الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (1)

مقدمة السورة:

مدنية في قول جميعهم . نزلت في المنافقين وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعنهم فيه وفي مناكحته وغيرها . وهي ثلاث وسبعون آية . وكانت هذه السورة تعدل سورة البقرة . وكانت فيها آية الرجم : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) . ذكره أبو بكر الأنباري عن أبي بن كعب . وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا ، وأن آية الرجم رفع لفظها . وقد حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية ، فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن . قال أبو بكر : فمعنى هذا من قول أم المؤمنين عائشة : أن الله تعالى رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا .

قلت : هذا وجه من وجوه النسخ ، وقد تقدم في " البقرة " {[1]} القول فيه مستوفى والحمد لله . وروى زر قال : قال لي أبي بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قلت ثلاثا وسبعين آية ، قال : فوالذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم . أراد أبي أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن . وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة ، فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض .

قوله تعالى : " يا أيها النبي اتق الله " ضمت " أي " لأنه نداء مفرد ، والتنبيه لازم لها . و " النبي " نعت لأي عند النحويين ، إلا الأخفش فإنه يقول : إنه صلة لأي . مكي : ولا يعرف في كلام العرب اسم مفرد صلة لشيء . النحاس : وهو خطأ عند أكثر النحويين ؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة ، والاحتيال له فيما قال إنه لما كان نعتا لازما سمي صلة ، وهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها . ولا يجوز نصبه على الموضع عند أكثر النحويين . وأجازه المازني ، جعله كقولك : يا زيد الظريف ، بنصب " الظريف " على موضع زيد . مكي : وهذا نعت يستغنى عنه ، ونعت " أي " لا يستغنى عنه فلا يحسن نصبه على الموضع . وأيضا فإن نعت " أي " هو المنادى في المعنى فلا يحسن نصبه . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود : قريظة والنضير وبني قينقاع ، وقد تابعه{[12691]} ناس منهم على النفاق ، فكان يلين لهم جانبه ، ويكرم صغيرهم وكبيرهم ، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه ، وكان يسمع منهم ، فنزلت . وقيل : إنها نزلت فيما ذكر الواحدي والقشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو{[12692]} بن سفيان ، نزلوا المدينة على عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد أحد ، وقد أعطاهم النبّي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر ابن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة ، وقل إن لها شفاعة ومنعة{[12693]} لمن عبدها ، وندعك وربك . فشق على النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا . فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي في قتلهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني قد أعطيتهم الأمان ) فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة ، فنزلت الآية . " يا أيها النبي اتق الله " أي خف الله . " ولا تطع الكافرين " من أهل مكة ، يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة . " والمنافقين " من أهل المدينة ، يعني عبد الله بن أبي وطعمة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فيما نهيت عنه ، ولا تمل إليهم . " إن الله كان عليما " بكفرهم " حكيما " فيما يفعل بهم . الزمخشري : وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم ، وقام معهم عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفض ذكر آلهتنا . وذكر الخبر بمعنى ما تقدم . وأن الآية نزلت في نقض العهد ونبذ الموادعة . " ولا تطع الكافرين " من أهل مكة . " والمنافقين " من أهل المدينة فيما طلبوا إليك . وروي أن أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم ، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته ، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع ، فنزلت . النحاس : ودل بقوله " إن الله كان عليما حكيما " على أنه كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام ، أي لو علم الله عز وجل أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه ؛ لأنه حكيم . ثم قيل : الخطاب له ولأمته .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[12691]:في ج و ك: " بايعه".
[12692]:في الأصول: "عمر".
[12693]:في أسباب النزول: " ومنفعة".
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مدنية كلها . وقد كانت تعدل سورة البقرة ؛ إذ كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه ، أو نسخ لفظه دون حكمه ، كآية الرجم " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " وقد استدل العلماء بذلك على أن الله تعالى رفع من سورة الأحزاب ما يزيد عل ما في أيدينا .

وقد روي عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي مرة . فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن . على أن سورة الأحزاب حافلة بالأحكام والمواعظ والعبر وغير ذلك من ألوان التذكير والتنبيه والتحذير والتنديد والوعيد . ويحتل الحديث عن المنافقين شطرا كبيرا من السورة . فقد آذى المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلمزون المسلمين في سلوكهم وأخلاقهم فشدد الله عليهم النكير وتوعدهم ببالغ عذابه في الدنيا والآخرة .

وفي السورة تنديد بالظهار والذين يظاهرون من نسائهم . وخصلة الظهار ابتدعها الجاهليون نكاية بالمرأة وعدوانا عليها ، فمن تلبَّس بذلك فقد احتمل زورا وعليه بذلك التوبة والكفارة .

وفي السورة ترسيخ لأحقية أولي الأرحام بالصلة والبر والعطاء . وفيها بيان بحال المسلمين في غزوة الأحزاب وقد أحاط بهم المشركون بعد أن اجتمعوا عليهم من كل مكان ، فضلا عن ممالأة أهل الكتاب للمشركين ، ونقضهم العهد مع المسلمين . إلى غير ذلك من مختلف المعاني والأحكام .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 1 ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 2 ) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }

يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتقواه وهو الخوف من جلاله العظيم وما يقتضيه ذلك من طاعة الله والتزام شرعه وأوامره ومجانبة نواهيه . وقد نهاه الله أيضا عن طاعة الكافرين والمنافقين وحذره خداعهم ومكرهم ، وما يبتغونه له من تخذيل وتثبيط ومداهنة . وقد ذكر أن هذه الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور عمرو بن سفيان ، إذ نزلوا المدينة على عبد الله بن أُبيّ ابن سلول رأس المنافقين بعد أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعُزّى ومناة ، وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها وندعك وربك ، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا : فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي في قتلهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني قد أعطيتهم الأمان " . فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة فنزلت الآية{[3687]} .

قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } إن الله لذو علم بما تكنه صدور هؤلاء الماكرين المخادعين ، وهو يعلم كذلك ما يبتغونه لك من إظهار النصيحة . وهو كذلك حكيم في تدبيره أمرك وأمر عبادك جميعا ، فاحذر هؤلاء المكذبين أن يفتنوك عن دين الله فتطريَ أصنامهم وآلهتهم المصطنعة ، وتطرد المؤمنين الضعفاء من عندك طمعا في مجالستهم لك .


[3687]:أسباب النزول للنيسابوري ص 236.