سورة فاطر مكية وآياتها خمس وأربعون
هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها . أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد . فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها . إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزاً ، وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود ، وروعة هذا الكون ؛ وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه ، المتناثرة في صفحاته ؛ وليتذكر آلاء الله ، ويشعر برحمته ورعايته ؛ وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة ؛ وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله ، وآثار يده في أطواء الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي حياة البشر ، وفي أحداث التاريخ . وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة . . . ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك ، ويتأثر تأثر الأحياء .
والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات . يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات فهي كلها موضوع واحد . كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري ، تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث . فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع ، إلى الإيمان والخشوع والإذعان .
والسمة البارزة الملحوظة في هذه الإيقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة . وإظهار هذه اليدتحرك الخيوط كلها وتجمعها ؛ وتقبضها وتبسطها ، وتشدها وترخيها . بلا معقب ولا شريك ولا ظهير .
ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة ، وتطرد إلى ختامها . .
هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع . يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ) . .
وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض ، وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض . بلا معقب ولا شريك :
( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم ) . .
والهدى والضلال رحمة تتدفق أو تغيض : ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) . . ( إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير ) . .
وهذه اليد تصنع الحياة الأولى وتنشر الموتى في الحياة الآخرة : ( والله الذي أرسل الرياح ، فتثير سحاباً ، فسقناه إلى بلد ميت ، فأحيينا به الأرض بعد موتها . كذلك النشور ) . .
والعزة كلها لله ومنه وحده تستمد : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ) . .
والخلق والتكوين والنسل والأجل خيوطها كلها في تلك اليد لا تند عنها : ( والله خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم جعلكم أزواجاً . وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) :
وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والأرض وحركات الكواكب والأفلاك ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ذلكم الله ربكم له الملك . والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . .
ويد الله المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة ، وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والإنسان :
( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ) .
وهذه اليد تنقل خطى البشر ، وتورث الجيل الجيل : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) . . ( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) . .
وهي تمسك بهذا الكون الهائل تحفظه من الزوال . ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) . .
وهي القابضة على أزمة الأمور لا يعجزها شيء على الإطلاق : ( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) . .
وهو ( على كل شيء قدير ) . . وهو ( العزيز الحكيم ) . . ( وإلى الله ترجع الأمور )وهو ( عليم بما يصنعون ) . . ( وله الملك ) . . وهو ( الغني الحميد ) . . ( وإلى الله المصير ) . . وهو ( عزيز غفور ) . . وهو ( غفور شكور ) . . وإنه بعباده ( لخبير بصير ) . . وهو ( عالم غيب السماوات والأرض ) . . وهو ( عليم بذات الصدور ) . . وكان ( حليماً غفوراً ) . . وكان ( عليماً قديراً ) . . وكان ( بعباده بصيراً ) . .
ومن تلك الآيات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة ، والسمة الغالبة عليها ، والظل الذي تلقيه في النفس على وجه العموم .
ونظراً لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها . وإلا فهي شوط واحد متصل الإيقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها . . .
( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء ، إن الله على كل شيء قدير ) . .
تبدأ السورة بتقديم الحمد لله . فهي سورة قوامها توجيه القلب إلى الله ، وإيقاظه لرؤية آلائه ، واستشعار رحمته وفضله ، وتملي بدائع صنعه في خلقه ، وامتلاء الحس بهذه البدائع ، وفيضه بالتسبيح والحمد والابتهال :
ويتلو حمد الله ذكر صفته الدالة على الخلق والإبداع :
فهو منشىء هذه الخلائق الهائلة التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا حيث كنا ، والتي لا نعرف إلا القليل عن أصغرها وأقربها إلينا . . أمنا الأرض . . والتي ينتظمها ناموس واحد يحفظها في تناسق وتوافق ، على ما بينها من أبعاد هائلة لا يتصورها خيالنا البشري إلا بمشقة عظيمة ؛ والتي تحوي - مع ضخامتها وتباعد أفلاكها ومداراتها - من أسرار التناسب فيما بينها ما لو اختلت فيه نسبة صغيرة لتحطمت كلها وتناثرت بدداً .
وإننا لنمر على مثل هذه الإشارة في القرآن الكريم إلى خلق السماوات والأرض ، دون أن نقف أمامها طويلاً لنتدبر مدلولها الهائل ؛ كما نمر على مشاهد السماوات والأرض ذاتها بمثل هذه البلادة ، لا نقف أمامها إلا قليلاً . ذلك أن حسنا قد تبلد ، فلم تعد تلك المشاهد توقع على أوتاره تلك الإيقاعات الموقظة الموحية ، التي توقعها على القلوب الموصولة بذكر الله ، المتيقظة لآثار يده المبدعة في هذا الوجود . وذلك أن الألفة قد أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الأولى .
ولا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء ، وأحجامها ونسبها ، ونسب الفضاء حولها ، وطرق سيرها في مداراتها ، وعلاقة بعضها ببعض في أحجامها وأوضاعها وحركاتها . . . لا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بهذا كله ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا الخلق الهائل الجميل العجيب . فحسبه إيقاع هذه المشاهد بذاتها على أوتاره . حسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء . حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء . حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق . حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء . . بل حسبه هذه الأرض وما فيها من مشاهد لا تنتهي ولا يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع والتملي . . بل حسبه زهرة واحدة لا ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها . . .
والقرآن يشير إشاراته الموحية لتدبُّر هذه الخلائق . . . الجليل منها والدقيق . . . وحسب القلب واحدة منها لإدراك عظمة فاطرها ، والتوجه إليه بالتسبيح والحمد والابتهال . .
( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) . . ( جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) . .
