أعرابيان يختصمان فى بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتهما ، أى : أنا ابتدأتها . .
والمراد بذكر السماوات والأرض : العالم كله . ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء ، قادر على الإِعادة .
والمعنى : الحمد المطلق والثناء التام الكامل لله - تعالى - وحده ، فهو - سبحانه الخالق للسموات والأرض ، ولهذا الكون بأسره ، دون أن يسبقه إلى ذلك سابق ، أو يشاركه فيما خلق وأوجد مشارك .
وقوله - تعالى - : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - تعالى - التى لا يعجزها شئ .
والملائكة : جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملاك . وهم جند من خلق الله - تعالى - وقد وصفهم - سبحانه - بصفات متعددة ، منها : أنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } قال الجمل : وقوله : جاعل الملائكة ، أى : بعضهم . إذ ليس كلهم رسلا كما هو معلوم . وقوله : { أولي أَجْنِحَةٍ } نعت لقوله { رُسُلاً } ، وهو جيد لفظا لتوافقهما تنكيرا . أو هو نعت للملائكة ، وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة ، فهى صفة كاشفة . .
وقوله : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أسماء معدول بها عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وهى ممنوعة من الصرف ، للوصفية والعدل عن المكرر وهى صفة لأجنحة .
أى : الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض بقدرته ، والذى جعل الملائكة رسلا إلى أنبيائه . وإلى من يشاء من عباده ، ليبلغوهم ما يأمرهم - سبحانه - بتبليغه إليهم . .
وهؤلاء الملائكة المكرمون ، ذوو أجنحة عديدة ، ذوو أجنحة عديدة . منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له أكثر من ذلك ، لأن المراد بهذا الوصف ، بيان كثرة الأجنحة لا حصرها .
قال الآلوسى ما ملخصه قوله : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً . . . } معناه : جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالته بالوحى والإِلهام والرؤيا الصادقة ، أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه ، كالأمطار والرياح وغيرهما .
وقوله : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معناه : أن من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا دلالة فى الآية على نفى الزائد ، وما ذكر من عد للدلالة على التكثير والتفاوت ، لا للتعيين ولا لنفى النصان عن اثنين . .
فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود فى قوله - تعالى - { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } أن الرسول صلى الله عليه سولم رأى جبريل وله ستمائة جناح . .
وقوله - تعالى - : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، من كمال قدرته ، ونفاذ إرادته .
أى يزيد - سبحانه - فى خلق كل ما يزيد خلقه ما يشاء أن يزيده من الأمور التى لا يحيط بها الوصف ، ومن ذلك أجنحة الملائكة فيزيد فيها ما يشاء ، وكذلك ينقص فى الخلق ما يشاء ، والكل جاء على مقتضى الحكمة والتدبير .
قال صاحب الكشاف : قوله { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ } أى : يزيد فى خلق الأجنحة ، وفى غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته .
والآية مطلقة تتناول كل زيادة فى الخلق : من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام الأعضاء ، وقوة فى البطش ، وحصافة فى العقل ، وجزالة فى الرأى ، وجرأة فى القلب ، وسماحة فى النفس ، وذلاقة فى اللسان ، ولباقة فى التكلم ، وحسن تأن فى مزاولة الأمور ، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف . .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقولهك { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى : إن الله - تعالى - لا يعجزه شيئ يريده ، لأنه قدير على فعل كل شئ ، فالجملة الكريمة تعليل لما قبلها من كونه - سبحانه - يزيد فى الخلق ما يشاء ، وينقص منه ما يشاء .
سورة فاطر مكية وآياتها خمس وأربعون
هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها . أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد . فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها . إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزاً ، وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود ، وروعة هذا الكون ؛ وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه ، المتناثرة في صفحاته ؛ وليتذكر آلاء الله ، ويشعر برحمته ورعايته ؛ وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة ؛ وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله ، وآثار يده في أطواء الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي حياة البشر ، وفي أحداث التاريخ . وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة . . . ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك ، ويتأثر تأثر الأحياء .
والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات . يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات فهي كلها موضوع واحد . كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري ، تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث . فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع ، إلى الإيمان والخشوع والإذعان .
والسمة البارزة الملحوظة في هذه الإيقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة . وإظهار هذه اليدتحرك الخيوط كلها وتجمعها ؛ وتقبضها وتبسطها ، وتشدها وترخيها . بلا معقب ولا شريك ولا ظهير .
ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة ، وتطرد إلى ختامها . .
هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع . يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ) . .
وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض ، وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض . بلا معقب ولا شريك :
( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم ) . .
والهدى والضلال رحمة تتدفق أو تغيض : ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) . . ( إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير ) . .
وهذه اليد تصنع الحياة الأولى وتنشر الموتى في الحياة الآخرة : ( والله الذي أرسل الرياح ، فتثير سحاباً ، فسقناه إلى بلد ميت ، فأحيينا به الأرض بعد موتها . كذلك النشور ) . .
والعزة كلها لله ومنه وحده تستمد : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ) . .
والخلق والتكوين والنسل والأجل خيوطها كلها في تلك اليد لا تند عنها : ( والله خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم جعلكم أزواجاً . وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) :
وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والأرض وحركات الكواكب والأفلاك ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ذلكم الله ربكم له الملك . والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . .
ويد الله المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة ، وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والإنسان :
( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ) .
وهذه اليد تنقل خطى البشر ، وتورث الجيل الجيل : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) . . ( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) . .
وهي تمسك بهذا الكون الهائل تحفظه من الزوال . ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) . .
وهي القابضة على أزمة الأمور لا يعجزها شيء على الإطلاق : ( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) . .
وهو ( على كل شيء قدير ) . . وهو ( العزيز الحكيم ) . . ( وإلى الله ترجع الأمور )وهو ( عليم بما يصنعون ) . . ( وله الملك ) . . وهو ( الغني الحميد ) . . ( وإلى الله المصير ) . . وهو ( عزيز غفور ) . . وهو ( غفور شكور ) . . وإنه بعباده ( لخبير بصير ) . . وهو ( عالم غيب السماوات والأرض ) . . وهو ( عليم بذات الصدور ) . . وكان ( حليماً غفوراً ) . . وكان ( عليماً قديراً ) . . وكان ( بعباده بصيراً ) . .
ومن تلك الآيات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة ، والسمة الغالبة عليها ، والظل الذي تلقيه في النفس على وجه العموم .
ونظراً لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها . وإلا فهي شوط واحد متصل الإيقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها . . .
( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء ، إن الله على كل شيء قدير ) . .
تبدأ السورة بتقديم الحمد لله . فهي سورة قوامها توجيه القلب إلى الله ، وإيقاظه لرؤية آلائه ، واستشعار رحمته وفضله ، وتملي بدائع صنعه في خلقه ، وامتلاء الحس بهذه البدائع ، وفيضه بالتسبيح والحمد والابتهال :
ويتلو حمد الله ذكر صفته الدالة على الخلق والإبداع :
فهو منشىء هذه الخلائق الهائلة التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا حيث كنا ، والتي لا نعرف إلا القليل عن أصغرها وأقربها إلينا . . أمنا الأرض . . والتي ينتظمها ناموس واحد يحفظها في تناسق وتوافق ، على ما بينها من أبعاد هائلة لا يتصورها خيالنا البشري إلا بمشقة عظيمة ؛ والتي تحوي - مع ضخامتها وتباعد أفلاكها ومداراتها - من أسرار التناسب فيما بينها ما لو اختلت فيه نسبة صغيرة لتحطمت كلها وتناثرت بدداً .
وإننا لنمر على مثل هذه الإشارة في القرآن الكريم إلى خلق السماوات والأرض ، دون أن نقف أمامها طويلاً لنتدبر مدلولها الهائل ؛ كما نمر على مشاهد السماوات والأرض ذاتها بمثل هذه البلادة ، لا نقف أمامها إلا قليلاً . ذلك أن حسنا قد تبلد ، فلم تعد تلك المشاهد توقع على أوتاره تلك الإيقاعات الموقظة الموحية ، التي توقعها على القلوب الموصولة بذكر الله ، المتيقظة لآثار يده المبدعة في هذا الوجود . وذلك أن الألفة قد أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الأولى .