والحديث في هذه السورة يتردد حول الرسل والوحي وما أنزل الله من الحق . . والملائكة هم رسل الله بالوحي إلى من يختاره من عباده في الأرض . وهذه الرسالة هي أعظم شيء وأجله . ومن ثم يذكر الله الملائكة بصفتهم رسلاً عقب ذكره لخلق السماوات والأرض . وهم صلة ما بين السماء والأرض . وهم يقومون بين فاطر السماوات والأرض ، وأنبيائه ورسله إلى الخلق بأعظم وظيفة وأجلها .
ولأول مرة - فيما مر بنا من القرآن في هذه الظلال - نجد وصفاً للملائكة يختص بهيئتهم . وقد ورد وصفهم من قبل من ناحية طبيعتهم ووظيفتهم ، مثل قوله تعالى : ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون . . وقوله : إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . . أما هنا فنجد شيئاً يختص بتكوينهم الخلقي : ( أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) . . وهو وصف لا يمثلهم للتصور . لأننا لا نعرف كيف هم ولا كيف أجنحتهم هذه . ولا نملك إلا الوقوف عند هذا الوصف ، دون تصور معين له . فكل تصور قد يخطى ء . ولم يرد إلينا وصف محدد للشكل والهيئة من طريق معتمد . والذي ورد في القرآن هو هذا ؛ وهو قوله تعالى في وصف جهنم : عليها ملائكة غلاظ شداد ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . . وهو كذلك لا يحدد شكلاً ولا هيئة . والذي ورد في الأثر : " أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رأى جبريل في صورته مرتين " وفي رواية : " له ستمائة جناح " . . وهو كذلك لا يعين شكلاً ولا هيئة . فالأمر إذن مطلق . والعلم لله وحده في هذه الغيبيات .
وبمناسبة ذكر الأجنحة مثنى وثلاث ورباع . حيث لا يعرف الإنسان إلا شكل الجناحين للطائر . يذكر أن الله ( يزيد في الخلق ما يشاء ) . . فيقرر طلاقة المشيئة ، وعدم تقيدها بشكل من أشكال الخلق . . وفيما نشهده نحن ونعلمه أشكال لا تحصى من الخلق . ووراء ما نعلم أكثر وأكثر . . ( إن الله على كل شيء قدير ) . . وهذا التعقيب أوسع من سابقه وأشمل . فلا تبقى وراءه صورة لا يتناولها مدلوله ، من صور الخلق والإنشاء والتغيير والتبديل .
{ الحمد لله } : أي قولوا الحمد لله فإنه واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد .
{ فاطر السموات والأرض } : أي خالقهما على غير مثال سابق .
{ جاعل الملائكة رسلا } : أي جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل عليه السلام .
{ أولى أجنحة } : أي ذوى أجنحة جمع جناح كجناح الطائر .
{ يزيد في الخلق ما يشاء } : أي يزيد على الثلاثة ما يشاء فإن لجبريل ستمائة جناح .
قوله تعالى { الحمد لله فاطر السموات والأرض } أي الشكر الكامل والحمد التام لله استحقاقاً ، والكلام خَرَجَ مَخْرج الخبر ومعناه الإِنشاء أي قولوا الحمد لله . واشكروه كما هو أيضاً إخبار منه تعالى بأن الحمد له ولا مستحقه غيره ومقتضى حمده . فطره السموات والأرض أي خلقه لهما على غير مثال سابق ولا نموذج حاكاه في خلقهما . وجعله الملائكة رسلاً إلى الأنبياء وإلى من يشاء من عباده بالإِلهام والرؤيا الصالحة . وقوله { أولي أجنحة } صفة للملائكة أي أصحاب أجنحة مثنى أي اثنين اثنين ، وثلاث أي ثلاثة ثلاثة ورباع أي أربعة أربعة . وقوله { يزيد في الخلق } أي خلق الأجنحة ما يشاء فقد خلق لجبريل عليه السلام ستمائة جناح كما أخبر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح ويزيد في خلق ما يشاء من مخلوقاته وهو على كل شيء قدير .
- وجوب حمد الله تعالى وشكره على إنعامه .
- تقرير الرسالة والنبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم بإخباره أنه جاعل الملائكة رسلاً .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يمدح الله تعالى نفسه الكريمة المقدسة ، على خلقه السماوات والأرض ، وما اشتملتا عليه من المخلوقات ، لأن ذلك دليل على كمال قدرته ، وسعة ملكه ، وعموم رحمته ، وبديع حكمته ، وإحاطة علمه .
ولما ذكر الخلق ، ذكر بعده ما يتضمن الأمر ، وهو : أنه { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا } في تدبير أوامره القدرية ، ووسائط بينه وبين خلقه ، في تبليغ أوامره الدينية .
وفي ذكره أنه جعل الملائكة رسلا ، ولم يستثن منهم أحدا ، دليل على كمال طاعتهم لربهم وانقيادهم لأمره ، كما قال تعالى : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
ولما كانت الملائكة مدبرات بإذن اللّه ، ما جعلهم اللّه موكلين فيه ، ذكر قوتهم على ذلك وسرعة سيرهم ، بأن جعلهم { أُولِي أَجْنِحَةٍ } تطير بها ، فتسرع بتنفيذ ما أمرت به . { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي : منهم من له جناحان وثلاثة وأربعة ، بحسب ما اقتضته حكمته .
{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } أي : يزيد بعض مخلوقاته على بعض ، في صفة خلقها ، وفي القوة ، وفي الحسن ، وفي زيادة الأعضاء المعهودة ، وفي حسن الأصوات ، ولذة النغمات .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته تعالى تأتي على ما يشاؤه ، ولا يستعصي عليها شيء ، ومن ذلك ، زيادة مخلوقاته بعضها على بعض .