ولا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء ، وأحجامها ونسبها ، ونسب الفضاء حولها ، وطرق سيرها في مداراتها ، وعلاقة بعضها ببعض في أحجامها وأوضاعها وحركاتها . . . لا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بهذا كله ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا الخلق الهائل الجميل العجيب . فحسبه إيقاع هذه المشاهد بذاتها على أوتاره . حسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء . حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء . حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق . حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء . . بل حسبه هذه الأرض وما فيها من مشاهد لا تنتهي ولا يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع والتملي . . بل حسبه زهرة واحدة لا ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها . . .
والقرآن يشير إشاراته الموحية لتدبُّر هذه الخلائق . . . الجليل منها والدقيق . . . وحسب القلب واحدة منها لإدراك عظمة فاطرها ، والتوجه إليه بالتسبيح والحمد والابتهال . .
( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) . . ( جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) . .
والحديث في هذه السورة يتردد حول الرسل والوحي وما أنزل الله من الحق . . والملائكة هم رسل الله بالوحي إلى من يختاره من عباده في الأرض . وهذه الرسالة هي أعظم شيء وأجله . ومن ثم يذكر الله الملائكة بصفتهم رسلاً عقب ذكره لخلق السماوات والأرض . وهم صلة ما بين السماء والأرض . وهم يقومون بين فاطر السماوات والأرض ، وأنبيائه ورسله إلى الخلق بأعظم وظيفة وأجلها .
ولأول مرة - فيما مر بنا من القرآن في هذه الظلال - نجد وصفاً للملائكة يختص بهيئتهم . وقد ورد وصفهم من قبل من ناحية طبيعتهم ووظيفتهم ، مثل قوله تعالى : ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون . . وقوله : إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . . أما هنا فنجد شيئاً يختص بتكوينهم الخلقي : ( أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) . . وهو وصف لا يمثلهم للتصور . لأننا لا نعرف كيف هم ولا كيف أجنحتهم هذه . ولا نملك إلا الوقوف عند هذا الوصف ، دون تصور معين له . فكل تصور قد يخطى ء . ولم يرد إلينا وصف محدد للشكل والهيئة من طريق معتمد . والذي ورد في القرآن هو هذا ؛ وهو قوله تعالى في وصف جهنم : عليها ملائكة غلاظ شداد ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . . وهو كذلك لا يحدد شكلاً ولا هيئة . والذي ورد في الأثر : " أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رأى جبريل في صورته مرتين " وفي رواية : " له ستمائة جناح " . . وهو كذلك لا يعين شكلاً ولا هيئة . فالأمر إذن مطلق . والعلم لله وحده في هذه الغيبيات .
وبمناسبة ذكر الأجنحة مثنى وثلاث ورباع . حيث لا يعرف الإنسان إلا شكل الجناحين للطائر . يذكر أن الله ( يزيد في الخلق ما يشاء ) . . فيقرر طلاقة المشيئة ، وعدم تقيدها بشكل من أشكال الخلق . . وفيما نشهده نحن ونعلمه أشكال لا تحصى من الخلق . ووراء ما نعلم أكثر وأكثر . . ( إن الله على كل شيء قدير ) . . وهذا التعقيب أوسع من سابقه وأشمل . فلا تبقى وراءه صورة لا يتناولها مدلوله ، من صور الخلق والإنشاء والتغيير والتبديل .
سميت { سورة فاطر } في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير . وسميت في صحيح البخاري وفي سنن الترمذي وفي كثير من المصاحف والتفاسير { سورة الملائكة } لا غير . وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب الإتقان .
فوجه تسميتها { سورة فاطر } أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى . ووجه تسميته { سورة الملائكة } أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى .
وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين : آية { أن الذين يتلون كتاب الله } الآية ، وآية { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } الآية ، ولم أر هذا لغيره .
وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سورة القرآن . نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم .
وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستا وأربعين ، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين .
اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية .
وعلى إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله . وإثبات البعث والدار الآخرة .
وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه .
وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم .
وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم .
والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين .
وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا .
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم ، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده .
افتتاحها ب { الحمد لله } مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها ، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة مِن خلقِهِ السماوات والأرض وأفضللِ ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإِثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذان { الحمد لله } باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة .
والفاطر : فاعل الفَطْر ، وهو الخلق ، وفيه معنى التكون سريعاً لأنه مشتق من الفطر وهو الشق ، ومنه { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } [ الشورى : 5 ] { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] . وعن ابن عباس « كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض ( أي لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتُها . وأحسب أن وصف الله ب { فاطر السماوات والأرض } مما سبق به القرآن ، وقد تقدم عند قوله تعالى { فاطر السماوات والأرض } في سورة الأنعام ( 14 ) ، وقوله : { وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض } في آخر سورة يوسف ( 101 ) فضُمَّه إلى ما هنا .
وأما { جاعل } فيطلق بمعنى مكوِّن ، وبمعنى مُصَيِّر ، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله : { رسلاً } بين أن يكون مفعولاً ثانياً ل { جاعل } أي جعل الله من الملائكة ، أي ليكونوا رسلاً منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية ، وبين أن يكون حالاً من { الملائكة } ، أي يجعل من أحوالهم أن يُرسَلوا . ولصلاحية المعنيين أُوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول { فاطر } .
وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم .
وأجري عليهم صفة أنهم رُسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة ، أي جاعلهم رسلاً منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس .
وقوله { أولي أجنحة } يجوز أن يكون حالاً من { الملائكة } ، فتكون الأجنحة ذاتيةً لهم من مقومات خلقتهم ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { رسلاً } فيكون خاصة بحالة مَرسوليتهم .
و { أجنحة } جمع جَناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإِنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعوداً ونزولاً لا يعلم كنهها إلا الله تعالى .
و { مثنى } وأخواتُه كلمات دالّة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مَثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثُلاث ورُباع . والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة ، وقيل : يجوز إلى العشرة . والمعنى : اثنين اثنين الخ . وتقدم قوله : { أن تقوموا لله مثنى وفرادى } في سورة سبأ ( 46 ) .
والمعنى : أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف ، وبعضها ثلاثةً ثلاثة ، وبعضها أربعةً أربعةً ، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح » .
ويجوز أن تكون أعداد الأجنحة متغيرة لكل ملك في أوقات متغيرة على حسب المسافات التي يؤمرون باختراقها من السماوات والأرضين . والأظهر أن الأجنحة للملائكة من أحوال التشكل الذي يتشكلون به . وفي رواية الزهري أن جبريل قال للنبيء صلى الله عليه وسلم « لو رأيت إسرافيل إنّ له لاَثنَيْ عشرَ ألفَ جناح وإن العرش لعلى كاهله » .
واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب « المقاصد » « إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة ، شأنهم الخير والطاعة ، والعلم ، والقدرة على الأعمال الشاقة ، ومسكنُهم السماوات ، وقال : هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة » . اهـ . ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات .
وعندي : أن تعريف صاحب « المقاصد » لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليطٍ في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات .
والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال : أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة ، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة ، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم ، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض .
وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورانيتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم . دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [ الأنفال : 12 ] ، وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية الكلبي ، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة في صورة « رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفَر ، ولا يَعرفه منا أحد ( أي من أهل المدينة ) حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه » الحديث ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقهم الرجل " هل تدرون من السائل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " كما في « الصحيحين » عن عمر بن الخطاب .
وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي ، وظهورهُ للنبيء صلى الله عليه وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها في غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر ، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ناساً لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم .
وجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما ذكر من صفات الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة ، فأجيب بهذا الاستئناف بأن مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا تُوقَّت .
ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه . فالمراد بالخلق : المخلوقات كُلّها ، أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خَلققٍ آخر . فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض ، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام . ويجوز أن تكون جملة { يزيد في الخلق ما يشاء } صفة ثانية للملائكة ، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل : مثنى وثلاث ورباع وأكثر ، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى { يزيد في الخلق ما يشاء } . وعليه فالمراد بالخلق ما خُلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على من لبعض آخر .
وجملة { إن الله على كل شيء قدير } تعليل لجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } ، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } [ إبراهيم : 10 ] ، فأجيبوا بقول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على ما يشاء من عباده } [ إبراهيم : 11 ] .